تخليص وتلخيص (١)
ثقافة الفرد الواحد، وثقافة الشعب الواحد، وثقافة العصر الواحد؛ ليست بالكائن البسيط الذي تستطيع أن تُشير إليه بإصبعك لمن تُحدثه، قائلًا له: تلك هي ثقافة هذا الفرد من الناس، أو ثقافة هذا الشعب، أو ثقافة هذا العصر، بل هي أشبه بنسيج تشابكَت خيوطه وتقاطعت وتلاحمت، حتى ليتعذَّر على من اضطلع بتحليلها إلى عناصرها أن يُميز بين خيوطها خيطًا خيطًا، وإذا فرضنا أن مثل ذلك التحليل قد وَجَد من القادرين قادرًا قد استطاعه؛ فإنه بقدْر ما استطاع أن يُحققه من فكِّ الخيوط ليُميزها خيطًا من خيط، يكون قد بعُد ما أصبح بين يدَيه من أجزاء عن «الثقافة» التي لا يتوافر لها كيانها إلا وهي منسوجة الخيوط في حياةٍ موحدة، كما تتوحَّد الخيوط في الثوب! فإذا كنا قد جعلنا الثقافة العربية موضوعًا لأحاديثنا المتفرقة، وتناولناها من أطرافٍ متعددة، فما كان ذلك إلا كما يكون الأمر في كل بحث عن حقائق الأشياء؛ إذ لا بدَّ في كل حالة من تلك الحالات أن يُحلَّل الشيء المدروس إلى عناصره التي يتألف منها، ما استطاع الباحث أن يبلغ من هذا التحليل، حتى إذا ما عاد إلى تركيب العناصر ليعود الشيء المدروس إلى تركيبته التي كان عليها، كان ضوء العلم قد أضاء دخيلته وحقيقته أمام كل ذي بصر أراد أن يرى ليعلم، فنحن إذ نشرب الماء لا نُبالي أبسيط ذلك الماء أم مُركب؟ إلى أن يهمَّ رجل من رجال العلم، فيُسلط عليه أشعة البحث، فإذا الماء مُركب من عنصرَين تفاعلًا واندمجا فأصبحا قطرة ماء، فتسألني: وماذا كسبناه من ذلك التحليل ما دام الماء في أفواهنا هو الماء قبل التحليل وبعده؟! والجواب هو أن ذلك الماء الذي تشربه، لو كان ملوثًا بما ليس من طبيعته؛ لما أدركت تلوُّثه حقَّ الإدراك، إلا بعد أن تكون قد تحقَّقتَ من العناصر التي يتركَّب منها الماء الخالص، وعندئذٍ يُصبح في مُستطاعك أن تُحدد الشوائب التي أُضيفت فتزيلها.
وهكذا قُل في الحياة الثقافية للفرد، أو للشعب، أو للعصر، فإذا ظلَّ الناس يتنفَّسون تلك الحياة شهيقًا وزفيرًا، دون أن يكونوا على علمٍ بحقيقة ما يتنفَّسونه من حيث عناصره التي دخلت في تركيبه؛ لما استطاعوا قطُّ أن يعرفوا مواضع الضعف من تلك الحياة ليُعالجوها أو ليبتروها، وهنا يلزم التنبيه على أنَّ ما قد أصبح موضع ضعفٍ في ثقافة ما، ربما كان هو هو نفسه الذي كان يومًا مصدر قوة، ثم تغيَّرت عليه الظروف فأصبح مرضًا بعد أن كان عافية، إنك لا تؤاخِذ الطفل على قضاء يومه في اللعب، بل إنك لتحضُّه عليه إذا تراخى فيه وأهمله؛ لأنك تعلم أن اللعب للطفل وسيلة تنمو بها قدراته، حتى إذا ما كبر طفلك وبات شابًّا، ثم رأيته يواصل حياة الطفولة، بأن يجعل من اللعب مَشغلته طول يومه، أخذك القلق وعملتَ على تقويمه وعلاجه.
وماذا يكون المعيار الذي نعلم به أن ثقافةً ما قد دبَّ فيها خلل في موضع من نسيجها أو في أكثر من موضع؟ إن هذا المعيار المنشود بسيط وواضح، أشد ما تكون معايير الظواهر بساطةً ووضوحًا، ألا وهو مدى لياقته لظروف الحياة القائمة! ومعنى «اللياقة» هنا هو القدرة على تسخير الأشياء والمواقف والأحداث، تسخيرًا يجعلها مطيةً لنا، نبلغ بها منازل العلم، والقوة، والثراء والكرامة، والحرية … إلى آخر تلك الغايات التي ينشدها كل إنسانٍ مُعافى، ولا يغفُل عن طلبها إلا إنسان مريض؛ فثقافة الفرد من الناس، أو الشعب من الشعوب، أو العصر من العصور، إنما يُراد لها أن تكون أداةً لبلوغ ما كان في المُستطاع بلوغه من درجات الصعود، فإذا وجدتَ إنسانًا تتعثَّر خطاه، ويأخذه اضطراب وربكة، إذ هو في موقفٍ مُعين؛ فاعلم أن «ثقافته» التي تراكمت فيه قطراتها قطرة قطرة من حيث يدري ولا يدري لم تكن هي الثقافة التي تُعِدُّ صاحبها لمثل ذلك الموقف؛ فثقافة الفرد من الناس، أو الشعب من الشعوب. هي كالدفَّة من السفينة، إذا غابت فقد تسبح السفينة على سطح الماء كما يشاء لها تيار الماء واتجاه الريح، وليس كما يشاء لها صاحبها وراكبها، وإنها لصورة مألوفة لنا، نتفكَّه بها في أحاديثنا، ونُمثلها على مسارحنا، وهي أن نضع إنسانًا في غير مألوفِهِ لنرى ربكته، كأن نضع ريفيًّا في مدينة، بل نتخيَّر له من المدينة أسرةً مُرهفة التحضُّر في مسالكها، وعندئذٍ نرى كيف يتخبَّط الريفي في معالجته للأشياء من حوله، وفي ردود أفعاله للمواقف التي تنشأ له وهو لم يألف أشباهًا لها، فنراه عندئذٍ لا يتحرك حركة، ولا ينطق بكلمة، إلا وجد الحركة في غير سبيلها، والكلمة في غير سياقها؛ وإذا هو بهذا كله قد أصبح هدفًا للنكات الساخرة، وباعثًا على الضحك.
وليس الفارق بعيدًا بين ذلك الريفي البريء وهو في مُحيطٍ لم يُعَدَّ بثقافة تُهيِّئه للعيش فيه عيش صاحب الدار في داره، يعرف كيف يتحرك في غُرَفِها وأبهائها، وكيف يستخدم كل ما فيها من الأدوات وقطع الأثاث، أقول إن الفارق ليس بعيدًا بين ذلك الريفي وهو في غير محيطه، وبين شعب أهمل نفسه حتى تخلف عن ركب الحياة، فإذا اضطرته ظروف حياته أن يُوضَع في المواضع التي تقدَّمت من ركب الحضارة، أدرك كم هو أعزل من «ثقافة» تُمكنه من مواجهة محيطه مواجهة القوى القادر، وإن المسافة الحضارية بينه وبين طليعة الركب؛ لتتبين له ليعرف كم هي بعيدة، كلما نشأ بينهما موقف للتصادم، كحربٍ تشتعل فلا تكاد تقوم أول شرارة منها حتى يظفر بالنصر ذلك الذي وجَّه دراسته نحو العلم الصحيح، الذي يُخرِج به أسلحة الحرب جنبًا إلى جنب مع ما يخرجه من آلات المصانع، أو أن ينشأ بينهما تنافس اقتصادي في أي صورة من صوره فإذا بذلك الذي أهمل نفسه حتى تخلف عن الركب؛ يرى بعينَيه كم يجهل هو وكم يعلم منافسوه!
واضح لنا — إذن — أن علامة «الثقافة» الصحيحة هي قُدرتها على أن تكون أداةً لحياةٍ قوية مزدهرة قادرة على أن تكون لها الهيمنة في الظروف المحيطة بها. وبهذه الدرجة نفسها من الوضوح نقول عن «الثقافة» المُعافاة، إنها هي التي لا تتجمَّد عروقها حتى يُشلَّ حاملها أو يموت بتصلُّب الشرايين؛ ففي الثقافة الصحيحة مرونة تتكيَّف بها كلما تغيرت من حولها ظروف الحياة، ولو كانت تلك الظروف المُستحدَثة هي مما ينحدِر بالإنسان إلى مهاوي الضعف والجهل والفقر؛ لقُلنا عن الثقافة الصحيحة إنها هي التي تُقاوِم تلك الظروف المُستحدثة، ولكن ماذا لو كان المُستحدَث عاملًا على زيادة في العلم وفي القدرة وفي الارتفاع بمنزلة الإنسان ارتفاعًا يُقربه مما أراده له خالقه سبحانه وتعالى من كرامة وتكريم؟ من هنا وجب على الثقافة الصحيحة أن تجيء وفي أصلابها دوافع تدفع حامليها على تقبُّل التغيير، كلما ضاقت أثوابهم الحضارية عن أبدانهم؛ فليس يُراد لصاحب ثقافة ما أن يكون عبدًا لثقافته تلك، يحرسها لتدوم على حالها حتى إن دبَّ فيها الضعف والمرض، بل يُراد للمثقف ثقافةً مُعينة أن يكون منها ما يكون الإنسان من أدوات عيشه، يُبدلها بما هو أصلح، إذا تغيرت الظروف وظهر فيها ذلك الأصلح.
وما التغيير الذي نطلبه؟ ما البوصلة التي تُبيِّن لنا الاتجاه الصحيح حتى لا نضلَّ الطريق ونحن في مُحيط الماء أو في فلاة من الصحراء؟ إننا إذا تأمَّلنا حياة الإنسان الثقافية بصفةٍ عامة، وعلى امتداد تاريخها وعرَّيناها عن تفصيلاتها الكثيرة لنخلُص إلى هيكلها المجرد؛ وجدنا ذلك الهيكل وكأنه مؤلَّف أساسًا من سماء وأرض وبينهما إنسان، والسماء هنا رمز نرمز به للدين، والأرض رمز نرمز به للكون الطبيعي الذي في رحابه يقضي الإنسان حياته منذ يُولَد إلى أن يموت، وأما الإنسان ففي فطرته ما يتجانس به مع مادة هذا الكون؛ لأن له جسدًا خُلِق من طينة الأرض! وكذلك في فطرته ما يسمو به إلى شفافية الملائكة؛ لأن له روحًا إذا آمنت بالله حق الإيمان كانت كمن نفض عن نفسه ثقل المادة وكثافتها وظلامها، وعلى هذا الهيكل جاءت العصور الثقافية؛ فعصرًا يكون المثل الأعلى للإنسان في حياته هو أن يزدري الأرض ويعفَّ عنها؛ أملًا في حياة آخرة فيها نعيم الخلد مَرضيًّا عنه عند ربه، لكنه إذا ازدرى الأرض فقد ضاعت من يدَيه العلوم ومعها معرفته بأسرار الكون، وضاعت الدوافع الحضارية كلها؛ إذ لا يكون ارتقاء الإنسان عندئذٍ مرهونًا بارتقاء حضارته، بل يكون الارتقاء مُعتمدًا على العبادة والزهد في الحياة الدنيا بكل ما فيها، لكن عصرًا آخر قد يجيء وإذا بالمثل الأعلى يتغير محوره؛ فبعد أن كان تطلُّعًا من الإنسان إلى السماء عابدًا وزاهدًا، يُصبح وعيناه مع قدمَيه على هذه الأرض، يحرثها ويزرعها، ويستخرج معادنها من بطنها، ويُقيم المدن وتعجُّ به الحياة حركةً وصناعةً وحروبًا وسعيًا إلى القوة بشتَّى صورها.
ولقد خُيل للإنسان أن المناخ الثقافي الذي يسود هذا العصر أو ذاك لا يخلو أن يكون على إحدى الصورتين: فإما هو مناخ صَلُح بالتقوى وبالتجرُّد من شواغل الدنيا، وإما هو مناخ تشغَلُه الدنيا عن الآخرة. واصطلح الناس على أن يصِفوا الصورة الأولى ﺑ «الروحانية»، وأن يصِفوا الصورة الثانية ﺑ «المادية»، والسعيد من الناس هو من وفَّقه الله إلى رؤية أخرى تكاد تفرض نفسها فرضًا لبداهتها، وهي أن يجمع الإنسان بين دِين ودُنيا، وليس هذا الجمع — بالنسبة للمُسلم على الأقل — جمعًا بين ضدَّين لا يلتقيان بحكم طبعهما، إلا كما يتجاوز ضد مع ضدِّه دون أن يندمج فيه، بل هو جمع يجعل أحد الجانبَين سبيلًا للوصول إلى الجانب الآخر، وصولًا يُحقق الصورة الأفضل والأمثل، فعن طريق هذه الدنيا، والعلم بكائناتها وظواهرها؛ يزداد الإيمان بالله جلَّ وعلا، غزارةً وعمقًا، فإحساسك بعظمة الله إذا رأيت الضوء، أو نظام الأجرام السماوية، أو أدركتَ قوة الكهرباء؛ يزداد إذا عرفت من هذه المخلوقات كلها تفصيلات وجودها، وقوانين سلوكها حين يتفاعل بعضها مع بعض، إن إيمان المؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى وأحديَّته؛ يَقوى ويُبصر إذا عرف الدارس عن طريق «العلوم» كيف تتألف كائنات هذا الكون، فيكمِل بعضها بعضًا، حتى لكأن الكون على سَعته الواسعة وكثرة كائناته وتعدُّد قواه؛ كائن واحد مُوحد الأعضاء مُتكامل الوظائف، وحتى لكأنه كذلك بمنزلة مخلوقٍ عاقل، جسده هو مادته التي نراها، وعقله هو نظامه في كل جزئيةٍ منه، ثم في مجموعِه نظام مَكَّنَنا عن طريق «العلوم» أن نستخرج «القوانين» العلمية التي على سننِها تسلك العناصر وتتفاعل. وماذا يكون هذا الموقف الثقافي من الدنيا والدين الذي يجعل العلم بالدنيا سبيلًا إلى عُمق الإيمان الديني؟ إذا لم يكن هو الموقف الذي ينبغي لنا بأن نجعل منه مثَلَنا الأعلى في حياتنا الثقافية حين ننشط فيها أفرادًا وشعبًا، وحين نُخطط لها، وحين نبثُّها بثًّا في نفوس الناشئة ونحن نتولاهم بالتربية وبالتعليم في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا!
وقريب جدًّا من الهيكل الذي صوَّرنا به أنماط الحياة الثقافية، في مختلف الشعوب ومختلف العصور، تصوير آخر ربما ازدَدْنا به فهمًا للمعنى المقصود؛ فمن ينظر إلى التاريخ الثقافي بمختلف مراحله نظرةً يغوص بها تحت السطح وصولًا إلى أعمق الجذور؛ وجد ثلاثة محاور قوامها أفكار كبرى ثلاث، هي التي كانت في جميع الثقافات، بمنزلة الأنوال التي تُنسَج عليها حياة الناس الثقافية بكل تفصيلاتها، لم يختلف في ذلك شعب عن شعب، أو عصر عن عصر، وتلك المحاور الثلاثة، هي: الله، والكون، والإنسان، وفيها ينشأ الدين والعلم ونوازع الإنسان التي تدفعه هنا تارةً وهناك طورًا، فإذا كنا نتعقَّب ثقافات الشعوب وثقافات العصور، فنلحظ بينها اختلافات تُميز بعضها من بعض؛ فإنما ذلك يرجع إلى اختلاف الترتيب الذي تجيء به تلك المحاور في فعلها وتأثيرها، فقد يكون الدين تارةً هو نقطة البدء، وعليه يترتَّب النشاط العلمي، وما يتَّصل به من اهتمامات عملية، وكان هذا الترتيب هو الذي يخلع على حياة الإنسان صورتها العامة، فإذا كان الترتيب على عكس ذلك، بأن تكون الأولوية في اهتمامات الناس إلى العلم بالكون وظواهره وإلى شئون الحياة العملية بناءً على ذلك العلم؛ جاء الدين وقد ازداد في نفوس الناس نورًا على نور، ففرَّق بين من يأخذ عقيدته الدينية إيمانًا لا يصحبه فهم لحقيقة ما آمن به، وبين أن يستعين المؤمن بعِلمه بسرِّ الكون وعظمته، في إدراكه لعظمة الخالق جلَّت قدرته، وربما كان ذلك جانبًا من جوانب المعنى في قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، فمن يعلم عظمة الكون، عن طريق دراساته العلمية لظواهر هذا الكون وقوانينها، هو أعرف بجلال الله وعلمه وقدرته، ممن لا يعلم.
فالشعوب تختلف في مناخها الثقافي، والعصور تختلف في ذلك المناخ، باختلافها في تحديدها للفكرة التي تُوضَع موضع الأساس من البناء، بحيث تجيء الأفكار الأخرى فروعًا تستمدُّ منها القوة والثراء، وذلك رغم اتفاق الجميع على المحاور الأساسية التي عليها يُقام البناء، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الذي تُوجِبه ثقافة عصرِنا في هذا الصدد؛ هو أن نجعل الدراسة الدينية تُبنى، في بعض وجوهها، على العلوم الكاشفة عن قوانين الكون ونظامه، وذلك لا ينفي أن تبدأ مع الطفل بتلقينه العقيدة وأركان العبادة، إيمانًا لا يشترط فيه السؤال: لماذا؟ وكيف؟ حتى إذا ما شبَّ ذلك الطفل، مراهقًا، فشابًّا، وحصَّل ما حصَّله من علوم؛ عُدنا به إلى إيمانه بما كان قد آمن به، ليعيد فيه النظر مُستعينًا بما قد حصَّله من علوم.
وانظر في ضوء ما ذكرناه، إلى الواقع الفعلي في حياتنا الثقافية، تلحظ ثلاثة أنماطٍ أساسية، يختلف بعضها عن بعض، ثم تجيء بينها درجات مُتدرِّجة، تأخذ من هذا النمط شيئًا، فهناك جماعة حصَّلت علوم الدين من كتب الدين، ولا شيء أكثر من ذلك؛ فألمَّت بمحتوى تلك الكتب إلمامًا لا يترك كبيرة ولا صغيرة مما ذُكر فيها، بل إنها لتسوِّي بين الكبيرة والصغيرة؛ فيختلط عندها ما هو أهمُّ بما هو مُهم وبما هو قليل الأهمية، وهنالك جماعة أخرى تقع من الجماعة الأولى موقع الضدِّ من ضده، وهي جماعة درست العلوم الدارسة لظواهر الكون، ولم تقرأ شيئًا، ولم تسمع شيئًا عما ورد في كتب الدين، فإذا كانت الجماعة الأولى قد حفظت الدين نصوصًا وردَت في كتب، ولم تتزوَّد بعلوم العالَم لتُضيف إلى تلك النصوص المحفوظة أبعادًا وأعماقًا؛ فإن الجماعة الثانية قد اقتصرت على علوم العالَم، لتُطبقها على هذا العالم في ظواهره، دون أن تنقل ضوءها إلى نصوص الدين، وبين الجماعتَين جماعة ثالثة، قليلة العدد، استطاعت أن تقف الوقفة الصحيحة؛ فنظرت إلى نصوص الدين من مناظير العلوم، ففتح الله عليها برؤية مُضيئة بعيدة الآماد، واسعة الآفاق، فلو أن رؤيتها تلك، قد أُتيح لها أن تتَّسِع لتكون هي طابعنا الثقافي العام؛ لجاءت حياتنا اليوم على خير ما نتمنَّى، لكن الله لم يُرد لنا مثل هذا التوفيق.
وإن هذا لينقلنا إلى ما كان ينبغي لنا أن نستهدفه بجدية وعزيمة مُصمِّمة على بلوغ الهدف المنشود، منذ بزغت شمس نهضتنا الحديثة في أوائل القرن الماضي، وإلى يومِنا هذا، وهو أن نعمل على نسْج حياة ثقافية جديدة، فيها من هويتنا القومية التاريخية معالمها الجوهرية، التي هي روح التديُّن أولًا، والتكافل الأسري على نطاق الأسرة الصغيرة، وعلى نطاق الأسرة الكبيرة، التي هي الأمَّة بأسرِها، في آنٍ واحد، ثم حرارة الانتماء إلى الوطن، أرضًا وشعبًا وثقافةً، ومع تلك المعالم الرئيسية تندمج صفات أُخرى نستمدُّها من عصرنا، وأهمُّها علوم هذا العالم، وهي العلوم التي أشرْنا إليها، وقُلنا باكتسابها، يُمكن النظر إلى نصوص الدين، فإذا هذه النصوص تُضاء بضوءٍ جديد، ويظهر من مضامينها ما لم يكن قد ظهر، وتلك هي الدعوة إلى الأصالة والمُعاصرة معًا، وهي دعوة ما فتئت تتردَّد إلى أقلام الرواد، منذ الطهطاوي وحتى يومِنا الراهن، لكننا نظلم أنفسنا لو زعمنا بأن الدعوة إلى الأصالة والمُعاصَرة لبثت ما يزيد على مائة وخمسين عامًا محدودةً بالحدود التي بدأت بها؛ لأنها — كأي فكرة أخرى تسري في تيار الحياة الثقافية — تنمو مع الزمن، فكل جيل يُعاود عرضها بصورة جديدة، فيها مزيد من تفصيل، ومزيد من وسائل التطبيق، وأقول ذلك تعليقًا على ما قرأته منذ قريب، لبعض أئمة حياتنا الفكرية، مُتعجِّبين كيف نظلُّ ندعو مثل هذه الدعوة وقد سبقتنا إليها أقلام في الجيل الماضي وما قبله، بل إنها دعوة — كما قالوا — ورد ذِكرها في بعض آيات الكتاب الكريم، وإننا لنسأل هؤلاء الأفاضل: وهل أفلَحْنا في تحقيق ما قاله السابقون علينا ولذلك يكون قد وجب علينا السكوت؟ أترَون أن المسألة مجرد تأدية واجب، وأن ذلك الواجب هو «فرض كفاية»، بمعنى أنه ما دام قد اضطلع به فرد، سقط عن بقية الأفراد؟ والحق أنه لا هذا ولا ذاك، وما يزال مجال القول واسعًا أمام القادرين.
على أن الذي هو جدير بالنظر حقًّا في هذا المجال، هو التأكيد بأن الدعوة في حياتنا الثقافية إلى أصالةٍ ومعاصرة معًا، هي ألا يكون المعنى المقصود مجرد الجمع بين هذَين الجانبَين في رأسٍ واحد، فإذا فتح باب التراث وجد ذلك الرأس ما يَصدمه، وإذا فتح باب المعاصرة كان عنده ما يَحكيه، كلَّا، بل المُراد إيجاد صيغةٍ عربية موحدة، تُغطي مجال الحياة الجديدة، التي هي — أو يجب أن تكون — حياة عربية وحياة مهمومة بهموم عصرِها في آنٍ واحد، وهي صيغة تحقَّقت بالفعل في أفراد، لكنها لم تُصبح بعد رؤية شعبية، بحيث تتمثَّل في كل فردٍ من أفراد الشعب، مع تفاوت الدرجات بين الأفراد، كما هي متفاوتة بالفعل في نواحٍ أخرى كثيرة. ولا أريد لهذا السياق من الحديث أن ينتهي قبل أن أُثبت دهشتي من رأيٍ نشره واحد من أصحاب الرأي فينا، يقول به عن الدعوة إلى صيغةٍ تجمع الأصالة مع المعاصرة، إنما هي دعوة رجعية؛ لأن الذي نُريده هو معاصرة فقط. سبحان الله! وما شاء الله! يا أخانا: ولماذا لم يقُل هذا القول فرنسي أو بريطاني أو روسي أو ما شئت من بلاد الله التي هي في مُقدمة العصر؟ لماذا حرص كل واحدٍ من هؤلاء على أن يكون هو العصر مع بقائه على هويته المُتميزة؟ فالفرنسي يظل فرنسيًّا بما يُميزه والبريطاني يظل بريطانيًّا بما يميزه وهكذا؟
وإن هذا ليفتح أمامنًا بابًا واسعًا يُدخلنا إلى موضوع لم يتنبَّه العالَم على أهمية النظر فيه، بمِثل ما تنبَّه على ذلك بعد الحرب العالمية الثانية حين ظفرت الشعوب بحُريتها واستقلالها، في إفريقيا وفي آسيا بصفة خاصة، وهو موضوع تعدُّد الثقافات؛ فبعد أن كان الرأي قبل ذلك، هو أن الدنيا ليس فيها ما يستحقُّ البقاء إلا ثقافة واحدة، هي ثقافة أورُبَّا في مُجمَل صورتها المُشتركة بين مختلف البلاد الأورُوبِّية، وعلى بقية العالَم أن تُحاول النقل منها، فيُصبح الفرد أو الشعب المُعين مثقفًا بمقدار ما اقترب من النموذج الأورُوبِّي، فلمَّا انتهت الحرب العالمية الثانية ودخلت الشعوب المغلوبة على أمرِها، في حياةٍ جديدة من استقلال وما يتبعه من حقوق الإنسان؛ سرعان ما شاع في الناس مبدأ جديد، هو أن لكل ثقافةٍ الحق في الوجود، مُساوية في ذلك أي ثقافة أخرى، إلا أن هذا التعدُّد الثقافي لا يغلق الأبواب دون التفاعُل بين الثقافات، وهي أبواب لبثت مفتوحةً أمام الجميع في كل مراحل التاريخ، فما الذي يوصدها اليوم في وجوه الناس؟ وبهذا التفاعل، وما يشتمل عليه من أخذ وعطاء، يمكن لأي ثقافة أن تُضيف إلى جسدها عروقًا جديدةً بمحض اختيارها، بحيث لا يكون في الأمر غزو ثقافي ولا غزاة.
إنه لا وضع لشاكٍّ ليَشُكَّ في أن الحياة الثقافية لشعب من الشعوب، تعلو وتهبط مع سائر جوانب الحياة لذلك الشعب علوًّا وهبوطًا، تلك حقيقة تلزَم لزومًا مباشرًا، من قولِنا إن ثقافة الإنسان هي مُحصلة نشأته وتربيته، بحيث تُصبح له وكأنها هي دفَّة السفينة في مسالك حياته العملية؛ فإذا اختلف الأفراد، أو اختلفت الشعوب في ردود أفعالها إزاء الحادثة المُعينة الواحدة، فذلك لأن كلًّا منهم أو منها، مُوجَّه بثقافته، ولا أظنُّنا نُخطئ إذا قُلنا إن تلك المحصلة الثقافية الموجهة لصاحبها، إنما هي جزء من الضمير؛ إذ الضمير ما هو إلا الرواسب المُضمرات في النفس، نتيجة لخبرات الإنسان التي يجمعها منذ طفولته الباكرة عما هو صواب فيُثاب أو خطأ فيُعاقب.
وإذا كان ذلك كذلك؛ كان من حقِّنا أن نستخلِص نتيجة عن الثقافة العربية، لماذا كانت حافزة إلى قوة الإيمان، وقوة العلم، وقوة السيطرة وغيرها من ضروب القوة، حين كانت الأمة العربية قوية بالنسبة إلى غيرها من الأمم، ولقد دامت لها تلك القوة — بصفة عامة — حتى القرن الخامس عشر الميلادي (التاسع الهجري)، ثم لماذا ضعُفَت تلك الثقافة من حيث ارتفاعها بحامليها، منذ ذلك الحين وإلى يومِنا هذا، وهي نفسها الفترة التي شهدت انحدار الأمة العربية في مكانتها بالنسبة إلى غيرها، وإلى شعوب أورُبَّا بصفةٍ خاصة؟ أليست العلاقة السببية واضحة في كلتا الحالتَين، بين الشعب وثقافته قوة وضعفًا؟ وإننا لنسأل هنا سؤالًا ينبعِث من هذا الذي نقوله عن ضعف الثقافة العربية في تاريخها الحديث، وهو: ما الذي تكسبه تلك الثقافة من تفاعلها مع ثقافة عصرها تفاعلًا حيًّا؟ وجواب ذلك يتضمن في ما يتضمنه نقطةً نراها ثورية وجوهرية، وهي أن علةً كبرى من العلل التي أضعفت الأمة العربية وثقافتها معًا، هي أنه أحدثت لنفسها عزلةً عن دُنيا الواقع، وتقوقعت في ماضيها الثقافي الموروث، مُكتفية به، فأدخلت نفسها بهذا في عالَمٍ من صفحات مرقومة بكلمات، والعلماء في هذه الحالة هم من حفظوا ذلك المرقوم على الورق. ولمَّا كان الواقع الصلب العنيد لا ينتمي أمام كلمات كتبها كاتبوها في كتب، بل سيحتاج إلى من يتصل به اتصالًا مباشرًا يُعالجه بما تقتضيه صلابة الحجر والحديد؛ فقد أصبحت الثقافة العربية وحاملوها غير ذوي أثرٍ في مجرى الأحداث، وركِبَت الجواد وأمسكَت بعنانه أُمَم أخرى تُقيم حياتها وعِلمها وعمَلها على أساس الوقائع المرئية المسموعة والملموسة، فكان لها العلم وكانت لها الصناعة، والقوة في الحرب، والسيادة في السلام، فإذا نحن تفاعلت ثقافتنا بثقافتهم؛ فالأرجح أن ينتقل إلينا شيء من تلك النظرة الواقعية، التي تُخرجنا من صوامع الحروف والكلمات، فنستعيد شعاعًا من مجدنا الماضي، نستعيدُه علمًا وعملًا، وريادة ومكانة، وليس جعجعةً وصخبًا يُثيران الضحك عند من أراد أن يضحك، والبكاء عند من تضطرُّه حسرته على نفسه أن يبكي.
إنه لا خوف على هويتنا من مِثل هذا التفاعل الإيجابي الحي؛ فالوَرد يظلُّ وردًا رغم ما يُدخل عليه علماء النبات من عوامل تُحدِث فيه خصائص جديدة لم تكن فيه، والجياد الكريمة تظلُّ جيادًا كريمة إذا ما أدخل علماء الحيوان تحسيناتٍ في نسلها، وقد يعجب منَّا قارئ، مُتسائلًا: أليس لدينا علماء يُتابعون العلم الجديد خطوةً خطوة؟ أليس فينا الأطباء البارِعون والمهندسون المهرة؟ أليس منا كذا؟ وأليس منا كيت؟ مما يُقرِّب الشبَهَ بيننا وبين رواد الحضارة العصرية؟ نعم لنا كل ذلك، ولكنه كله يدور بنا في وعاء من ثقافةٍ مريضة، فينتج عن هذه الازدواجية الغريبة أن تكون لنا واجهة لا تخلو من ملامح العصر، ووراء الواجهة عقول ما زالت تقتات جميع زادها بين صفحات القدماء، فأما الواجهة فنحن فيها مُقلِّدون تقليدًا ظاهرًا بغير قلب، وأما فيما وراء الواجهة فنحن فيه مُقلِّدون للسلَف بكل قلوبنا، ومن هذا كله نشأت ثقافة عربية شائهة الملامح، بردت حرارة الحياة في عروقها.