تشابُه الأجزاء ووحدة الهدف
هذا حديث عن حياة الثقافة العربية في مرحلتها الراهنة، لكنه حديث سألجأ فيه إلى الطريقة التي نسمع عنها في الحروب، وأعني طريقة الالتفاف حول العدو لمُحاصرته، حتى لا يبقى أمامه مَنفذ إلا التسليم. إني أرانا في حياتنا الثقافية نَسير سَير المُتخبط في ظلام دامس، فرأسه يخبط في الجدار مرة، وقدَمه تتعثَّر في قِطع الأثاث مرةً أخرى، وتكون الصدفة النادرة عندئذٍ، هي أن يجد نفسه أمام الباب المفتوح، فيعرف طريقَه إلى النور. لكن هذا الرأي قد لا يقع من آخرين موقع الرِّضا، أو ربما اتَّفق معي بعض هؤلاء في مُجمَل الرأي، لكنهم يرفضون أن يكون طريق النجاة هو ما أراه، وربما كانت أفضل وسيلةٍ للإقناع هي وسيلة الالتفاف الذي ينتهي إلى حصارٍ يُبرز عناصر المشكلة وحلها.
الأصل في الحياة الثقافية السويَّة، في شعب مُعين يعيش في عصرٍ مُعين، هو أن تتعدَّد القنوات، وتتنوع، لكنها برغم تعدُّدها وتنوُّعها «تتشابه» لكي تتلاقى آخِر الأمور عند هدفٍ واحد، يكون هو الهدف الذي تتَّجه إليه قلوب الناس، سواء استطاع بعضهم، أو لم يستطع بعضهم الآخر، أن يُفصحوا عما أرادوه. والقنوات المُتعددة المُتنوعة التي أشَرْنا إليها، هي العلم، والفن، والأدب، وكل ما يُمكن أن يكون هناك من وسائل التعبير، فبأي معنًى نُريد لتلك القنوات «المُختلفة» أن تجيء «مُتشابهة» إذا أردْنا أن نظفر بحياة ثقافية سوية ومُعافاة؟ وهنا نبدأ بحركة الالتفاف الأولى، بالوقوف عند «التشابُه» ومعناه.
ولو كان التشابُه المقصود تشابُهًا في الملامح الظاهرة، لَما كان في الأمر إشكال، لكن الأمر في تَشابُه القنوات الثقافية ليس كذلك، وإلَّا فكيف تتشابَهُ الملامح الظاهرة بين قانونٍ في علم النبات — مثلًا — وبين معزوفة موسيقية، أو لوحة تشكيلية، أو قصيدة من الشعر، أو رواية؟ لا بد — إذن — إذا كنا نزعم تَشابهًا بين مُتنوعاتٍ كهذه، أن نبحث له عن معنًى وراء الملامح الظاهرة، فماذا عساه أن يكون؟ … تأمَّل هذه الظواهر الطبيعية الثلاث: حجر يسقط على الأرض، دوران الأرض حول الشمس، حركة المد والجزر في مياه البحر، إنها ظواهر — كما ترى — مُختلفة أشدَّ ما يكون الاختلاف، لو كان الأمر أمر ملامح تظهر للعَين، لكنها مع ذلك متشابهة كلها فيما قد يخفى على العين، إذ هي تتشابَه في كونها حركاتٍ تحدُث بفعل جاذبية الأجسام بعضها لبعض؛ فالحجر يسقط بجذب الأرض، والأرض تدور حول الشمس بجذب الشمس، وماء البحر يتحرك مدًّا وجزرًا بجذب القمر، فالحركة في الحالات الثلاث هي من نوعٍ واحد، ومن ثم يكون ما بينها من تشابُه.
ليس المُعول في التشابُه الخفي قائمًا على التماثُل بين الملامح الظاهرة، بل هو قائم على التماثُل في «الوظيفة» أو في «الأداء» أو في «الغاية» بين الشبيهَين، ومِن هنا تكون الوردة على شجرة الورد أقرب شبهًا بالبرتقالة على شجرة البرتقال، منها بوردة صُنعت من ورق، لأنه بينما الوردة الحية والبرتقالة الحية كلتاهما تتغذَّى وترتوي وتنمو، وبذلك تكونان معًا في تيار الحياة، مُحقِّقَين للحياة غايتها، تقع وردة الورق في عالَم آخر، هو عالم الجماد والموات، وإدراك التشابُه الخفي قد يستعصي على غير ذوي البصائر لكنه هو التشابُه الذي نراه في كائنات الكون جميعًا، حين نُدرك واحدية الكون برغم تعدُّد كائناته وتنوعها فيما يظهر للعين، ومن هنا قال من قال: دُلَّني على من يُدرك التشابُه بين الأشياء، وأنا أتبعه تبعية التلميذ لرائده.
إن من هذه المسائل التي قد لا تخلو من صعوبة، حتى على القادرين من أهل العلم، ذلك التشابُه الذي لا بد أن يكون قائمًا بين أية فكرة وتطبيقها، كيف يكون وكيف نفهمه؟ فافرض — مثلًا — أن على ورقة أمامك رأيت العدد ٤ مكتوبًا، ثم رأيت إلى جانب الورقة أربعة أقلام، أو أربعة كتب، فأنت عندئذٍ تكون بين شبيهَين، فالرقم ٤ والكتب الأربعة بينهما ما بين فكرة وتطبيقها، ولا بد — كما قلنا — أن تكون هنالك موازاة بينهما بصورةٍ ما، وإلا لَما كانت إحداهما تجسيدًا للأخرى، ومثل هذا التشابه هو الذي يربط «العلوم» من حيث هي مجموعات من القوانين، وبين دنيا الوقائع والأحداث. وألتقي بهذا في مسألة العلاقة بين «النظرية» و«التطبيق» لأنها تنطوي على صعابٍ ليس هذا مكانًا لذكرها فضلًا عن شرحها، وحسبنا بما ذكرناه أن نكون قد صوَّرنا نوع التشابُه الخفي بين الأشياء، لأنه هو النوع الذي نُطالب بأن يكون قائمًا بين قنوات الحياة الثقافية، برغم تعدُّدها وتنوعُّها، وذلك إذا أردنا لتلك الحياة الثقافية أن تكون سوية وسليمة، فنجد تشابهًا يصل إلى حدِّ الهوية الواحدة، بين ما تقوله الموسيقى، والتصوير، والعمارة، والنحت، والشعر، والرواية، والمسرحية، والمقالة، ويضاف إلى ذلك أن نجد ذلك كله متجهًا مع روح العلم في عصره في اتجاه واحد.
تلك — إذن — كانت حركة الالتفاف الأولى حول موضوعنا، وأما الحركة الثانية فهي أن ننظر إلى «الشعب» الذي في حياته تنشأ الحياة الثقافية التي نحن الآن مَعنيون بعرضها وتحليلها، فنسأل: ماذا عساها أن تكون، تلك الروابط التي تربط كذا مليون من أفراد الناس في شعبٍ واحد؟ وهو سؤال تختلف عنه الإجابات، فقد يُقال إنه العرق المُشترك، أو يُقال إنه التاريخ المشترك، أو يُقال إنه الأرض المُشتركة، أو يُقال إنها الثقافة المشتركة، وهكذا … وبالطبع قد يكون المُشترك بين أبناء الشعب الواحد، هو كل تلك العوامل، أو بعضها، وأن الروابط لتزداد غزارة كلما كثرت الأصول المُشتركة بين أبناء الشعب الواحد، على أنَّ هناك عوامل أخرى طارئة في حياة الشعب، من شأنها — إذا ما وقعت — أن تزيد من قوة تلك الروابط كحربٍ تنشب مع عدوٍّ فيتكاتف أبناء الشعب بدرجةٍ أكبر مما يحدُث في الحياة المعتادة، أو أن تحلَّ بالبلد كارثة من كوارث الطبيعة، كالزلازل وثورات البراكين أو الأوبئة أو ما إلى ذلك، لأنه في أمثال تلك النكبات الجماعية، يغلب على الناس أن يشتركوا في «فعل» مُعين يتقاسَمونه ويتعاوَنون على أدائه، وفي هذا ما يبثُّ في الجماعة شعورًا بالوحدة، وكأن الجماعة قد أصبحت فردًا واحدًا.
إن للحياة الثقافية معنى يجعلها صفةً لا يُوصف بها الفرد الواحد، بقدر ما تُوصَف بها جماعة مُعينة من الناس، كالشعب الواحد، أو حتى كمجموعة شعوب متقاربة تتكوَّن منها قومية واحدة. وذلك لأن الحياة الثقافية مُتعدِّدة الفروع، وكأنها الفروع في جذع شجرة واحدة، وليس من الممكن لفردٍ واحد أن يجمع في شخصه كل تلك الفروع بدرجاتٍ متساوية أو متقاربة، بحيث يكون عالمًا، وفنانًا، وأديبًا، بما تشتمل عليه كل واحدة من تلك الصفات من فروع، وفروع الفروع. إذن، فالذي يحمل الحياة الثقافية المُكتملة هو شعب بأسره أو مجموعة شعوب مُوحَّدة الاتجاه والمزاج، ولقد كان الشاعر الإنجليزي المعروف «ت. س. إليوت» من أصحاب هذا الرأي. وقد فصَّله تفصيلًا في كتاب له عن الثقافة ومعناها.
إلا أن الشعب الواحد، كالشعب المصري مثلًا، أو مجموعة الشعوب المُتقاربة، كالأمة العربية بمُختلف شعوبها، إذا ما قُلنا عنها إنها موحدة الثقافة، فلسنا نعني بذلك أن جميع الأفراد مُتساوون في الأدوار التي يؤدونها في تلك الحياة، إذ إن منهم من تضطرب صدورهم بالمشاعر المُعيَّنة، أو بالاتجاهات المُعيَّنة، ولكنهم لا يملكون القدرة على الإفصاح عما شعروا به، أو عما رغبوا فيه، وهؤلاء يكونون — عادةً — سواد الشعوب، وإلى جانب هؤلاء قِلة تشعُر الشعور نفسه، وترغب الرغبة نفسها، ثم هي فوق ذلك تملك مواهب التعبير بالنغمة، أو باللون، أو بالكلمة، أو بمنهج البحث العلمي الذي يستخرج حقائق الأمور، ومُحصلة ما ينتجه هؤلاء هي الحصاد الثقافي العيني الذي يرجع إليه إذا ما أردنا الكشف عن شعبٍ مُعيَّن منعكس في ثقافته.
فنحن إذا ما أردْنا في موضوع حديثنا هذا الذي بين أيدينا، أقول إننا إذا أردْنا أن نحكُم على حياتنا الثقافية الراهنة حُكمًا منصفًا، وجب علينا أمران: أولهما: هو أن نكون على علمٍ كافٍ بما قد أنتجته تلك القلة المنتجة للحصاد الثقافي في الفترة التي نُريد الحُكم لها أو عليها، وأما الأمر الثاني فهو أن يكون لدَينا تصوُّر معقول لِما كان ينبغي أن يُحقِّقه ذلك الحصاد … لكي نقيس الأمر الواقع إلى المثال. ولكن من أين يأتينا ذلك المثال الذي نقيس عليه الأمر الواقع؟ أهو مرهون بنزوة الكاتب؟ إن السماء لا تمطر «مثالًا» يُلزمنا بكماله، ولكنه التاريخ، تاريخ الثقافات عندما تبلغ ذُراها في عصورٍ مُعيَّنة، وبلوغها تلك الذُّرى هو في ذاته حكم ثقافي يستند صوابه إلى إجماع الرأي عبر العصور، أو ما يقرُب من الإجماع، فمن الذي يُجادل في رفعة الحياة الثقافية في أثينا «بركليز» أو في بغداد «المأمون» أو في باريس «لويس الرابع عشر»؟
وهذه — إذن — حركة الالتفاف الثانية حول موضوعنا، فكما أردنا بالحركة الأولى أن نلتمس رباط «التشابُه» بالمعنى الوظيفي الذي حدَّدناه، وأعني رباط التشابُه بين قنوات الإنتاج الثقافي على تعدُّدها وتنوُّعها، قد أردنا بالحركة الثانية أن نلتمس روابط الوحدة بين أبناء الشعب الواحد، وهي وحدة تهتزُّ بها أوتار القلوب جميعًا، لكنها أوتار تهتز في صمتٍ عند الكثرة الغالبة من جمهور الناس، ويكون لها صوت مسموع عند القلة المُنتجة للحصاد الثقافي في ذلك الشعب، وننتقل الآن إلى الحركة الالتفافية الثالثة، حول موضوعنا …
وقد نجعلها الأخيرة، لنتناول بعد ذلك حصادنا في إجمال يُمكِّننا من الحُكم … وأما الحركة الثالثة التي أعنيها فهي أن أذكُر للقارئ بعض الأمثلة لعصورٍ ثقافية مضت، وربما استطعتُ أن أوضح له بالأمثلة، ما الذي يجب أن نتوقَّعه من حياةٍ ثقافية سوية ناضجة وتستحق البقاء؟
أول ما يَرِد إلى خاطري هو الثقافة التي جاءت حضارة مصر القديمة تجسيدًا لها … وإنه لمن العسير أن نتحدَّث عن عدة آلاف من السنين، وكأننا نتحدَّث عن جيلٍ واحد من الناس، أو جيلَين، ولكن هكذا صنعت بنا دراسة التاريخ على مناهج الغرب الحديث، الذي أراد لنفسه أن يكون هو «التاريخ»، وأما ما عداه فهو بالنسبة إليه كالهوامش والمُلحَقات بالنسبة إلى فنون الكتب، فترى مُؤرِّخي الغرب الحديث، بناء على تلك الرؤية الظالمة، قد قسَّموا التاريخ إلى ثلاثة أقسام: قديم، ووسيط، وحديث … ثم أوهمَهُم ذلك التقسيم أن الأقسام الثلاثة مُتعادلة في الوزن، فنسوا — وكدنا ننسى معهم — أنه بينما «الحديث» الذي هو موضع اهتمامهم، عمره أربعة قرون، فإن «القديم» يزيد عمره عن خمسين قرنًا، ولم تكن تلك القرون الخمسون كالأرض اليابِسة لا حياةَ فيها ولا ثقافة ولا حضارة، بل كانت عامرة بكل هذا، في غزارةٍ وثراءٍ يبعَثان على دهشة وذهول. ويكفي أن قد كان فيها مصر الفراعنة! … أقول: إنه على الرغم من هذا العمر الطويل لتلك الثقافة المصرية التي تجسَّدت في حضارة مصر القديمة، مما لا بد أن يكون قد جاء مُنقسمًا إلى مراحل طويلة لكل مرحلة منها خصائصها المميزة لها، فإننا بحُكم الانطباع المُبهم الذي تركته في أنفسنا دراسة التاريخ على رؤية الغرب الحديث، نتحدَّث عن ذلك التاريخ الطويل وكأنه جيلٌ واحد من الزمن أو جيلان، وبناءً على هذه النظرة الخاطفة؛ انظر إلى الآثار التي خلفتها حضارة أجدادنا، فلا يُساورني شكُّ في أن ما أراه إنما هو صورة لثقافةٍ مُوحَّدة الهدف، وبين جوانبها المختلفة رِباط «التشابُه» الخفي الذي حدثتُك عنه، وإذا قُلنا إن مثل ذلك التشابُه قائم بين التمثال المنحوت والمسلَّة والصورة على جدار المَدفن، والمعبد وكل ما تقع عليه العين من أثر … إذا قُلنا ذلك، فقد قُلنا بالتالي إن هنالك «روحًا» مشتركة عاشها القوم في حياتهم، ومن تلك الروح الواحدة انبثقت حياة ثقافية بشتى جوانبها، فكن — أيها القارئ — على أية درجةٍ شئتَ من الإلمام بالتاريخ المصري القديم … فإنك على أيِّ الحالات، إذا ما عُرضت أمامك قطعة كبيرة أو صغيرة من الفن المصري القديم فلن تُخطئ عيناك أنها كذلك، لأن روح ذلك العصر — على امتداده — روح واحدة تميز بها كل عملٍ أنتجه فنان.
وإنه ليبدو لي في وضوح، أن تلك الروح المشتركة الواحدة المسيطرة على شتى صنوف الإبداع إنما هي روح مَن أخذ حياته مأْخَذ الجد وروح من يشعُر من عُمق نفسه وقلبه وعقله بأنه ما دام قد خلقه الله إنسانًا؛ فعلى عاتقه تقع مسئولية الحياة المُنتِجة المُبدِعة، فانظر — إن شئت — إلى أي تمثال نحته أزميل فنانٍ مصري قديم، تجد الحجر ناطقًا بالرزانة والرصانة وحكمة الحياة، إنك ترى عادةً في كل تمثال، ابتسامةً خفيفة على الشفتَين، لا أقول إنها ابتسامة الساخر مِمَّن ينشغل بدُنيا الزوال عن عالَم الخُلد، بل أقول إنها ابتسامة إشفاق مِمَّن لم يُدرك لحياته واجباتها، وهي واجبات أوجبتها عقيدة دينية قبل أن تُوجِبها إرادة حاكم … قلِّب ناظرَيك فيما شئتَ أن ترى من آثار الثقافة المصرية القديمة مُجسَّدة في آثارها تجد بساطة القوة، أو قوة البساطة، فلا زخارف أكثر مما يجب، ولا زوائد ولا ثرثرة أو ما يُشبِه الثرثرة، وإنما هو حجر مُستقيم الخطوط واضحها: في الهرم، وفي المسلة، وفي عُمُد المعبد وجدرانه، وانظر إلى الرسوم فوق الجدران، ملونة أو غير ملونة تجد قوة الخط وبساطته، إنها قوة الواثق بنفسه وبساطة من لا يشعر في باطنه شعور النقص، فيُغطِّيه بزخارف فارغة … لقد أردتُ أن أقول إنها آثار تنطق بثقافةٍ تشابَهَت فيها الأجزاء، واتَّحد فيها الهدف.
وننتقل من ثقافة مصرية أصيلة أنطقت الحجر بأزميلها، إلى ثقافة عربية أصيلة، أخرجت بالقلم عبقرية الكلمة، ولنأخذ مثلًا لها تلك الذروة التي بلغتها في عصر المأمون وامتداد صداه في القرن الرابع الهجري متداخلًا في القرن الخامس «العاشر الميلادي والحادي عشر»، وإذ نلقي بأبصارنا على ذلك الامتداد الزمني نبحث عن الهدف الواحد الكبير المتضمن في النتاج الثقافي إبان تلك الفترة، متسائلين في الوقت نفسه عما إذا كانت صنوف ذلك النتاج، على تعددها وتنوعها، تتغيا ذلك الهدف، وكأن بينها اتفاقًا مضمرًا على السير معًا في موازاة بعضها مع بعض، تجاه الغاية المقصودة عن عمد أو غير عمد، وأحسب أن النظرة الفاحصة لن تجد عندئذٍ عسرًا في رؤية تلك العلامات المميزة للثقافة عندما تكون سوية ومسددة الخطى.
وفي ظني، أن مفتاح تلك الفترة التي حددناها، هو أن الوجدان العربي قد اتسعت آفاقه ليشمل «الإنسان» على إطلاقه بغير تمييز في مكان أو زمان، فنحن نعلم كيف فُتحت الأبواب والنوافذ على مصاريعها لتستقبل كل الثقافات الأخرى، من شرق ومن غرب، ثم سرعان ما نسجت الخيوط جميعًا في رقعة واحدة غير عابئة من أين جاءت لحمتها أو جاءت سداها، والمهم هو أن يجيء النسج الجديد جديدًا، مطبوعًا بطابع عربي أصيل، على أن الباحث الفاحص في خصائص تلك النظرة الموسوعية الشاملة، التي استهدفت إنسانية الإنسان بغض النظر عن الفواصل التي قد تميز شعبًا من شعب، كان محورها الداخلي هو احترام «العقل» والإيمان بقدراته ومداه، فإن شئت أن ترى هذه الخصائص العامة المجردة التي ذكرتها، لأميز بها عصر الازدهار في تاريخ الثقافة العربية، فانظر إلى طائفة من أمهات المبدعات العلمية والأدبية والفلسفية والثقافية بوجه عام، التي صدرت عن أصحابها إبان تلك الفترة، خذ الجاحظ من الثالث الهجري، والتوحيدي من الرابع الهجري، ممثلين للحركة الفكرية بصفة عامة: وخذ الفارابي وابن سينا ممثلين للفكر الفلسفي وخذ أبا الحسن الأشعري ممثلًا للمتكلمين، وخذ المتنبي وأبا العلاء ممثلين للشعر، وخذ إخوان الصفا ممثلين لحركة التنوير بصفة عامة، وعبد القاهر الجرجاني ممثلًا للنقد الأدبي … وحاول أن تستخرج الجانب المشترك في هؤلاء جميعًا، واسأل: هل لديهم هدف يشتركون فيه؟ وهل أضمر في أصلاب أعمالهم وجه للشبه بينهم؟ وأما أنا فالجواب عندي هو: نعم … كانت ثقافة هادفة، وهدفها إنسانية الإنسان كائنًا من كان، بغير تعصب ولا تمييز، وكان وجه الشبه الخفي الكامن في أعمالهم هو إكبار العقل البشري، بكل معنى تتضمنه هذه العبارة … فإذا أخذت «العقل» بمعنى الاستدلال في عالم الفكر المجرد، وجدته عند الفلاسفة وأشباههم وإذا أخذته بمعنى مراعاة الدقة الهندسية في بناء الأثر الفني أو النقدي، وجدته عند كبار الشعراء والنقاد، وإذا أخذته بمعنى التسامح في العقيدة وعدم التعصب عند أصحاب العقائد الأخرى، وجدته عند إخوان الصفا ومن سار سيرتهم … والخلاصة هي أنك واجد في ذلك العصر نموذجًا رائعًا للحياة الثقافية حين تتوافر فيها الشروط التي ذكرناها وهي أن تتشابه الأجزاء، وأن يتحد الهدف.
وإذا أردتَ مثلًا ثالثًا لعصرٍ ثقافي مُتكامل، فانظر إلى فرنسا في القرن السابع عشر، وهو الذي يُسمُّونه «عصر العقل» وقلِّب نظرك في كل ما يعنُّ لك من أوجه الحياة، تجد أثر النظرة العقلية واضحًا، فالفلسفة في ذروة العقلانية على يدَي ديكارت، والفن هو طراز «الباروك» الذي تُراعى فيه نَسَقية الإجراء، والأدب تُقام بناءاته وكأنها بناءات هندسية، كما ترى في مسرحيات «راسين» و«كورني»، وكذلك يُقال عن الموسيقى و«كاتب هذه السطور من العوام فيما يختصُّ بالجانب النظري من المُوسيقى.»
وقد يأتيني صَوت مُحتج من هنا أو من هناك قائلًا: إنك يا أخي قد وعدتَ في مُستهل حديثك أنَّ مدار حديثك هذا هو حياتنا الثقافية في الفترة الحاضرة، فما الذي يُطوِّح بنا إلى بعيدٍ فتضرب لنا الأمثلة من مصر الفرعونية ومن عرب القرن الرابع الهجري، ومن فرنسا القرن السابع عشر؟ ألا اقتربت من زماننا ليَسهُل التصوُّر والفهم؟ واستجابة لهذه الرغبة أسُوقُ مَثَلين من حياتنا الحديثة والمعاصرة: الأول هو موجة الثلث الأخير من القرن الماضي، وكان من أهم أعلامها: الشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، وقد نذكر شبلي شميل، والثاني هو فترة ما بين الحربَين العالمِيَّتَين في هذا القرن العشرين، وكان من أهم أعلامها لُطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، والدكتور هيكل، فإذا أمعنتَ النظر في الموجة الأولى ألفَيْتَ الهدف واضحًا، وهو مُواكبة العصر وما يَقتضيه من جهازٍ فكري واجتماعي: محمد عبده يدعو إلى تخليص العقيدة الإسلامية مِمَّا نَسَبَه إليها الأُمِيُّون من خرافة، وشبلي شميل يُقدِّم صورة مُتطرفة للفكر في الغرب، وما يَستتبعه من تغيير في وجهة النظر، وقاسم أمين يدعو إلى تَحرُّر المرأة من قيودٍ فُرِضت عليها؛ فحدَّت من نشاطها، فهؤلاء الأعلام — كما نرى — قد اختلفوا مزاجًا وميدانًا لكنهم تشابهوا هدفًا ومعدنًا.
وأما موجة ما بين الحربَين العالميتَين، فالمعالم فيها أوضح لقُرب عهدها، فهم بدَورهم قد اختلفوا في كثير، إلا أنهم قد اتحدوا جميعًا عند هدفٍ واحدٍ هو «التنوير» الذي يؤدي إلى تغيير وجهة النظر الراكدة، لتَتَّجِه نحو ما هو أقوى وأوسع وأكثر مُلاءمةً للعصر الذي نعيش فيه، ووجه الموازاة بينهم — مع اختلافهم في المادة والمنهج — واضحة، فكلهم ينطوي على قلقٍ من أوضاعٍ ثقافية واهية وداعية إلى القعود والخمول والتخلُّف، وكلهم يُوجِب لتلك الأوضاع أن تتغيَّر.
وبعد أن فرغنا من حركات الالتفاف حول الموضوع، مُستهدِفِين أن نضرب حوله حصارًا من تعريفاتٍ نُحدِّد بها ما نعنيه بالمفاهيم الرئيسية التي استخدمناها، وضارِبِين أمثلةً كبرى وصغرى من تاريخ الثقافة قديمًا وحديثًا، عندنا وعند غيرنا، أقول إننا بعد أن قدَّمنا هذا كله، ندعو إلى توجيه الأنظار إلى حياتنا الثقافية الراهنة، في مصر خاصة، وفي الوطن العربي عامة، لنرى من قُرب مدى نَصيبها من عوامل القوة أو الضعف، ومن أجل التحديد، نفترض أن المقصود بالمرحلة الراهنة هو الفترة التي امتدَّت من هزيمة ١٩٦٧ حتى اليوم، وسيكون مِفتاحنا في الحُكم هو نفسه المفتاح الذي استخدمناه فيما أسلفناه؛ وأعني به أن نسأل سؤالَين: أحدهما عن الهدف البعيد الواحد، أهو قائمٌ أو أم هو غائب، والثاني هو عن مقدار التشابُه الموجود بين الميادين المُختلفة من عِلم إلى فنٍّ وأدب وما يتفرَّع عنها.
ونبدأ بالسؤال الأول: أنستهدِف جميعًا هدفًا بعيدًا واحدًا؟ وإن كنَّا نفعل، فما هو ذلك الهدف المُتبقي؟ إننا لا نحتاج إلى أكثر من لفتةٍ قصيرة وسريعة، لنرى أننا — منذ الأساس — على تمزُّق بين رؤيتَين؛ سلَفية ومُستقبلية، تمزُّقًا لم نشهد له مثيلًا منذ أول نهضتنا في أوائل القرن الماضي، فالمشهود اليوم هو أكثرية غالبة تدعو إلى ارتدادٍ إلى السلف، وأقلية باتت خافتة الصوت، تُحاول أن تُذكِّر الناس بأن الله سبحانه وتعالى حين خلق للإنسان عينَيه في جبهته، أراد له أن يكون النظر مُتجهًا في الأساس إلى أمام، وأنه إذا ما اقتضت الحالُ أن يتلفت خلفه، فما ذلك إلا ليُؤمِّن خطواته السائرة إلى الأمام، خشية أن تكون وراء ظهره أخطار تُهدِّده وتُفاجئه، وإمعانًا في هذا التمزُّق الذي أصابنا من حيث وجهة السير، أراد أنصار السلفية ألا يجعلوها تفرقةً زمنية بين ماضٍ وحاضر، بل أضافوا إليها أبعادًا أخرى، كأن جعلوا الاختلاف بين الفريقَين اختلافًا بين مؤمنٍ وزنديق، لا لأنهم حقًّا يعتقدون في صدق هذه الدعوى، بل لأنهم يَعلمون أن هذه هي اللغة التي تجد طريقها إلى إفهام الجمهور، ثم لم يكفهم ذلك، فأضافوا بُعدًا آخر فيه لمسة من السياسة، إذ جعلوا الفرق بين الجماعتَين فرقًا بين من يرفض الغزو الثقافي الذي يُهدِّد هويتنا الوطنية والقومية بالدمار، وبين من يُرحِّب بذلك الغزو كأنه يُناصر الأعداء على قومه.
نعم، قد يُقال — وهو قول حق — بأن الدعوة السلفية بكل ما أُضِيف إليها من أبعاد، إنما هي أشبَهُ بالحرب الكلامية التي لا تُؤثر في شيءٍ من أسس الحياة العملية، فحتى أصحاب الدعوة أنفسهم يعيشون كما يعيش سائر الناس، من حيث الإفادة بكل ما أنتجه «الغزاة» من ثِمار العلم في إقامة البيوت والجسور ورصف الطرق وأجهزة العلاج للمرضى. ووسائل النقل، وغيرها وغيرها، والعجيب في أمرهم هو أنك إذا واجهتهم بهذه البداءة الواضحة، أجابوا بأنه ليس هذه الجوانب الحضارية ما يُريدون، وإنما هم يريدون جانب «الأفكار» كأن تلك الأفكار قد خُلقت للزينة، ولم تُخلق لتجد سبيلها إلى التجسيد فإذا بها إذا ما تجسَّدت، كانت هي آخِر الأمر ما ينعمون به من نتاجٍ حضاري يغمر حياتهم الشخصية من ألِفِها إلى يائها … ولا علينا، فالمهم في موضوعنا، هو أننا اليوم لا نلتقي على هدف، وأن اختلافنا هذا يبدأ معنا من أساس الأساس فصاعدًا، وهو اختلاف إلا يكن ذا أثرٍ إيجابي في حياتنا العملية، فلا أقل من أنه ذو أثرٍ سلبي مُميت، وذلك حين يُصيب شبابنا بضَعف الهمة وخيبة الأمل.
وأما عن السؤال الثاني … الذي نسأل به عن مدى المُوازاة بين مختلف فروع الفاعلية الثقافية بين مَن يُنتِجون لنا ثقافة، فأغلب ظنِّي أننا إذا ما دَقَّقنا النظر في ميادين الإنتاج الثقافي، فقد نجد قليلًا من تلك المُوازاة المنشودة، وأما الأكثر والأغلب فهو أنَّ كلَّ جنسٍ من الأجناس الثقافية شاطح وحدَه في وادٍ خاص به، يغلب أن يكون مُتأثرًا تأثرًا فرديًّا مع اختلاف الأفراد في مصادرهم الفكرية. ولكي أُيَسِّر عليك طريق النظر، أقترح عليك أن تنظر إلى البنيان الثقافي وكأنه عمارة ذات ثلاثة طوابق تعلو كلما ارتفعت درجة التجريد النظري في كلِّ منها، فأول الطوابق وهو الطابق اللاصق بأرض الواقع هو طابق الأدب والفن، يتلوه طابق العلوم، ويتلو هذا طابق الفكر ذي الطابع الفلسفي من حيث تجريد الأفكار وتعميمها، ولكي أُيَسِّر عليك طريق النظر مرة أخرى، أقترح عليك أن تُصوِّر تلك الطوابق الثلاثة في ثلاثة أشخاص؛ هم مثلًا؛ أديب مُعين يقرض الشعر أو يكتب الرواية، ثم ناقد مُعين يَعرِض بالنقد إنتاج ذلك الأديب، ثم رجل مُعين من رجال الفكر المائل نحو التجريد، يُوضِّح أُسس الفلسفة الجمالية التي تُحدِّد المبادئ العامة لما يجوز أن يُعَدَّ أدبًا أو فنًّا، فإذا صوَّرتَ لنفسك الموقف بهذه الصورة المُجسَّدة بَقِي عليك أن تسأل هذا السؤال: هل هناك في مناخنا الثقافي العام، ما يجعلنا نتصوَّر مُقدمًا في أي اتجاه يُبدِع الأديب العربي؟ ثم في أي اتجاهٍ يُمارس الناقد الأدبي أو الفني عمله النقدي؟ ثم هل هناك في مناخنا الثقافي العام خطوط رئيسية انتزعناها من مقومات هويتنا التاريخية ترسُم لنا الخطوط العامة للذَّوق الفني؟ إنك لن تجد إزاء هذه الأسئلة كلها، إلا اتجاهاتٍ فردية صِرف، كلٌّ يَتَّجه متأثرًا بما قرأ، مما يُؤيِّدنا في الزعم بأن حياتنا الثقافية الراهنة تفقد المُقوِّمَين للحياة السوية في هذا الصدد، فلا هي تعرف لنفسها هدفًا، ولا المشتغلون بها يتجاوبون بعضهم مع بعض في إطارٍ مشترك، بحيث تختلف وسائط الإبداع صوتًا ولونًا وكلمة، ولكن تبقى بين أيديهم معانٍ مُشتركة يعرضونها، فإذا الشعب المُتلقي قد أصبح ذا رؤية وطنية أو قومية موحدة، ومعلومة الملامح والقسمات.