تخليص وتلخيص (٢)
الفرق واضح بين مجموعة الناس في مطار، ومجموعتهم في مسرح؛ فالمجموعة الأولى، وإن تكن فكرة السفر تربطهم، فإن أهداف السفر عندهم متفرقة؛ فلا يدري أحد منهم عن أحدٍ إلى أين وجهته، وأما المجموعة الثانية، فهي وإن يكن أفرادها قد جاءوا من مصادر مُتفرقة، لا يعرف جار عن جاره شيئًا، فإنهم يتَّجهون جميعًا بأبصارهم، وعقولهم وقلوبهم إلى هدف واحد، وهو تتابُع الأحداث على خشبة المسرح؛ في المجموعة الأولى كثرة من أفراد لا يتكوَّن منهم كيان عضوي، وتعريف الكيان العضوي الذي يضمُّ عدة أعضاء مختلفة الوظائف هو أن تلك الأعضاء تتكامل بعضها مع بعض؛ كي تُحقق معًا وجودًا واحدًا، كما هي الحال في أعضاء الكائن الحي. ولأن صفة «العضوية» غائبة في المجموعة الأولى؛ فالهدف عند أحد المسافرين لا يرتبط بالضرورة بالهدف عند مسافرٍ آخر. وأما في المجموعة الثانية؛ فالمشاركة بينها في هدفٍ واحد يُصبغ عليها صفةً من صفات الكائن العضوي، وإن يكن لا يزال تنقصها صفات أخرى مما هو قائم في الكائن العضوي الذي هو في مرتبةٍ من «العضوية» أعلى، كالإنسان مثلًا في مجموعة أعضائه؛ وذلك لأن الكائن العضوي الأعلى يتميز بأن وجود عضوٍ من أعضائه مُعتمد في أدائه لوظيفته، على وجود الأعضاء الأخرى. وأما روَّاد المسرح؛ فهم رغم اتفاقهم في الهدف وفي التوجُّه نحو ذلك الهدف، فوجود أيٍّ منهم ليس متوقفًا على وجود الآخر.
وهذه المقارنة بين المجموعتَين تُصوِّر لنا فرقًا من الفروق التي تختلف بها ثقافة قد اكتملت في بنائها، والاكتمال هنا درجاته نسبية بالطبع، بالنسبة إلى ثقافة أخرى لشعبٍ آخر، انعدم فيها التوحُّد الذي يكفل لها شيئًا من صفات التكامل العضوي، أو أن ذلك التوحُّد قد ضؤل حجمُه حتى كاد ينعدم، ففي الحالة الأولى — حيث يتكامل البناء — تجد القنوات الثقافية على كثرتها وتنوُّعها قد استهدفت كلها هدفًا واحدًا مضمرًا في حياة الناس، وفي أفكارهم ومشاعرهم. وأما في الحالة الثانية — حيث التشتُّت والتنافُر — تتقاطع الأهداف، حتى ليتعذَّر على من أراد أن يعرف عن الشعب أين يتَّجه أن يتبيَّن صفةً تُحقق له ما أراد؛ لأن الحياة الثقافية في هذه الحالة تكون أقرب شيءٍ إلى برج بابل كثُرت فيه الألسنة فاستحال التفاهم.
فأول شرط يفرضه العقل لصحة الحياة الثقافية في شعبٍ مُعين، أو في عصر من عصور التاريخ؛ هو أن نجد في تلك الحياة الثقافية السليمة نقطة التقاء تكون هي الهدف المشترك الذي يسعى إليه مبدعو الثقافة على اختلاف قنواتهم؛ إنه هدف تُوحي به آمال الشعب والأمة. ولمَّا كان مُبدع الثقافة في لونٍ من ألوانها هو أحد أفراد ذلك الشعب، تميز بموهبة تُعينه على الملاحظة النافذة إلى صميم الحقائق والطبائع؛ فإنه كغيره من المواطنين يحسُّ تلك الآلام والآمال، ثم يزيد على غيره من المواطنين بالقدرة على الرؤية ثم على صياغة ما قد رآه، بالوسيط الذي هو موهوب فيه، فالألحان للمُوسيقى، والكلمات للشاعر، والألوان للمُصوِّر، وهكذا، إنه هدف لا تصدُر به الأوامر السلطانية، كلَّا، ولا هو مما يُقحَم على الناس إقحامًا؛ ولو أن قوةً خارجية أرغمت جماعة من الناس على التزام غايةٍ بعينِها، ليست هي الغاية التي تُحقق آمالها وتُعالج لها آلامها؛ لكان ذلك هو الغزو الثقافي الذي يتحدثون عنه، وموضع «الغزو» هنا هو «الإلزام» بشيءٍ مُقحَم على ما تضطرم به صدور الناس، أما أن يتولَّى المبدعون في أمة إبداع الأشكال التي يُطالعها الناس فيطالعون أمانيهم ومخاوفهم وجوانب النقص فيهم وجوانب النضج والكمال؛ فذلك هو الإبداع الصحيح كثقافةٍ جيدة وسليمة، حتى لو حدث أن تأثر المبدع بتياراتٍ في الفكر أو في الفن والأدب ظهرت عند شعوب أخرى، وصح لها أن تتفاعل مع جذور الثقافة المحلية؛ لينتج ذلك التفاعل بنيانًا أقوى وأعتى مما كان معهودًا للناس من قبل.
ثقافة الشعب المُعَين، في العصر المُعَين، لا يستقيم لها بناء إلا إذا أضمرت في ثناياها هدفًا مشتركًا يَستهدفه كل مبدِع في أي مجال من عالَم الفن والأدب، والفلسفة والفكر، وغير ذلك مما يُنتجه المبدعون، فيتلقَّاه من يتلقَّاه؛ ليشعر بالطمأنينة والرضا إن رأى مكنون نفسه قد وجد طريقه إلى الظهور، أو يتلقَّاه في شيءٍ من القلق؛ إذ يرى بين يدَيه ناتجًا غريبًا عنه. ووحدانية الهدف — إن وُجِدت — تخلع طابعها على عصرها؛ حتى ليُطلَق على ذلك العصر اسمه ليتميز به دون سوابقه ولواحقه؛ فطابع القرن الرابع الهجري في الثقافة العربية الإسلامية كان هو النزعة الإنسانية التي عُنيت بالإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن عرقه وعقيدته؛ فلم يكن ثَمة من بأس على كاتبٍ أو شاعر أن يأخذ بعض أفكاره من اليونان أو من الهند أو من غيرهما، ليسلك تلك الأفكار في عمله وكأنه هو مُنشئها وصاحبها، ولولا هذا الأفق الرحب؛ لما رأينا إخوان الصفا يجمعون في رسائلهم ما يُصور الثقافة الإنسانية بكل جوانبها، كما عرفتها الإنسانية حتى ذلك التاريخ، ثم لما رأيناهم في مُستهلِّ تلك الرسائل يُقدمون رأيهم بوحدة الديانات. وانتقل معي بذاكرتك إلى أورُبَّا في القرن السابع عشر، وهو ما يُسمُّونه بعصر العقل؛ لترى كيف علت ضوابط العقل على كل ناحية من الحياة الثقافية، ففي الفلسفة كان ديكارت، وفي العلم كان نيوتن، وفي المسرحية الشعرية كان راسين الذي يلتزم دقة البناء الشعري وكأنه يعالج نظريةً هندسية، وفي العمارة كانت استقامة الخطوط، وهكذا. ولماذا بلغَت مُراعاة المُبدعين لضوابط العقل إبَّان ذلك القرن؟ كان ذلك ليجيء الرد على العصور الوسطى حاسمًا؛ إذ كان لإيمان القلب في تلك العصور طغيان واضح على العقل وضوابط منطقه.
بل إن الشعب المُعيَّن كثيرًا ما تتميز ثقافته بطابع يُميزه عبر العصور غير مقتصر على عصرٍ واحد وظروفه الخاصة، إلا بجانب من جوانبه، يتركه ليتغير مع تغير الأيام؛ وأما الجانب الآخر، الذي هو محصلة للسمات الثابتة، فجعله قائمًا وثابتًا، ومن ذلك الجانب الثابت تستمد الشعوب سَحْنَتها الثقافية التي يعرفها بها الآخرون؛ فقط ننظر — نحن العرب — إلى أورُبَّا، فنظن أنها كتلة واحدة متجانسة في ثقافتها؛ وإنها لكذلك بالفعل في أُسس من أُسسها، وأما فيما عداها؛ فلكل شعبٍ من الشعوب الأورُوبِّية مُميزه الخاص في طريقة التفكير، خذ مثلًا: فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وانظر إلى الفرق بينها في رؤاها الفلسفية، فإذا جعلنا ديكارت ممثلًا لفرنسا، وهيوم ممثلًا لبريطانيا (فهو أسكتلندي) وكانط ممثلًا لألمانيا؛ لوجدنا العقل الرياضي في دقة استنباطه للنتائج اليقينية من مُقدماتها اليقينية، طابع الفكر الفرنسي؛ ووجدنا الركون إلى الحواسِّ في اكتساب المعرفة ركونًا مُطلقًا، طابع الفكر البريطاني، ووجدنا الجمع بين المُعطيات الحسِّية ومبادئ العقل ومقولاته، ثم الغوص في تلك المبادئ والمقولات غوصًا نادر المثال في تاريخ الفلسفة كله، طابع الفكر الألماني؛ فالفرنسي تهمُّه سلامة العملية الاستدلالية العقلية، حتى لو توافرت له وهو بين جدران بيته، والبريطاني لا يقنع إلا إذا أحسَّ الطبيعة ذاتها إحساسًا مباشرًا ببصرِه وسمعِه وسائر حواسِّه، والألماني لا يُريحه إزاء المفاهيم التي قد تؤخَذ بغير تحليل، كمفهوم «العقل» مثلًا، إلا أن يطحن دقائقها طحنًا ليرُدَّها إلى أصولها فتُفهَم فهمًا صحيحًا. وكانت تروى عن تلك الشعوب الثلاثة «نكتة» تُوضِّح اختلاف طبائعها بعضها عن بعض؛ فقيل: إن الفرنسي إذا أراد أن يعرف الفيل رآه في حديقة الحيوان من وراء القضبان، والألماني إذا أراد أن يعرف الفيل لجأ إلى المراجع في المكتبة ليقرأ ما قاله عنه العلماء، وأما البريطاني فإذا أراد أن يعرف الفيل ذهب إلى الغابات ليصيده.
فليس عنتًا أن نُطالب لثقافتنا العربية اليوم بهدف مُضمَر مُشترك، يكون هو في الوقت نفسه مؤشرًا دالًّا على الطابع العام الذي تتميز به هذه الثقافة؛ فإذا بحثنا عن ذلك الهدف المشترك ولم نجده؛ كان ذلك دليلًا على أن جهودنا الثقافية مُبعثرة، لا تنتهي بنا إلى بناء متكامل، أو بحثنا فوجدنا هدفًا غالبًا على معظم المُنتجين للثقافة، لكنه قد استمدَّ من الماضي أصوله وفروعه، مُسقطًا من حسابه هذا العصر الذي نعيش فيه؛ أدركنا كم ضلَّ بنا الطريق، حتى أصبحنا في زماننا غرباء، والأرجح أننا واجدون — بعد البحث وإمعان النظر — أننا في هذه المرحلة التي نجتازها اليوم مُمزَّقون؛ فبعضُنا يلوي عنقَه إلى الماضي وكأنه لا حاضر، وبعضنا يركز بصرَه على مَوطئ قدمَيه، وكأنه لم يكن لنا تاريخ، وبعضنا الثالث يُحاول أن يكون ماضيًا حاضرًا معًا، ولعلَّ هذه الفئة الثالثة أن تكون مَعقِد الأمل في مستقبل الثقافة العربية.
على أن الهدف الواحد المضمر، الذي هو عندنا شرط إذا أُريد لثقافة شعبٍ أن تكون صحيحة البناء، لا ينبغي له أن يكون أي هدف كما اتفق؛ بل يجب أن يُضاف إلى شرط وجوده شرط آخر يُحدد نوعه، وذلك أن مستقبلية الهدف تكاد تكون جزءًا من تعريفه، فإذا قال لنا قائل إن هدف حياتنا الثقافية هو أن نعود بتلك الحياة إلى الوراء؛ استنكرْنا قوله هذا، لشعورنا بالتناقُض الداخلي في استخدام الألفاظ استخدامًا يعكس معناها؛ فليس هدفًا ما يرد صاحبه إلى ماضيه، لأن اتجاه السير عندئذٍ يكون مضادًّا لطبائع الأشياء وطبائع الأشياء تُوجِب أن تكون دائبة التغيُّر، كما تُوجِب ألا يكون تغيرها ذاك مُطلقًا أيًّا ما كانت وجهته؛ بل لا بدَّ أن يتَّجه تغيُّرها نحو أن يكون تطويرًا لها، بحيث تعلو طورًا بعد طور، ومقياس العلو هو أن يكون الانتقال من البساطة إلى التركيب، وهذا التركيب معناه «تعدُّد الوظائف» التي يؤدِّيها الكائن في سيره المُتعالي؛ فيكون الكائن وهو في درجته الأعلى أكثر قدرةً على مواجهة ما يُصادفه من مشكلات، أو بعبارة أخرى أن يكون أقدر على التحكُّم في طبيعة بيئته، وهذا معناه — بالنسبة للإنسان — أن يكون الإنسان أوسع علمًا بظواهر الكون، وأدقَّ معرفة بقوانينها، وأن يكون — بالتالي — أقدر على إلجام تلك الظواهر إلجامًا بقسرِها على التشكُّل فيما يخدم مصالح الإنسان.
كل هذا يُحتم ألا يكون هدف السير بالحياة الثقافية نحو ما هو أقل علمًا، وأقل قوة؛ بل أن يكون الهدف نحو مُستقبل تزيد فيه حرية الإنسان، ومن أهم صور هذه الحرية تَحرُّره من قيود الطبيعة، وهو ما يتحقَّق بالتقدُّم العلمي، وأن تزيد فيه كذلك معرفة الإنسان لنفسه، وللآخرين، إلى جانب معرفته بظواهر الكون، ومن هذه المعرفة المُتعددة الأطراف يكون «الوعي»، وإن إيجاد مثل هذا الوعي في أفئدة الناس لهو دائمًا الغاية المنشودة من حركات «التنوير» حيثما كانت.
وهنا سؤال يطرح نفسه علينا، وهو: كيف يتوحَّد الهدف الثقافي على هذا النحو ومعلوم أن للثقافة قنوات شديدة الاختلاف بعضها عن بعض؟ فأين ألحان الموسيقى من العمارة؟ أين كلمات الشاعر من حجر النحات؟ أين العلوم الطبيعية من أنظمة الحكم؟ فما الذي يمكن أن يُوحِّد بين تلك القنوات على اختلافها؟ وجواب هذا يكمُن فيما يكون من تشابُهٍ وظيفي بين النظائر؛ فما الذي يجعل الخريطة الجغرافية مُتقابلة مع رقعة الأرض التي تُصورها؟ إنهما من حيث المادة مختلفان.
فالخريطة ورق والأرض المُصوَّرة بها جبال وسهول ووديان، لكنهما رغم هذا الاختلاف وغيره، مُتناظرتان، بمعنى أن طريقة التركيب، والنِّسَب بين العناصر في ذلك التركيب؛ يجعل كل نقطة، أو خط، أو لون، في الخريطة، مقابلًا لشيء مُشار إليه في رقعة الأرض المصوَّرة بها، مثل هذا التناظر يمكن قيامه بين قنوات الثقافة على اختلافها، وعندئذٍ يكون مدار ذلك التناظر، هو نفسه الهدف المقصود، فافرض — مثلًا — أن هدفنا الثقافي هو إيجاد مواطن عربي جديد يجمع في تكوينه أن يكون عربيًّا في هويته، بمعنى أن تجيء هويته حاملة لأهم ما تميزت به هوية العربي في تاريخه؛ وأن يجيء في الوقت نفسه مسلحًا بما تتطلَّبه الحياة المُتفوقة في عصرنا! عصر العلوم والتقنية؛ فها هنا يجب أن يخرج المُتلقي للنواتج الثقافية المختلفة بمؤثرات تُعِدُّه لأن يعتزَّ بعروبته، وبأن يتزوَّد في الوقت نفسه بزاد العصر؛ فالإنسان مُحصلة ما ينطبع به من مؤثرات، في الأسرة، وفي المدرسة وفي الحقل والمصنع وغيرهما من ميادين العمل؛ إنه يظلُّ يتلقى اللمعات من هنا وهناك، حتى يجد نفسه آخِر الأمر هو من هو، فإذا كانت الصورة المستهدفة هي أن يكون المواطن العربي إنسانًا حرًّا، محكومًا بعقله، واعيًا لما يدور حوله، وجب أن تتَّجِه به القنوات الثقافية المختلفة نحو هذه الغاية.
وينشأ لنا سؤال آخر، ربما كان أكثر الأسئلة إلحاحًا على ضمائرنا اليوم؛ وهو سؤال يُثير مشكلةَ العلاقة بين حاضرنا وماضينا، فإذا كان مما يقطع العقل بصوابه أن تتكيف الشعوب لضرورات الأوضاع الحضارية المستحدثة، كلما أفلَتِ الشمس عن إحدى الحضارات؛ لتُشرق ومعها بوادر حضارة جديدة، ثم إذا كان مثل هذا التكيُّف يقتضي — بالضرورة — تغيرات وتحويلات فيما يفكر فيه الناس وفيما يستجيبون به من صور السلوك، لِما يُصادفهم من أحداث يومًا بعد يوم؛ حتى لكأنه يصيح في وجوههم مهددًا: إما الاستجابة وإما الفناء؟ أقول: إذا كان هذا التغير المُستمر حتمًا محتومًا على الأحياء، أفرادًا وجماعات؛ فما الذي يبقى من الماضي ليضمن للناس استمرارية حاضرهم بسالفهم؟ وربما سألتني: أهو قدر مكتوب على الإنسان أن يربط حاضره بماضيه؟ فيكون الجواب على سؤالك هو: إنه ليس قدرًا محتومًا، بل هو طبائع الأحياء، وإذا أنت أنكرتَ على شيء طبيعته فقد أنكرت وجوده؛ أفيَسأل سائل: أهو قدَر كتب على السماء أن تكون زرقاء؟ أهو قدَر على ماء المحيطات أن يكون ملحًا أجاجًا وعلى ماء الأنهار أن يكون عذبًا فراتًا؟ إن أمثال هذه الأسئلة — في حكم العقل — إنما تتخذ صيغة السؤال فيظنها الغافل أسئلةً بالمعنى المنطقي للسؤال، وحقيقة الأمر في حاضر الإنسان وماضيه هي أن مجرد التصوُّر بأن لحظة الحاضر الراهن يمكن أن تكون مبتورة الصلة بما سبقها، هو ضرب من المحال؛ فالإنسان لا يولد ولادة جديدة في كل لحظة من تيار الزمن؛ إنه يُولد مرة واحدة، ليحيا ما يحياه ويموت، ولا تمضي بعد مولده بضعة أشهر، حتى يلثغ بكلمات يسمعها ممن حوله؛ فهل يُقال له عندئذٍ: لا، لا، لا تُردِّد ما تسمعه من كلمات، واخلق لنفسك بنفسك رموزًا صوتية تتعامل بها مع الآخرين؟! فإذا فرضْنا إمكان أن تتحقَّق له هذه المعجزة، فكيف يتمُّ التفاهم بينه وبين الآخرين إذا كانت الرموز التي أبدعها لنفسه مقصورة عليه لا يعرفها الآخرون؟ إذن فاللغة أمرها محتوم بحُكم طبائع الأمور، وليس بحكم أوامر تصدُر لها من آمِر، أن يتناقلها جيلٌ عن جيل، ورغم ما يطرأ عليها من إضافات وحذوف؛ فإنها تبقى في مُجملها هي لغة السالِفين، وإذا قُلنا اللغة فقد قُلنا كذلك شيئًا كثيرًا عن طرائق التفكير، وما نقوله عن استمرارية اللغة نقوله عن استمرارية كثير جدًّا من قواعد السلوك، ونظم الحياة الاجتماعية، فضلًا عن تفصيلاتٍ أخرى كثيرة عن الطعام، والثياب، وغيرها، ولك أن تُوسِّع الدائرة شيئًا فشيئًا؛ لتشمل العقائد، والفن، والأدب، وسائر أركان الحياة الثقافية، وهكذا تتحتم استمرارية على مدى الأجيال؛ فلا يكون سؤالنا — إذن — هل نبقى على تلك الصلة بيننا وبين أسلافنا؟ بل يكون: ما الجوانب التي تبقى على شيءٍ من الثبات النسبي بيننا وبين أسلافنا تضمن لنا أن نكون شعبًا واحدًا مُمتدًّا مع الزمن؟ ثم ما الجوانب القابلة للتغيُّر التي لا ضَير على شعبٍ أن يغير منها كلما تغيرت عليه الحضارات؟
لكننا بعد أن قرَّرْنا حتمية الاستمرارية بين حاضر وماض في حياة الناس، لا نكون بذلك قد حللنا شيئًا من المشكلة العصية التي تُواجِهنا، كلما وجدْنا في مواقف حياتنا العملية، تلك الازدواجية الحضارية الثقافية؛ وهي أن نجد لكل موقفٍ مُشكل، أسلوبَين في معالجته؛ ففريق منَّا يُصر على أن ننقل من تراثنا أسلوب أسلافنا فيما يُشبه موقفنا الراهن، وفريق آخر تُملي عليه بدهية تفكيره أن يكون أسلوب الحلِّ من وحي الظروف المُستحدثة، ومثل هذا التنازُع بين الفريقَين يمتدُّ حتى يشمل الحياة برمَّتها أو يكاد، ومن هنا ترانا ننشقُّ على أنفسنا جماعتَين — على الأقل — نُطلق عليهما صفات تُحدِّد طبيعة الاختلاف بينهما، كأن نُقابل بين السلفيين والمُجدِّدين، أو بين الرجعيين والتقدُّميين، أو غير ذلك من ثنائيات.
فإذا جاز لفريق ثالث أن يتدخل وسطًا بين الضدين، قائلًا بالإبقاء على الثوابت وتطوير المُتغيرات — وكاتب هذه السطور واحد من هؤلاء — وجب على هذا الفريق الثالث أن يُبين لنا ماذا يكون «الثابت» من جسم الثقافة العربية، وماذا يكون «المُتغير»، والإجابة التي يتقدَّم بها عن هذا السؤال تدور حول التفرقة بين شيئين، هما: «المبادي» و«الحشو» أو «المضمون الخبري» (من كلمة «خبرة») الذي يَجيء محمولًا مع مُجريات الأحداث في تيار الزمن؛ فهذه الأحداث الطافية، لا تُترك مُتناثرة فرادى، تجتمع وتفترِق بحسب دفعات التيار في نهر الحياة الجارية؛ بل إن الإنسان عندما يتلقَّاها ويدمجها في حياته العملية يُدرجها تحت «مبادئ» قبِلها قبولًا مضمرًا حينًا، وقبولًا واعيًا وصريحًا حينًا آخر، وهو إذ يُدرج تلك الأحداث تحت المبادئ يُتاح له عندئذٍ أن يُدرك إن كان الحدث المعروض مُتفقًا مع روح ثقافته أو مُتنافرًا مع تلك الروح؛ فالثابت في التاريخ الثقافي لشعبٍ ما (والثبات هنا ثبات نِسبي، وإلا فلا دوام في هذا الكون إلا لوجه ربك) أقول إن الثابت هو «المبادئ»، وأما ما عساه يندرج أو لا يندرج تحت تلك المبادئ؛ فأحداث مُتغيرة، فإذا قُلنا — مثلًا — إن مبدأ من مبادئ الثقافة العربية الإسلامية أن يتكافل أفراد المجتمع، بحيث يُعِين القادرون مَن بهم مَسغبة وعوَز، بسبب عجزٍ في أبدانهم، أو بسبب قحط عام أعقبته مجاعة؛ فمبدأ «التكافل» لا بدَّ أن يبقى قائمًا عبر العصور، لأنه ملمح مُهم من ملامح الثقافة العربية الإسلامية. أما كيف يكون عون القادرين للعاجزين؛ فأمر يتغيَّر بتغيُّر أشكال الحياة؛ فإذا رأى السابقون من أبناء الصحراء أن يكون العون في صورة مكيالٍ مُعين من الغلال، فقد تَتَّخذ المشكلة في عصور تالية، وفي بلاد غير صحراوية، شكلًا آخر، كأن تكون توفير الدفء في شتاء البلاد القارسة ببرودتها، أو تيسير المواصلات لعاملٍ لا يملك وسيلة الانتقال من مسكنه إلى مكان عمله، وهكذا، مما يستحيل أن ينحصر في قائمة مُحدَّدة معلومة مسبقًا، تُبين ما سوف يكون العاجزون بحاجةٍ إليه، بعد كذا ألف من السنين، تظهر فيها حضارات، وتختفي حضارات؛ لكن «المبادئ» قد تظلُّ ثابتةً في إطارها العام المجرد، القابل لأن يمتلئ بما يصلح له من مضمون الأحداث.
فالأمر في «المبادئ» و«مضموناتها» قريب الشَّبَه جدًّا بالأمر في الصيغ الرياضية وما يُلائمها من ضروب التطبيق على مادة الأشياء في عالم الطبيعة، خُذ مثلًا بسيطًا، العدد ٤ فأنت بغير شكٍّ تحمل في ذهنك صورة لهذا العدد، ومتى تصدُق هذه الصورة الرياضية المُفرغة على الأشياء ومتى تستعصي؟ وهذه الصورة الرياضية لا تشترط نوعًا خاصًّا من المعدودات لتصدُق عليه، ولكن الذي تشترطه هو أن تكون المعدودات ملائمة لإطارها الرباعي؛ فليكن المعدود أربع برتقالات، أو أربعة كتب، أو أربعة رجال، أو ما شئتَ من أربعات الأشياء، وهكذا ترى ثباتًا في الصورة الرياضية، وتغيرًا في معدوداتها، وهكذا أيضًا تكون الحال بين «مبدأ» مُعين، وحالات الواقع، التي يصدُق عليها ذلك المبدأ.
أما أولئك الذين يُوهمهم حُبهم وإخلاصهم للسلف، بأن إعادة حياتهم إلى عصرنا لنعيش على نهجها، لا من حيث «المبادئ» فقط، بل كذلك من حيث المضمون الكيفي لتلك المبادئ؛ فهم إنما يتطلَّبون محالًا، وهو مُحال بحكم منطق العقل ذاته، فضلًا عن مجافاته لمجرى التغيرات الحضارية، ولماذا هو محال من جهة المنطق العقلي؟ هاك جواب ذلك مشروحًا في إيجاز:
اللغة هي أهم وسيلة للتواصُل بين أفراد الشعب المُتعاصرين؛ كما أنها أيضًا أهم وسائل التواصُل بين الأجيال المتعاقبة في ذلك الشعب الواحد؛ فالمُتعاصِرون من أبناء الشعب المعين مُشتركون جميعًا في واقع مُعين؛ فإذا ما أرادوا التفاهم حول ذلك الواقع المشترك، تبادلوا وسائل اللغة التي يُشيرون بمفرداتها ومركباتها، إلى أجزاء الواقع الذي يعيشونه؛ فهم يعرفون — مثلًا — معنى كلمة «طعام» وكلمة «إفطار» وكلمة «ساعة» وكلمة «سيارة»؛ فإذا قال عامل لزميله «ركبت السيارة العامة بعد تناولي طعام الإفطار؛ لأكون في مكان العمل الساعة الثامنة.» فهِم السامع على وجه الدقة ما أراد أن ينقله إليه المُتحدث، وأعني «بالدقة» هنا أن عملية الفهم لم تقتصر على مُجمل المعنى، بل تتَّسِع لتشمل تفصيلاته؛ فهو يعرف ماذا تكون أنواع الطعام التي تكون منها عادة وجبة الإفطار، وماذا تعني كلمة سيارة عندما تكون سيارة عامة للجمهور، وماذا يعني تحديد الزمن بأنه الساعة الثامنة، هل هو شديد التبكير في الصباح، أو هو وقت يتسع للفراغ من أعمال الصباح قبل مغادرة العامل منزله إلى مكان عمله، لكن هذه العبارة نفسها إذا وجدناها في أثرٍ قديم من آثار التراث؛ لاستحال على القارئ أن يُكوِّن صورة دقيقة عما حدث لقائلها، إذ لا ندري على وجهٍ قريب من الدقة ماذا كان يعني أهل القرن العاشر الميلادي مثلًا في مصر، بكلمة «إفطار» وبكلمة «سيارة» وماذا كان الشكل العام للأعمال وأمكنتها … إلخ … إلخ.
فمفردات اللغة وإن تكن ثابتة على صورتها؛ فإنها اكتسبت معانيها من الحالات الواقعية التي يعيشها الناس، فلا «مصباح» أهل القرن العاشر الميلادي هو مصباحنا اليوم، ولا «القلم» هو على صورة القلم الذي نكتب به اليوم، ولا بنيان المنزل هو كالبنيان الذي نتَّخذ منه مساكن اليوم، ولا أي شيءٍ مما تتحدَّث عنه اللغة، هو اليوم على صورة ما كان بالأمس، مع بقاء اللغة، من حيث مفرداتها وطرائق تركيبها ثابتة أو فيما يقرب من الثبات؛ فمن أين — إذن — يستمدُّون معرفتهم عن حياة الأسلاف ليُحاكوها — أولئك الذين يجعلون من تلك المحاكاة مثلهم الأعلى؟ أليس مصدرهم هو ما يقرءونه في مراجع التراث؟ فهل في مستطاعهم أن يُترجموا تلك المادة المقروءة إلى كائنات الواقع المعاش، في العصر الذي كتبت فيه العبارات المقروءة؟ وإذا كان ذلك مُستحيلًا عليهم، بحكم ثبات اللفظة المُعينة مع تغير مدلولها في تفصيلاته، فمن أين تأتيهم النماذج التي يُحاكونها؟ لا، إنه لا مفرَّ من أن تكون الصور المجردة والمفرغة من مضامينها، كالمبادئ، والأسماء الكلية في اللغة، هي محاور الثبات، في استمرارية التيار التاريخي بين الماضي والحاضر، مع تغير المضمونات الكيفية عصرًا بعد عصر، وإني لأدعوك — أيها القارئ — إلى التأمُّل في كثير مما يدور عليه اختلاف الرأي بين سلفي ومُجدِّد؛ لترى إلى أي حدٍّ يقوم اختلافهما على الخلط بين المبادئ المجردة التي يجوز عليها الثبات، ومضموناتها التي لا بدَّ لها أن تتغيَّر.