تخليص وتلخيص (٣)
ترى هل نُصيب إذا زعمنا أن أعمق أساسٍ مما أقمْنا عليه بناءنا الثقافي هو تلك الزاوية التي انفرجت بين تصوُّراتنا الداخلية من جهةٍ وواقع الدنيا وأحداثها من جهة أخرى؟ إننا إذا أردْنا أن نُلخص العلة التي تفسر عددًا كبيرًا من ظواهر حياتنا الفكرية والأدبية؛ لما وجدْنا ما هو أصدقُ من القول بأن ثَمة فاصلًا بين ما نتوهَّمه في أنفسنا وبين حقائق الأشياء والحوادث التي نظنُّ أننا نتعامل بها ومعها في حياتنا العملية.
فالكاتب في كثير جدًّا من الحالات التي يزعم فيها لنفسه وللناس أنه إنما يُصور حقائق الناس الأشياء، بل حقائق التاريخ، يكتب عما ينبغي أن يكون من وجهة نظره مُتوهمًا أنه بذلك إنما يكتب عن الحقيقة الواقعة أو التي يظن لها أن تقع في ميقاتها المحتوم، وإن هذا الخلط بين وهمٍ وحقيقة ليحدُث معنا في كل ميدانٍ نتعرض للحديث عنه. فأذكر أني ذات يوم كنتُ أراجع تفسير المفسرين لقول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ؛ فأول ما صدمني أن أجد مُفسرًا من أعظم المفسرين مكانةً قد أخذ يروي عن معنى الويل فيقول إنه كذا وكذا من الأهوال التي أخذ يصِفُها بالتفصيل مما هو مُقدَّر في جهنم لذلك الآثم الذي تتحدَّث عنه الآيات الكريمة، فدار سؤال في نفسي من أين أتى هذا المفسر بذلك المعنى لكلمة ويل؟ ما مصدره في كل هذه التفصيلات التي جعل يرسُم بها الصورة التي رسمها؟ وعنَّ لي عندئذٍ أن أُراجع هذا المعنى نفسه في مواضع أُخرى من الكتاب الكريم ورد فيها كلمة ويل، وإذا به يتخيل صورة مختلفة في كل موضعٍ من مواضع الكلمة مما ازددتُ به إلحاحًا على سؤالي الأول: من أين أتى المُفسر بتلك المعاني التصويرية؟ ولماذا لم يلتزم معنى الويل كما تُحدِّده معاجم اللغة؟ أفليس من حقنا في هذه الحالة أن نقول إن المُفسر قد وضع خياله فيما يودُّ للآثم أن يُعاقَب به في كل حالة على حدة؟!
ومثل هذا يقع إذا كتب كاتِب عن السلف في أي مجال من جوانب حياتهم؛ فهو يكتب وفي ذهنه فرض مُسبَق بأن حياة السلف صواب كلها فضيلة كلها؛ فلا خطأ فيهم ولا انحراف، ولو أن الكاتب الذي يروي عن الأسلاف أدرك منذ البداية أنه ما دام يتحدَّث عن بشر — إذن — فلا بدَّ أن تكون الصورة مزيجًا من قوةٍ وضعف ومن صوابٍ وخطأ، على أن الرجل العظيم ترجح فيه القوة والصواب، ثم تتغير النسبة بين الجانبين، كلما هبطنا في أقدار الرجال، حتى نصل إلى من ترجح فيه كفة الضعف والخطأ، فتُخرجه من زمرة العظماء، وبهذا التصوير الحي الأمين نلتزم جانب الحق من جهةٍ ونؤثر في القارئ أثرًا أعمقَ وأصدق. وانظر كم كتب الكاتبون عن أعلام السلف وكم بقيَ القارئ على حالةٍ لم تُغير الصور التي عرضت عليه منه شيئًا! وذلك لأنه — دون أن يعي — أحسَّ بأنه يقرأ وعظًا ولا يقرأ تاريخًا ولا أدبًا، والوعظ لا يُغير من سامعه أو قارئه لا كثيرًا ولا قليلًا.
بل انظر إلى ما يكتبه كُتَّابنا اليوم كلما أرادوا تصوير حياتنا مُتمثلة في أفرادها؛ تجد هؤلاء الكتاب وكأنما هم قد أخذوا على أنفسهم عهودًا بألا يذكروا الريفي إلا بالخير الذي لا تشوبه ذرةٌ من الشر وخبَثه؛ لأن الشر وخبثه — في معاجمهم الحديثة — مكانه أبناء المدن! وفِيمَ العجب؟ أليس التعليم قد ارتفعت نسبته في المدينة عنه في القرية؟ ثم أليس التعليم ومعه النظافة والتمدُّن مصدر البلاء؟ ولعل سِرَّ هذه النظرة الغريبة هو تفسير خاطئ للثورة الاجتماعية الأخيرة، وهي ثورة أرادت — بحق وعدل — أن تُضيق الفجوة بين فئات الشعب فاقتضى ذلك — بالضرورة — أن تأخذ بأيدي العاملين الكادحين فترفع عنهم بعض الظلم الذي أحاق بهم. ولمَّا كان هؤلاء العاملون الكادحون في الأعم الأغلب على درجاتٍ متواضعة من العلم ومن الثراء؛ وقعنا في خلطٍ عجيب حين أخذ كتَّابنا يصورون من هم أجهل على أنهم أنقى سريرة ممن هم أعلم! ومن هم أفقر وأضعف على أنهم أعرف بواجبات الشهامة والشجاعة وواجبات الوطنية الصادقة والأريحية الخالصة من أولئك الذين سكنوا المدينة ونالوا حظًّا من التعليم ونصيبًا من الثراء! وتتبع — إذا شئت — أفلام السينما ومسلسلات التلفزيون، كلما نشأت مواقف منها مقارنة بين مَن يُمثل البساطة والسذاجة والجهل، ومَن يمثل تهذيب الحضارة وسعة المعرفة وطموح الارتقاء.
على أن الفجوة بين الوهم والحقيقة، في حياتنا الفكرية والثقافية، إنما تبلغ أوسع حالاتها كلما تعرَّض مُتحدِّث أو كاتب لحضارة هذا العصر، الذي كان ينبغي أن يكون عصرنا من الناحية الفكرية والثقافية كما هو عصرنا بالفعل من حيث موقعه وموقعنا من التاريخ الزمني، فما أسرع ما نَكيل على الغرب وأهله كل ما وسعته اللغة من صفات التحلُّل والتهتُّك والرجس والفسق والدنس، وكأن الناس هناك يعيشون في مواخير الدعارة، وليسوا هم الذين بلغوا من آفاق العلم ما بلغوه وأبدعوا في الفن والأدب ما أبدعوه، وأقاموا من النظم الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها ما أقاموه! إننا بالطبع لا نريد أن نجعل منهم ملائكة، ولكننا في الوقت نفسه لا يحق لنا أن نجعلهم من زُمَر الأبالسة والشياطين، على أن ما يكشف افتراءنا هو أن من يهاجمون حضارة الغرب وأهلها تراهم في اللحظة ذاتها التي يوجِّهون فيها ذلك الهجوم يُحيطون أنفسهم من ألِف حياتهم العملية إلى يائها بما أمدَّتهم به تلك الحضارة مما صنعه أهلها هؤلاء الذين نرميهم بما نرميهم من لعنات! ولو قال الكاتب لقارئه كلمة صدقٍ لكان له عند ربه ثواب من توخَّي الحق؛ حتى لا يضلَّ قارئه سواء السبيل.
لقد كان من حقنا — بداهة — أن نُحصن هويتنا تحصينًا يصونها؛ حتى لا تنجرف فيما يشوِّه قسماتها، فلا تُصبح هي ما هي؛ لأنه لو حدث ذلك لشقِينا بنقمتَين نقمة من فقد نفسه، ونقمة من انقطعت الصلة بينه وبين ماضيه، فليس العيب — إذن — هو في الحفاظ على جوهر ذواتنا، بل العيب هو في أننا أخطأنا الطريق المؤدي إلى تحقيق ما أردناه؛ فحسبُنا أن سبيلنا إلى ما نبتغيه، وهو أن نظلَّ على قوميتنا وعلى عقيدتنا وما تُمليه علينا من مبادئ نقيم عليها صور الحياة، أقول إننا حسبنا أن سبيلنا إلى ذلك هو أن نكيل السباب إلى بُناة الحضارة العصرية، بدل أن نلتمس لأنفسنا بكل ما يُميزنا من خصائص مكانًا في حضارة عصرنا ودورًا نؤديه في بنائها، وفي التصدي لمعالجة أوجه النقص في تلك الحضارة.
كان للوقفة المغلوطة التي وقفناها من حضارة العصر وثقافته عندما أردنا أن نأخذ الحيطة صونًا لذواتنا من الضياع، أقول إن تلك الوقفة المغلوطة قد ترتبت عليها نتائج خطيرة تُهدد حياتنا بالضعف والانهيار، وأسوق لك مثلًا واحدًا، ولكنه مثل جسيم في خطورته؛ إذ هو يُشبه أن يكون مثلًا لمن أخذته عزة بإثمه فألقى بنفسه في مهلكة، والمثل الذي أسوقه هو تلك الدعوة التي تزداد كل يومٍ تضخُّمًا واتساعًا وارتفاع صوت، حتى ليوشِك باطلها أن يقع موقع الحق في نفوس سامعيها، وهي الدعوة إلى أسلمة العلوم الإنسانية التي فيها — وفي مقدمتها — علم النفس وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد؛ فأصحاب الدعوة — بكل نية حسنة — يقولون للناس: لماذا نأخذ هذه العلوم التي تدور موضوعات بحثها حول الإنسان في طرائق حياته عن علماء الغرب في تلك الميادين مع أن لنا نحن — عن الإنسان وحياته ومبادئه وقيمه — مصادرنا الدينية والعلمية، فأما المصادر الدينية فهي ملزمة لنا بحكم العقيدة الدينية، وأما المصادر العلمية التي ورثناها عن أسلافنا فهي أعظم قدرًا وألصق بنا مما كتبه علماء الغرب والمعاصرون منهم بوجهٍ خاص، شيء كهذا يقوله أصحاب الدعوة إلى أن تكون علومنا الإنسانية علومًا إسلامية! وفي هذا القول خطأ منطقي يظهر من مجرد النظر بدقة في عبارة علوم إسلامية وتُبين ما تنطوي عليه من تناقض بحيث يرفضها العقل حتى قبل أن يُجاوزها إلى مجالات العلوم التي تَعنيها، والتي منها علوم النفس والاجتماع والاقتصاد، وأول ما نذكره على سبيل التوضيح هو هذه البديهة الآتية: إن العلوم الإنسانية «علوم» أفرأيتم ما هو أيقن يقينًا من هذه الجملة؟ ويقينها مُستمد من ذاتها على نحو ما يكون الأمر في أية جملة رياضية؛ ففي الجملة المذكورة — كما في أي جملة رياضية — نوع من تكرار المبتدأ في الخبر، فإذا كان قولك عن المثلث إنه سطح تُحيط به ثلاثة أضلاع يفرض نفسه على العقل فرضًا لأنه تحصيل حاصل — كما يقولون — فكذلك يكون موقفنا بالنسبة إلى قولنا العلوم الإنسانية علوم هو شبيه بقولنا أشجار الزيتون أشجار، أو قولنا أسماك البحر أسماك، فإذا اتفقنا على أن العلوم الإنسانية «علوم»؛ انتقل بنا الحديث على الفور إلى البحث عن الخصائص الضرورية التي لا بدَّ من توافرها في أي علم يريد أن يسلك في زمرة العلوم، وليس هنا موضع الإفاضة في تلك الخصائص، لكن يكفينا منها واحدة، وهي المحايدة بالنسبة إلى الجوانب الذاتية من حياة الإنسان؛ أي إن الحقيقة العلمية تظلُّ هي هي الحقيقة العلمية بغض النظر عما قد يختلف فيه الأفراد، أو تختلف فيه الشعوب؛ إذ لا تتغير الحقيقة العلمية بتغيير الأجناس والألوان والديانات والأعراف والتقاليد، والأذواق؛ فهذه كلها أمور بالغة الأهمية لحياة الإنسان إلا أنها رغم ذلك ليست مما يرِد في مجال العلوم، على أن ذلك لا ينفي أن اختلاف الثقافات بين الأفراد والشعوب قد يؤدي إلى اختلافٍ في تطبيق تلك العلوم؛ فالعلم النووي — مثلًا — قد خلص إلى القوانين الطبيعية التي على أساسها يمكن استخراج القوة الذرية، لكن ذلك العلم إذ يعرض نتائجه على الناس لا يكون من شأنه أن يُملي عليهم مجالات خاصة لاستعمالها، والذي يُحدِّد هذه المجالات للناس هو ثقافتهم، أو قُل هي أخلاقهم؛ فلقد رأت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٤٥م أن تُنهي حربها مع اليابان بإسقاط قنبلة ذرية على هيروشيما وأخرى على ناجازاكي، فوقفت الحرب، ومن الجائز جدًّا ألا ترى هذا الرأي دولة أخرى في حربها مع عدوها، مُحرَجة من أن تُنزِل هذا الدمار كله على سكان المدن، وذلك هو معنى قولنا إن العلم موضوعي؛ أي إن الذي يجعله علمًا هو منهج خاص ينصبُّ على موضوع البحث دون أن يتدخل الإنسان بميوله وعقائده، وأما في أي مجال يجوز تطبيق نتائج العلم، وفي أيها لا يجوز ذلك؛ فليس ذلك من شأن العلم ذاته، وإنما هو أمر موكول لضوابط أخرى في حياة الإنسان.
تلك — إذن — واحدة في فهمنا لعبارة علوم إنسانية، وأما النقطة الثانية؛ فهي أن هنالك فرقًا بعيدًا بين ما نتوقع أن يؤدِّيه طالب العلوم الإنسانية وبين ما نتوقَّع أن يؤديه العالم من علماء العلوم الإنسانية، فبينما نُحتم على الطالب أن يراجع الكتب الأساسية القائمة بالفعل في الموضوع الذي يدرسه من موضوعات العلوم الإنسانية بما في ذلك — بالطبع — ما هو موجود في المكتبة من مؤلفات أسلافنا؛ فليس ذلك بالضبط هو ما يضطلع به العالِم الباحث في موضوعٍ مما يندرج في أحد العلوم الإنسانية، فقد يرى ضرورة ذلك وقد لا يرى؛ لأن تلك العلوم قد أصبحت اليوم تُقيم بحوثها على الواقع الطبيعي للظاهرة التي هي موضوع البحث، فعلماء النفس — وأعني العلماء الذين يُضيفون إلى العلم جديدًا — لا يستخرجون القوانين العلمية الجديدة الخاصة بسلوك الإنسان من بطون كتب، سواء أكان مؤلِّفوها من أسلافنا أم كانوا من الغرباء وأسلافهم، وإنما تستخرج الإضافة العلمية الجديدة من التجارب العلمية التي تُجرَى على عينات بشرية يختارها الباحث العلمي بناءً على ما تقتضيه ضرورات بحثه؛ فواضح — إذن — أن سؤال السائل عما يقوم به عالم النفس من تجارب علمية، وإحصاءات … إلخ؛ ليس هو: هل قدم لنا ذلك العالم نتائج إسلامية؟ بل السؤال هو: هل قدم نتائج عملية قائمة على منهج علمي سليم؟
وأما النقطة الثالثة التي أذكرها تعليقًا على دعوة الدُّعاة بأن نجعل العلوم الإنسانية علومًا إسلامية؛ فهي أن العلوم الإسلامية هي علوم وليست إسلامًا، من حيث إن الإسلام دين، إنني لأرجو القارئ أصدَقَ رجاء وأخلَصَهُ؛ أن يركز انتباهه فيما نعرضه عليه إنقاذًا له من خلطٍ فكري غرِقْنا فيه حتى رءوسنا أشكالًا وألوانًا. مرة أخرى أقول: إن العلوم الإسلامية ليست إسلامًا، بل هي علوم، والفرق بعيد بين الحالتَين؛ فالإسلام دين يقع منَّا موقع الإيمان، وما دُمنا نظل بالنسبة للدين في دائرة الإيمان؛ فليس ثَمة مجال للتصويب والتخطيء، وليس ثَمة موضع للنقد أو لتعدُّد الآراء.
فكل مُسلم يؤمن بأن الله واحد أحد، وفي حدود هذه الصيغة الإسلامية — أو ما شئتَ من العقائد الإيمانية عند المُسلم — يتساوى جميع المؤمنين؛ فلا يُصحح أحد منهم لأحد شيئًا، ولكننا في حدود الصيغة الإيمانية لا نكون قد جاوزناها إلى علمٍ يُقام عليها، فإذا فعلنا ذلك، فأولًا قد تتعدَّد ميادين العلوم التي تُقام عليها، فربما اختار باحث أن يبحث في المفردات اللغوية وطريقة تركيبها في الصيغة المُعينة، وقد يختار باحث آخر أن يستخلِص من منطوق الصيغة الإيمانية ما يجب على المؤمن بها من سلوك يسلكه في حياته العملية، وقد يختار باحث ثالث أن يُجري مقارنة تحليلية بين وحدانية المُسلم وبين وحدانياتٍ أُخرى كفكرة الخير عند أفلاطون أو فكرة الصورة الخالصة عند أرسطو، وأمثال هذه المقارنات قام بها الفلاسفة المسلمون الأوائل، وهكذا، وهكذا.
وواضح أنه وإن يكن كل مُسلم يؤمن بوحدانية الله وأحديَّته؛ فليس كل مسلم بقادر على أن يجاوز الصيغة الإيمانية إلى النظر فيها نظرًا عقليًّا علميًّا تحليليًّا، بل ليس كل مسلمٍ قادرٍ على مثل ذلك النظر العقلي العلمي فيما قد آمن به براغبٍ فيه، على أن الراغبين القادرين على النظر العلمي الذين يُجاوزون الصيغ الإيمانية إلى تحليلها على منهج التحليل العلمي قد يتَّفقون في النتائج التي تُوصِّلهم إليها عقولهم وعلومهم، وقد يختلفون، وعندئذٍ لا ضير في اختلافهم؛ لأنهم لم يعودوا وهم في مجال علم مُلزَمين بالاتفاق كما كانوا مُلزمين وهم في دائرة الإيمان؛ فالإسلام عند المسلم هو الإسلام من حيث هو دين لا يختلف فيه مؤمن عن مؤمن، أما صيغ الإيمان الإسلامي حين ينتقل بها العلماء إلى مجال البحث العلمي، فهي في هذا الوضع الجديد موضوع للبحث العلمي، ومن ثَم يجوز للباحثين أن يختلفوا في النتائج والأحكام، كالفقهاء وهم يستدلُّون الأحكام الشرعية من النص القرآني الكريم، أو علماء اللغة حين يدرسون ويستدلون أسرار بلاغة القرآن الكريم، لا بل في الأمر ما هو أكثر من اختلاف الباحثين، وهو أنه من المُمكن أن يكون الباحث العلمي في نصٍّ إيماني من غير المسلمين؛ لأن البحث العلمي في نصٍّ إسلامي ليس هو نفسه الإسلام من حيث هو دين.
فماذا يريد الدعاة إلى أسلمة العلوم الإنسانية أن يقولوا؟
إنه إذا كان المراد هو أن نختار من الكتاب الكريم آيات يُنظر إلى نصوصها نظرة التحليل العلمي لاستخراج الأحكام المُستنبطة فيها والخاصة بميدان مُعين من ميادين العلوم الإنسانية كعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد؛ فذلك جهد علمي مشكور على أن يكون واضحًا أن العلم الإسلامي الذي يُخرجه مثل ذلك البحث هو علم يجوز لأصحابه الاختلاف فيما بينهم حول نتائجه وأحكامه، ثم ما هو أهم من ذلك، وهو أن يكون كأي علمٍ آخر يقبل أن يُضاف إليه ما قد استُحدث من نتائج علمية عبر الزمن؛ فلقد أوضحنا للقارئ أن العلوم الإسلامية كلها هي علوم يُقبل الاختلاف على نتائجها، وليست هي إسلامًا لا يُقبل فيه من الناحية الإيمانية اختلاف المؤمنين.
إن حياتنا الثقافية كانت لتحيا في صورةٍ أقوى نبضًا وأفعل أثرًا، لو أُتيح لها نقاد الفكر كما قد أُتيح لها نقاد الأدب، وليس الناقد في الحالة الأولى مرادفًا في الوظيفة مع الناقد في الحالة الثانية؛ فنقَّاد الأدب، رغم اختلاف مدارسهم بحيث كان منهم من جعل هدفه هو اختراق النص الأدبي إلى ما وراءه، والذي وراءه هو إما نفسية مبدع القطعة الأدبية المنقودة، وإما الحياة الاجتماعية التي أحاطت بذلك المبدع، وكان منهم كذلك من يجعل هدفه النص الأدبي ذاته يُحلله ليرى كيف رُكِّبت أجزاؤه وتسلسلت لكي تكون مؤثرة على نحوٍ ما تؤثر. أقول إن نقاد الأدب على اختلاف مدارسهم قد اضطلعوا بواجبهم — قديمًا وحديثًا — على نحوٍ ربما كان عاملًا فعالًا في ترشيد الإبداع الأدبي، وأما الفكر العربي الحديث؛ فقلَّما وجد نقدًا فكريًّا رشيدًا، بل إن نقد الفكرة عملية غير معلومة ولا مفهومة للكثرة الغالبة منا؛ إذ قد يُظَنُّ أن المقصود بنقد الفكر أن يُبين صحة الفكرة المُعينة أو خطأها، وإذا كان ذلك هو ما يؤدِّيه ناقد الفكر فهو موجود في حياتنا بكثرةٍ لا نريد لها مزيدًا؛ فنحن — ما شاء الله — لا نُوَصَّى لهجوم بعضنا على بعض بالتصويب والتخطيء، لكننا إذ نفعل ذلك لا نفعله على أساس التحليل الذي يُبين كيف رُكِّبت جملة مُعيَّنة تركيبًا يجعلها مُستوفية لشروط المعرفة العلمية أو غير مُستوفية لها، فإن كانت الثانية رفضت الجملة من الأساس دون حاجةٍ منا إلى الدخول في مضمونها لنتفق عليه أو نختلف، ولن أُدخل في نفسك الفزع بأن أُحدثك عن مقدار ما تجري به أحلامنا من أقوال لو حلَّلنا تركيبها قبل أن نلتفت إلى معناها لسقطت ميتةً عند أول ضربةٍ من مشرط التحليل. ولمَّا غاب نقد الفكر من حياتنا تقريبًا؛ غابت بغيابه حساسية القارئ التي تُميز له معقول الكلام من غير المعقول، حتى جاز أن تشيع فينا بكل اليسر دعوة لأن نجعل العلوم الإنسانية علومًا إسلامية على أن تُفهَم عبارة العلوم الإسلامية على أنها هي نفسها دين الإسلام.
إننا حتى ونحن نُقسِّم أنفسنا — وكثيرًا جدًّا ما نفعل — إلى من نُطلق عليهم أنصار القديم، ومن نُطلق عليهم أنصار الجديد، لا نقف لحظةً واحدة مُتأنية مُتروِّية لنسأل أنفسنا ما الذي نعنيه بهذه اللافتات التي نرفعها إيذانًا بحربٍ فكرية بين الفريقَين؟ فماذا فعل نصير القديم وماذا فعل نصير الجديد مما استحقَّا به أن يقفا في مُعسكرَين مُتقاتلَين؟ ألا يجوز أن نجد أن الخلاف بينهما هو في الحقيقة لا خلاف وإن كلًّا منهما قد اكتفى بنصف الطريق دون نصفه الثاني؟ وإذا كان هذا هو هكذا؛ عَلِمنا أن الرجُلَين مُتكاملان؛ أي أنك لو جمعت واحدًا من أنصار القديم إلى آخر من أنصار الجديد، لوجدتَ حاصل الجمع هو الحياة الثقافية التي نسعى إلى استحداثها، ولم يعُد منها ناقص إلا ضرورة أن يجتمع النصفان في كل فردٍ على حدة؛ ليتفاعلا وليُنتجا بالتفاعل حاصلًا ثقافيًّا جديدًا، فالمسألة كلها بين الرجُلين هي خلط منهما معًا بين الوسيلة والغاية؛ فالأول منهما إذا اكتفى بدراسة التراث ووقف عنده يجب أن يعلم أنه قد اكتفى بالوسيلة ووقف عندها، لأن التراث ضروري من حيث هو مصدر إلهام نستوحيه إبداعًا غير مسبوقين فيه من حيث هو نهايات يوقف عندها، وكذلك الثاني منهما إذا اكتفى بلحظته الحاضرة يجب أن يعلم بأنه كمن أراد أن يستغني بالغاية عن وسيلتها؛ فهذه اللحظة الحاضرة لا تقف وحدَها في خلاء الزمن، بل هي حلقة من سلسلة، ولا بدَّ أن تكون كذلك تأخذ عما قبلها لتضيف، ثم تُخلي الطريق لما بعدها. والعجيبة في نصير اللحظة الحاضرة أنه يثور على قديمِه معبرًا عن ثورية باللغة العربية، واللغة العربية لم يصنعها هو في لحظتها الراهنة، بل تلقَّاها ثمرة جاهزة من سالفيه؛ لتُضيف قوة إلى قوتها، ويتركها لمن يجيء بعده أكثر نبضًا بالحياة — ذلك لو استقامت لنا حياة ولغة.
أما وقد وردت الإشارة إلى اللغة في سياق الحديث؛ فالكلام عنها في حياتنا الثقافية الراهنة — إذا أردْنا أن نتقصَّى أوضاعها من جميع أطرافها — هو كلام يطول حتى لتضيق صفحاتنا هذه عن استيعابه، فحسبُنا بضع إشارات موجزة سريعة؛ فاللغة العربية قد تُتطلَّب حراستها إلى جماعة قد تكون لها من الفضيلة أقصى حدودها، لكن إدراكهم لما تحيا به اللغة إدراك محدود، فقصروا اهتمامهم على مفردات اللغة فهذه الكلمة صحيحة وتلك الكلمة مغلوطة، وفاتهم أن اللغة لغة بمركباتها وأساليبها أكثر جدًّا مما هي لغة بمفرداتها، فهذه — إذن — واحدة!
والثانية أنه بينما يعلمنا التاريخ أن ازدهار اللغة في جميع الأمم والشعوب من ذوات التاريخ الأدبي قد كان صنيعة أدبائها؛ فالأديب شاعرًا أو ناثرًا يتميز فيما يتميز به بحسٍّ مُرهف تجاه اللفظ حتى لتراه يُبدع بموهبته لفظًا لم يكن قائمًا فيُصبح بفضله لفظًا صحيحًا إضافة إلى اللغة، أقول إنه بينما كان الأديب — والشاعر بصفة خاصة — هو الوصي المؤتَمَن على لغته، أصبحنا في هذه الفترة الحاضرة من حياتنا، وإذا بالأديب فينا داعية إلى تحطيم اللغة! موهمًا الناس بأنه إنما يُحطم ما يُحطمه منها تجديدًا وثورة على الركود، والله يعلم إنما عبثت أصابعه بتلك الجوهرة لجهله بنفائسها.
والعبث هنا أنواع؛ فتارة تُقام الضجة حول قضية المفاضلة بين العامية والفصحى وكأنهما ندَّان في الأدب، وتارة يكون العبث في أقلامٍ تستعين بالله وتكتب فيما تظنُّه فصحى، وتقرأ فتقرأ ركاكةً في اللفظ يصرخ منها الذوق وأغلاطًا فواحش تصطكُّ لها الأسنان! ومع ذلك فالأقلام الكاتبة كان يحملها أدباء، وإذن فتلك هي الثانية.
والثالثة هي أنه بينما علماء اللغة في كل أقطار الأرض التي تقدَّمت العلوم بها وفيها قد أخذوا يصبُّون على لُغاتهم أضواء تحليلية كاشفة من صنوف لم تعهدها علوم اللغة من قبل، وجاءت المُلاءمة بين تلك التحليلات اللغوية الجديدة وبين عصرنا العلمي بأجهزته الحاسبة في أن تلك التحليلات قد هيأت اللغة — ولكل لسان لغته — وتحليلاتها لكي تُصبح صالحة للدخول في الأجهزة الحاسبة (الكمبيوتر) على صورة جعلت الترجمة من لغة إلى أخرى في تلك الأجهزة ممكنة بدرجة مذهلة من الدقة؛ ففي بضع ثوانٍ تخرج لك عدة صفحات مترجمة من الروسية إلى الإنجليزية مثلًا! وذلك بفضل تحليل اللغة المترجمة إلى اللغة المترجم إليها! واستعمالات لغوية أخرى كثيرة باتت في حدود المستطاع بفضل العلوم اللغوية في صورتها الجديدة. ويكفيك في ذلك أن تُلمَّ بشيء مما فعله رجل واحد في هذا السبيل هو نوام تشومسكي! فكم من علماء اللغة العربية قد دفعه حُبه للغة إلى إضافة علمية كهذه تدخل لُغتنا في عصرنا، ولو من بعض الوجوه وإلى حد محدود، وتلك — إذن — هي الثالثة.
وأما الرابعة فهي أن اللغة العربية — ككل اللغات الغنية الأخرى — فيها الطاقة لأن تُكتَب بها العلوم كأدقِّ ما تكون الكتابة العلمية، وفيها الطاقة كذلك لأن يُكتَب بها الأدب في كل مستوياته حتى يبلغ ذروة الشعر! والفرق الجوهري بين الحالتَين هو أن اللغة في الحالة الأولى تشير إلى موضوعات التفكير إشارة مُحدَّدة ومباشرة دون أن يكون فيها أقل قدرٍ من الإيحاء، في حين أن اللغة في الحالة الثانية إيحائية إلى آخِر حدٍّ مستطاع، وليس من أهدافها عندئذٍ أن تُشير إلى الهدف المقصود إشارة مباشرة. والتمرُّس باللغة واستعمالها الصحيح يُعين من يستخدمها على التفرقة بين طريقة استخدامها عندما يكون المجال مجال تفكيرٍ علمي، وطريقة استخدامها عندما يكون المجال مجال الأدب شعرًا أو نثرًا! لكن المُتعقِّب للغة العربية اليوم لا يُخطئ أن يرى الخلط والتخليط والقصور والعجز حتى لتبدو لُغتنا الغنية القادرة وكأنها فقدت قُدرتها على دقة العلم ونحن في مجال العلم، كما فقدت قُدرتها الإيحائية في التعبير الأدبي ومنه في مجال الأدب!
وأما الخامسة؛ فهي أن اللغة خُلقت في الأصل إما لكي تُشير، وإما لكي تُعبر: فهي تُشير عندما يكون الموضوع في الخارج، وهي تُعبر عندما يكون الموضوع حالة من حالات الباطن، فإذا وجدتَ جملة لا هي استطاعت أن تشير لقارئها إلى شيء ظاهر، ولا هي استطاعت أن توحي لقارئها بالحالة النفسية المراد إثارتها فيه؛ حُقَّ لك أن تُسقطها من الحساب، لأنها وإن تكن اصطنعت شكل اللغة؛ فإنها في واقع الأمر ليست من اللغة في شيء. وأترك للقارئ أن يُدقق النظر في كثيرٍ جدًّا مما أصبحت تجري به الأقلام ليرى كم فيها محسوب على اللغة بالحق! وكم منها محسوب عليها بالباطل! وسأكتفي بتلك النقاط الخمس فقد ذكرتها على سبيل التمثيل مما تشقى به لُغتنا اليوم على أيدينا ولو كان المراد حصرًا علميًّا لأطراف المأساة؛ لمضيت أذكر السادسة والسابعة والثامنة وما شاءت لي الحقيقة من عدد.