ثقافة التغيير
كتبتُ ذات يوم مقالة جعلتُ عنواها، «ثقافة السكون وثقافة الحركة» بينتُ فيها بعض الفوارق الهامة والخطيرة بين ثقافةٍ وثقافة، فهنالك ثقافة تُحرك صاحبها إلى عمل، وأخرى تميل بصاحِبها نحو ركودٍ بليد، حتى وإن بدا في ظاهر الأمر كما لو كانتا مُتشابهتَين. وأذكُر أني بدأتُ حديثي ذاك بمَثَلٍ ضربتُه: رَجُلَين تقابلا بعد أن فرَّقَت بينهما الأيام، فقال أحدُهما للآخر: الحمد لله أن رأيتك، ثم أردف قائلًا: إنَّ شيئًا من الغبار قد علق على ثوبك عند الكتف. فهذان قولان: أما أوَّلُهما فلم يكن فيه ما يُحرك سامعه إلى فعلٍ يؤديه، حتى وإن كان قد أشاع في نفسه السرور، وأما القول الثاني فقد استجاب له سامِعه استجابةً سريعة، بأن أخذ ينفُض عن ثوبه الغبار الذي قيل له إنه قد علق به، فلو أنَّنا وسَّعنا نطاق المثَل الأول لنجعله نموذجًا لثقافةٍ شاملة لجوانب الحياة كلها عند شعبٍ مُعين في عصر مُعين، لوجدنا الحاصل بين أيدينا شعبًا لا يجد في نفسه دافعًا يُحفِّزه إلى عمل يؤدِّيه حتى وإن أحسَّ في دخيلة نفسه بسعادة المطمئن القانع الراضي، وأما إذا وسَّعنا نطاق المثل الثاني ليشمل المناخ الثقافي كله عند شعبٍ مُعين في عصرٍ مُعين، رأينا صورة أخرى، هي صورة شعبٍ يدأب كل فردٍ من أفراده على فعل يُنجزه!
وأظنني قد زعمتُ في تلك المقالة أن الذي يَسودنا نحن، في هذه المرحلة من حياتنا، هو ضربٌ مِن ثقافة السكون، إذ نرى كثرةً غالبة من صُنَّاع الحياة الثقافية في شعبنا، قد اتَّجهوا — بطريقٍ مُباشر أو بطريقٍ غير مباشر — إلى عرض ما كان عند السلَف، وشرحه، والتعليق عليه بالتمجيد، وبالحث على الاقتداء به، وها هنا تكمُن مُغالطة قد تُفلت من رؤية القائل والسامع معًا، فنحن إذا تركنا الأمر عند هذا الحد، فقد يسأل سائل مُتعجبًا: وما العيب في ذلك؟ ما العيب في أن يَعرض علينا العارضون ما قاله الأسلاف في مواقف حياتهم لعلَّنا نحن أن نهتدي به؟ ووجه المُغالطة هنا، هو أن مواقف الحياة الجارية كما يَحياها الناس بالفعل لا تتكرَّر، فكل موقف حياتي لفردٍ مُعيَّن من الناس، أو مجموعة مُعينة منهم، هو فريد نوعه إذا نحن أخذناه بتفصيلاته كما وقع، إن التاريخ لا يُعيد نفسه إذا ما كان المقصود به تفصيلات السلوك البشري في مواجهة الأحداث، وإنما هو يُعيد نفسه لو كان المقصود هو «مبادئ» السلوك أو «قوانينه»، والفرق بعيد — بُعد الثرى عن الثُّريَّا — بين أن نُطالب الناس بمحاكاة أسلافهم في تفصيلات مواقفهم السلوكية، وبين أن نترك لهم حرية التغيير في تلك التفصيلات، ما دام «المبدأ» مَصونًا؛ فانظر — مثلًا — إلى الفرق بين أن نُطالب المرأة اليوم بأن يجيء ثَوبها على غرار ما كان الثوب عند سالفتها، وبين أن نترك لها حرية التصرُّف شريطة أن تراعي «مبدأ» الاحتشام في ظروف الحياة الجديدة، أو انظر — وهذا مثل آخر — إلى الفرق بين أن تُطالب الناس بأن يفهموا عن «الربا» ما كان يفهمه السلف، برغم التغيُّر الشديد في تفصيلات الموقف الاقتصادي، فبعد أن كان الدائن والمدين شخصَين يُواجِه أحدهما الآخر، ويعلم الدائن عجز المدين وشدَّة حاجته، أصبحنا أمام موقفٍ جديد لا صِلة فيه بين دائن ومدين، فالدائن شخص يضع ماله في مصرف، والمدين شخص مجهول يبني عمارة — مثلًا — أو يُنشئ مصنعًا، فيقترض من المصرف ما يُعينه على إتمام مشروعه، وواضح من ذلك أن العلاقة الشخصية قد غابت عن الموقف غيابًا تامًّا، وهي علاقة لو كانت قائمة لوجب علينا أن نُضيف إلى الموقف ما تقتضيه تلك العلاقة من تعاطُفٍ بين من يملك ومن لا يملك. وإذا شئتَ مثلًا ثالثًا فانظر إلى السفر الطويل وما كان يُحدِثه للمسافر من مشقةٍ وعناءٍ مما اقتضى أن يكون للمسافر أحكام خاصة في فروض العقيدة الدينية، وقارن ذلك بمُسافِر اليوم، وهو مُطمئن في الطائرة على مقعدٍ وَثِير، يُقدَّم له طعامه وشرابُه كما يَشتهي ويُرسل نفسه في نعاس، مُتكئ الرأس على وسادةٍ ليِّنة كما يُريد، لكن هذا التغيُّر البعيد في تفصيلات المواقف الحياتية، إذا جاز أن تتغيَّر الأحكام فهو يظلُّ مُستوجبًا أن تبقي «المبادئ» الأساسية ثابتة، ففي العلاقة بين الدائن والمدين، وهما في الموقف الجديد طرفان مجهولان، إلا أن «مبدأ» العدالة ضروري في تحديد نِسبة الربح الذي يتقاضاه الدائن عن وديعته في المصرف، والربح الذي يتقاضاه المصرف من المدين، والذي يُحدِّد حدَّ العدالة هنا هو الموقف الاقتصادي العام، في كل فترةٍ زمنية مُعيَّنة، بحسب ما يراه خبراء ذلك الميدان، وفي حالة المُسافر وما يجب عليه في أدائه لفروض دينه، يكون الاحتكام إلى مبدأ الراحة وجودًا وعدمًا، فالاستمرارية التاريخية بين سلَف وخلَف في الأمة الواحدة، أو قل في أصحاب ثقافة مُعينة، أمر لا بدَّ منه، وإلا لما جاز أن نصف الأمة الواحدة بالوحدانية، ما دامت هي في يَومها، شيئًا آخر غيرها في أمسها، إلا أن تلك الاستمرارية التاريخية لا تكون في تفصيلات المواقف، وإنما تكون في مبادئها.
ولعلَّ مشكلة الثبات والتغير، في هذه الدنيا التي نعيش فيها، أن تكون بحاجة منَّا إلى مزيدٍ من إيضاح؛ إنها في يومِنا هذا، وبالنسبة إلينا نحن بصفة خاصة، تقع في صميم الصميم من مشكلاتنا الحيوية واليومية، فالسؤال مطروح علينا في كل لحظةٍ من حياتنا، حتى ليسد علينا منافذ الهواء، وهو: هل نترسَّم خُطى الأقدمين أو نُجدد؟ هل نلتمِس حلول مشكلاتنا فيما قال السلف وأثبتوه في دفاترهم التي جمعناها وأسميناها، «تُراثًا» أو نلتمس تلك الحلول في وقائع الحياة العملية، نستقرئها لتنطق لنا بالجواب الصحيح؟ فمثلًا هناك الآن في حياتنا العملية نساء يعملنَ خارج بيوتهن جنبًا إلى جنبٍ مع الرجال، وقد تنشأ مشكلات خاصة بالعمل من جهة، وبشئون الأسرة الداخلية من جهةٍ أخرى، فأين نبحث عن حلول تلك المشكلات؟ أنبحث عنها في الكتب؟ أم نبحث عنها في عناصرها الفعلية الواقعة أمام أبصارنا؟ فإذا نحن اخترنا البديل الأول حرصًا منا على توثيق الروابط بيننا وبين أصولنا، جاءنا السؤال يصرخ في وجوهنا: كيف تغمضون أعينكم عما هو واقع وكأنه لم يقع؟ وإذا نحن اخترْنا البديل الثاني، كان السؤال هذه المرة: وماذا يبقى من الهوية القومية إذا تفككت العُرى بين اليوم وأمسه؟ ومعنى ذلك كله، هو أننا مُطالَبون بأمرَين في وقتٍ واحد: مطالبون بأن يكون في حياتنا حبل ثابت متصل، ومُطالبون في الوقت نفسه بأن نُعطي لجديد عصرنا حقَّه الكامِل من الاهتمام حتى ولو كان ذلك على حساب العروة الرابطة بيننا وبين أسلافنا؛ فقد عاش هؤلاء الأسلاف حياتهم، ومن حقِّنا كذلك أن نعيش حياتنا.
فلا غرابة — إذن — أن تحتلَّ مشكلة «الثبات» و«التغير» المكانة الأولى بين ما عرَض لأئمة الفكر في العالَم أجمع، وعلى امتداد العصور: فما الذي هو ثابت لا يتغير، بل ولا يجوز لأحدٍ أن يُغيره؟ وما الذي يتغير من أمور الدنيا — بل وينبغي له أن يتغير؟ وقد اتسع السؤال مع الفلاسفة — كعادتهم — ليُعمِّموه على الكون بأسره، لكن تلك التوسِعة تزيد الأمر وضوحًا ولا تُضيف غموضًا إلى غموضه، وقد انقسم الرأي بينهم ثلاثة اتجاهات: فمنهم من رأى عنصر الثبات جوهرًا يتعذَّر على العقل أن يتصور إمكان زواله، فلولا ذلك الثبات لما كنتَ أنت هو أنت ولا أنا هو أنا، ولا القاهرة هي القاهرة ولا الكون هو الكون، إلا أنهم ذهبوا بالفكرة إلى حدِّها الأقصى — أحيانًا — حتى لقد أنكروا «التغيُّر» باعتباره مناقضًا للعقل، زاعِمين أنه وَهْم تتوهَّمه الحواس في إدراكها للأشياء، ومنهم من ذهب إلى نقيض ذلك، بأن جعل التغيُّرات في أي كائنٍ حقيقته التي لا حقيقة له سواها، فما الشيء من الأشياء إلا سلسلة طويلة من حالات يعقب بعضها بعضًا، وأما أصحاب الرأي الثالث فربما كانوا أصحاب الجواب الصحيح — على الأقل بالنسبة لمشكلتنا الخاصة التي عرضناها، وأعني مشكلة الجمع في بنائنا الثقافي بين حاضر يحترم الواقع الذي بين يديه، ولكنه كذلك يتمسَّك بالماضي الذي هو ضمان لا بد منه إذا أردنا لهويتنا الذاتية ألا تنحل وتنهار — وذلك الرأي الثالث هو أن «الثبات» و«التغير» يسيران معًا، فأما الثبات فهو من شأن «المبادئ» أو «الأُطر»، وأما التغيُّر فهو من شأن الحالات التفصيلية التي تندرِج تحت تلك المبادئ، أو التي تملأ تلك الأُطر، وقد نجد في علوم الرياضة في صورتيها: «البحتة» و«التطبيقية» مثلًا جيدًا يُوضِّح المعنى المقصود، خُذ شكل «الدائرة» فإذا اتجهت ببصرِك إلى دُنيا الأشياء المُتغيرة، وجدتَ الشكل الدائري متمثلًا في كثير جدًّا مما تراه: فرغيف الخبز المُستدير، وقطعة النقود المُستديرة، ومنضدة مُستديرة، وحديقة مُستديرة، ودوائر مرسومة على الورق، وهكذا لكن تلك الأشكال الدائرية كلها ليست مُتساوية في دقَّة الدائرة، ويغلب أن يكون بعضها أدقَّ دائريةً من بعضها الآخر، وقد يعنُّ لأحدِنا أن يسأل نفسه إزاء هذا التغيُّر في درجات الدقة، قائلًا: إذا نحن رتَّبنا الأشياء ترتيبًا تصاعديًّا بحسب دقَّتها، فأين نصِل إلى ذروة الدقة التي ليس فوقها ما هو أدقُّ منها؟ وعندئذٍ يجيء الجواب الصحيح، وهو أن تلك الذروة لا تتمثل قطُّ في شيءٍ بعينه، وإنما تتمثل في «التعريف» العقلي للدائرة، وعلى أساس ذلك التعريف يُمكننا ترتيب الأشياء الدائرية بحسب تدرُّجها في الدقة صعودًا أو هبوطًا؛ ومثل ذلك المعيار العقلي، في حياة الناس العملية — هو ما أسميتُه فيما أسلفتُ ﺑ «المبادئ» أو ﺑ «الأطر»! فالمبدأ أو الإطار، تصوُّر عقلي ذو ثبات، لكنه في الوقت نفسه حقيقة مُفرغة من تفصيلات الحياة، ثم نأتي حياة الناس العملية بما يملأها من أحداث، فنقيسها — ارتفاعًا أو انخفاضًا — بذلك المعيار الرياضي المُفرَّغ، وهو «المبادئ» أو «الأطر» أو «الأنماط».
والذي بيننا وبين أسلافنا، من حيث الحياة العملية، وأين يجِب، وأين لا يجِب، أن تكون أشكال سلوكنا مُتطابقة مع ما كان منها عند أسلافنا، هو شيء كهذا؛ فنستطيع القول بأن ثقافات الشعوب قد تُميِّز بعضها من بعضها، بأن كُلًّا منها قد رتَّب المبادئ بأولوياتٍ تختلف عما رتَّبها به سائر الثقافات، فحتى لو اتفق الناس جميعًا على ما يصحُّ أن يكون «مبدأ» أو «صورة» لحياة الإنسان فإن الشعوب بعد ذلك تعود فتختلف في ترتيب درجاتها، وللشعب المصري، أو قُل للأُمَّة العربية في مجموعها، صورة خاصَّة بها في ترتيب المبادئ، وبالتالي فإنَّ لها موقفًا ثقافيًّا مُتميزًا، فالثابت بيننا وبين أسلافنا هو تلك المبادئ، والمُتغيِّر هو تفصيلات المواقف والأحداث التي تملأها. ومِن هنا تنشأ نتيجةٌ هامة جدًّا، أرجو من القارئ رجاءً مُخلصًا ألَّا يدَعها تُفلت منه، وهي أنه ما دام المعيار الحياتي أو الثقافي مُشتركًا بيننا وبين أسلافنا، فالمُفاضلة بيننا وبينهم ليست أمرًا مقطوعًا به مُقدمًا؛ إذ من هو مِنَّا أكثر تحقيقًا لتلك المبادئ الأولية يكون أفضل من الآخَر، وقد نجد بعد المراجعة، أنَّ أسلافنا كانوا أفضل منَّا في مواضع، وأننا اليوم أفضل منهم في مواضع، فمثلًا ربما وجدْنا الأسلاف أقدَرَ مِنَّا على المبادرة والإبداع، ووجدنا أنفسنا أكثر شعورًا بحقوق الفرد في التعلُّم، والعمل وحُرية الاختيار.
على أنه لا جدوى من إحياء الحاضر لمبادئ السلف، إذا اقتصر الأمر — كما يحدُث كثيرًا في حياتنا الآن — على «تسميع» تلك المبادئ كتابة وخطابة وإذاعة، فلِمن شاء أن يُقدم إلى الناس ألف ألف قول مأثور من أقوال السالفين كلَّ يوم، لكنه لن يُغيِّر بذلك شيئًا من سلوك فرد واحد، لأن السلوك مجموعة عادات، ولا يتغيَّر إلا أن تتكوَّن عند الناس عادات جديدة لتحلَّ محلَّ عادات قديمة، وتغيير عادة لا يتم في لحظة، كما نضغط على مفتاح فتُضاء مصابيح الكهرباء، وإنما هو بمثابة تربية جديدة، تقوم على سلوكٍ تتجسَّد فيه تلك المبادئ المراد لها أن تكون موصولة بين الماضي والحاضر، ولا يتم ذلك على الوجه الأكمل إلا إذا زرعت تلك المبادئ على أرض الظروف الجديدة، وذلك هو ما يحتاج مِنَّا إلى تفكيرٍ هادئ يتدبَّر على مهل كيفية التنفيذ.
كان قد أنبأني صديق يُكثر من زيارة اليابان بحكم عمله، بأن الياباني عرف كيف يعمل في المصنع نهارًا وكأنه مواطن في أي بلد صناعي من بلدان الغرب، حتى إذا ما عاد إلى منزله مساءً اغتسل وكأنه يزيح عن جسده حياة النهار المستعارة، وارتدى ثيابه اليابانية، ومارس حياته المنزلية ممارسة الياباني الأصيل، الذي لم يكن يعرف شيئًا عن المصانع الحديثة وآلاتها، ولكنني دون أن أبدى مُعارضة أو تساؤلًا عمَّا سمعتُه من ذلك الصديق، حدَّثَتْني نفسي بأنه يبعُد أن تكون صورة الحياة عند الياباني الجديد على هذا النحو، الذي يشطر الحياة شطرَين. كأنَّ أحدهما لا صِلة له بالآخر، ولو كان الأمر كذلك لما أفلحت اليابان الجديدة بالدرجة التي أفلحت بها حتى لقد نافَسَت أعتى شعوب الغرب علمًا وصناعة، ومُحال أن يستقيم لها الأمر، ما لم تدمج الشطرَين في وقفةٍ موحدة. فحياة المنزل تمتدُّ بروحها اليابانية إلى حياة المصنع وحياة المصنع تمتدُّ بدقَّتِها العلمية إلى حياة المنزل.
ثم ما لبث أن وجدت ما يؤيد فِكرتي، وذلك أن أُتيح لي فترة طويلة، الاطلاع على مجلةٍ فصلية تصدُر عن اليابان، وربما كان الذي يُصدِرها هناك هيئة رسمية، وهدف تلك المجلة هو أن تَعرِض موجزًا لما ترى أنه أهم ما أنتجَه الفكر الياباني خلال ثلاثة أشهر. كنتُ أتابع تلك المجلة واسمها مُترجَمًا إلى العربية هو «الصدى» وهي تَنشُر ما تَنشُرُه باللغة الإنجليزية، فكان من أنفع ما قرأته فيها تلك الموضوعات الخاصة بحياة الياباني الجديد، معروضة في صورة بحوثٍ علمية إحصائية، ومن تلك الموضوعات عرفتُ بدقةٍ بالِغة، كيف انتقلت الروح الأُسرية كما عرفتها التقاليد اليابانية العريقة، التي تدور حول مبدأ التعاون إلى أقصى مداه، وهو مدًى تختفي فيه فردية الفرد ولا يبقى إلا الجماعة مأخوذةً في رابطة واحدة، فنُقِلَت هذه الروح إلى جماعة العاملين في المصنع، وأصبح العامل يُحِسُّ شعور «الانتماء» إلى مصنعه، بكل القوة التي يُحِسُّ بها شعور الانتماء إلى أُسرته، فنجاح المصنع الذي يعمل به هو نجاح شخصي بالنسبة إليه، دون تكلُّفٍ في ذلك أو نفاق أو كذب … ولعلَّ أغرب ما قرأته في تلك المجلة مما يتَّصِل بهذا المجال ذلك البحث العلمي الذي أجراه من أجراه ليَصِل به إلى تصوُّر مُحدد عن فكرة «الإبداع» عند الياباني، وإذا بالإبداع لا يكاد يكون له معنًى عند الياباني إذا كان ذلك الإبداع منسوبًا إلى فردٍ مُعين؛ فالإبداع الفردي أمر غير معروف هناك، لا بل إنه مُستنكر من الناحية الأخلاقية عندهم. ولقد كان ذلك البحث مُؤسَّسًا على مجال العلم والصناعة ولا أدري ما قولهم عن الإبداع في الأدب والفن.
الخلاصة التي أردتُ عرضها هنا، هي أن مبادئ السلف لا تحيا في حياة الخلَف، إلا إذا مُلئ وِعاؤها المُجرَّد بمادة حياتية مأخوذة من صميم الواقع الجديد ومشكلاته، وخُذ — مثلًا — فكرة «العِرض» (بكسر العين) في الأخلاقيات العربية ومنها مصر بطبيعة الحال، فنحن نعلَم كم لتلك الفكرة في حياتنا من قوة لا تعبأ بالقوانين الوضعية إذا عارَضَتْها، وما معنى «العِرض» الذي له في حياتنا ما يُشبِه التقديس؟ قد يظن بعضنا أن المعنى مقصور على شرَف المرأة، ولكن معناه الحقيقي التاريخي، هو مجموعة الأشياء التي يَعُد الفرد نفسه مسئولًا عنها لأنها تقع في حِماه، وربما كانت قطعة الأرض التي يملكها أو ربما كان الجار، أو ربما كانت الأسرة في مجموعها أو الوطن والمواطنون جميعًا، أو بيوت الله، بين الأشياء التي تدخل في مجال «العرض» الذي يدافع عنه الإنسان بروحه إذا اقتضى الأمر. فافرض معي الآن أننا أردْنا إحياء هذا المبدأ ليسترجع في حاضر حياتنا كل قوته التي كانت له في الماضي، فماذا نصنع إلا أن نعمل على تربية الأفراد تربيةً تُدخِل في نفس الفرد استعدادًا للتضحية في سبيل ما قد نشَّأناه على أنه «عِرضه» الذي يجب أن يُصان؟!
«الثقافة» بمعناها الذي يجعلها طابعًا يُميِّز شعبًا من سائر الشعوب هي ضربٌ من ضروب «الأدوات» التي يَستعين بها الصانع فيما يَصنعه، فهل تقول عن فأس الفلاح — مثلًا — إنه حلية يتزيَّن بها الفلاح؟ هل تقول عن منشار النجار إنه أداة يتزيَّن بها؟ وهكذا الأمر في «الأفكار» التي تستحقُّ اسمها هذا، إنها أدوات عيش، أدوات عمل، وإن لم يكن ذلك الجانب واضحًا فيها أمام العين. ولكي تفهم هذا، خُذ فكرة عِلمية عن حياة النبات، أو عن كيمياء التفاعُل بين عناصر الطبيعة، أو حتى كفكرة الجاذبية بين الأجسام والأجرام، وانظر في أي منها: ما الذي أكسبها أهميتها إلا أنها أداة نستخدمها في الزراعة، أو في الصناعة، أو في تشييد المباني؟ إن «الفكرة» — كل فكرة وأي فكرة — هي أشبَهُ «بروشتة» الطبيب، تأخذها لا لتحفظها وتتغنَّى بألفاظها أو تضعها في إطارٍ لتُعلِّقها على جدران غرفتك، بل تأخذها لتصرفها دواءً من الصيدلي ليكون ذلك الدواء وسيلةً مرجوة للشفاء، وأما إذا زعم لك زاعِم عن جملةٍ مُعيَّنة بأنها تحمل «فكرة» ثم لم تجد قطُّ طريقة تتحول بها تلك الفكرة المزعومة إلى «عمل» فاعلم مُوقنًا بأن الجملة المُقدَّمة إليك كانت من قَبيل اللغو الفارغ، وها أنا ذا أُوسِّع لك في المجال فأقول — لا عن فكرة واحدة بعينها، بل عن مجموعة الأفكار التي تتكوَّن منها ثقافة شعب — إنها في مجموعها إنما تُقاس قِيمتها بما تستطيع به أن تُعيننا على السباحة في بحر الظروف المُحيطة بنا بل وأن تُعيننا على ما هو أكثر من ذلك، وهو أن نكون شركاء في صناعة ذلك البحر من ظروف الحياة الجديدة.
وإذا كان ذلك كذلك في حقيقة «الثقافة» التي يعيش في إطارها شعب، أعني إذا كان مِقياس قبولها أو تعديلها حذفًا وإضافة هو صلاحيتها لأن تجعل ذلك الشعب أقوى وأعلم وأغنى وأرهف شعورًا، أقول إذا كان ذلك كذلك، كان الأمر نفسه مُنطبقًا على ما نأخُذه نقلًا عن أسلافنا من «مبادئ» إذ يُصبح واجبنا نحو أنفسنا هو أن نملأ الصور المجردة المفرغة لتلك المبادئ بمضمونات جديدة تصلُح أن تكون في أيدينا أدوات عمل، وإنتاجٍ وقدرة على مواجهة عصرنا وظروفه.
وليس التطوُّر الثقافي في حياة الإنسان ترفًا من الترف الذي يخضع لاختيار الناس، فإما قبلوه وإما رفضوه، بل هو قانون حتمي من قوانين الحياة، وذلك لمن أرادوا لأنفسهم حياة. لقد كان للمفكر الفرنسي «تيار دي شاردان» كل الفضل في أن سلَّط الأضواء الكاشفة الهادية على هذا الجانب من حقيقة التطوُّر، فبعد أن كان الفكر العلمي في هذا الصدد، مُتجهًا نحو النظر إلى التطوُّر على أنه مسألة بيولوجية تُوضح التسلسُل في الكائنات الحية بادئة من الخلية الأولى فصاعدة إلى الإنسان، نشأ سؤال مُضمَر في عقول الباحثين هو: ثم ماذا؟ هل نتوقَّع من الحياة أن تُخرج من الإنسان إنسانًا أعلى يتمَّيز ويتفوَّق على الإنسان كما هو الآن، فبين «دي شاردان» في تفصيلٍ وعُمق، كيف أن التطور البيولوجي بالنسبة للإنسان قد وقف عند هذا الحد، إلا أنه شقَّ لنفسه طريقًا آخر، هو التطور الثقافي، فإذا كان الأمر على امتداد الدهر — فيما مضى — قد جعل الكائن الحي يتطوَّر ليقابل ما استُحدِث له في بيئته من عوامل، فقد استبدل الإنسان بالتطور البيولوجي في تركيب الجسم، تطورًا ثقافيًّا يُقابل ما هو جديد في دُنياه، فلا يعقل — بالطبع — أن يستجيب الإنسان وهو في عصر «الرعي» — للطبيعة من حوله — بمِثل ما كان يستجيب به في عصر حياته الأولى في الغابات والأدغال والكهوف، كما لا يُعقَل أن يستخدِم ردود الفعل ذاتها التي كان يَستخدِمها في حياة الرعاة، بعد أن تغير مسرح العمل وأصبح زراعةً تقتضي الإقامة الثابتة على أرضه المزروعة، ثم لا يعقل بالدرجة نفسها أن يحافظ الإنسان على أنماط سلوكه التي نجح بها في عصر الزراعة ليجعلها مناط سلوكه في عصر الصناعة الذي هو عصرنا، فلكل مرحلة من تلك المراحل ثقافتها الصالحة لها. ولقد أسلفنا أن ثقافة الجماعة الإنسانية ليست لهوًا يلهو بها أفرادها، بل هي في آخِر مَطافها «أداة» يُعاش بها ليضمن الناس حياة فيها القوة والغِنى والارتقاء. ولقد سبق لكاتب هذه السطور، أن كتب حين شاعت فينا الدعوة إلى «أخلاق القرية» ليلفِتَ الأنظار إلى أن أخلاق القرية إن هي إلا الأخلاق التي أفرزتها حضارة الزراعة — على الوجه الذي كانت الزراعة تؤدَّى به، أما وقد دخلت الدنيا حضارةً أُخرى، هي حضارة الصناعة بالصورة التي باتت مألوفة لنا، فقد أصبح حتمًا على الإنسان أن يُغيِّر من قواعد سلوكه، بحيث يُمكننا القول إن «المدينة» وأخلاقها لا بد لها اليوم أن تحلَّ مَحل «القرية» وأخلاقها، وليس الفرق هنا بين «مدينة» و«قرية» فرقًا في اتساع الرقعة وعدد السكان، بل الفرق هو في نمط الحياة من نواح كثيرة، فبعد أن كانت «المدينة» فيما مضى «قرية» كبيرة صار هدفنا اليوم هو أن نجعل من «القرية» مدينة صغيرة.
ولستُ أري أن التحوُّلات في أخلاقيات السلوك تبعًا للتحوُّلات الحضارية، يتناقَض مع رغبتنا في أن تجيء حياة الخلف على «مبادئ» السلف، لنضمن استمرارية التاريخ واستمرارية الهوية الوطنية أو القومية، لأن المبادئ الأولى التي تُقام عليها الحياة أوسع شمولًا وأكثر تجريدًا من «القواعد» السلوكية المُتغيِّرة بتغيُّر الزمان والمكان؛ فمثلًا كانت حياة القروي في عهد الزراعة اليدوية لا تتطلَّب دقَّة التوقيت بالدقيقة والثانية، وأما حياة المصانع في العصر الجديد فتتطلَّب ذلك، ولكن كِلا الموقفَين لا يمسُّ مبادئ الأخلاق بالمعنى المعروف لهذه العبارة.
وواقع الأمر هو أن حياتنا تتغيَّر بالفعل نحو ثقافةٍ جديدة تتناسَب مع مُقتضيات عصرنا الجديد — عصر الصناعة التكنولوجية — فالقرية لم تعُد هي القرية التي عرفَتْها أجيالنا الماضية، حتى لقد اقتربت من أن تُصبح مدينة صغيرة، والمصانع الكبرى التي أُنشِئت هنا وهناك في أنحاء البلاد، تضمُّ عشرات الألوف من العُمال تحت سقفٍ واحد، يتقاسمون فيما بينهم عملًا واحدًا يؤدي بهم إلى مُنتجٍ واحد، فكان أن نشأت بهذه التجمعات الصناعية الجديدة، التي لم يكن للدنيا عهْد بها في كل ما مضى من تاريخها علاقات بشرية جديدة غيَّرَت من صورة الحياة الاجتماعية تغييرًا لا تُخطئه عين، وتغيَّرت كذلك في عصرنا وجوه كثيرة أُخرى، فليس البناء التعليمي هو البناء التعليمي منذ قرن، وتغيَّر نظام الحكم؛ فليست جمهورية اليوم كملكية الأمس. وتغيرت صُوَر التعبير في مجالات الأدب والفن، فلا الشعر هو الشعر، ولا الرواية أو القصة أو المسرحية عرفتها عصورنا الأدبية فيما مضى، ولا الفن التشكيلي تصويرًا ونحتًا وعمارة هو نفسه الذي عهده أسلافنا … لكن ذلك التغيُّر كله لم يُحقق لنا رؤية عصرية، لماذا؟ لأنه يجيء من حياتنا كما تجيء القشرة الخارجية التي لا تمسُّ الكيان الداخلي إلا بقدرٍ محدود، وأما الذي يتحكم في الكيان الداخلي بشكلٍ ملحوظ فهي الدعوة إلى أن نَصُبَّ حياتنا في قوالِب القدماء، فوقعنا بهذا في ازدواجية رهيبة، لا نعرف حيالها أين الصواب وأين الخطأ، وقد كان الأمر ليختلف اختلافًا شديدًا، لو اتَّسقَت الأصوات واتَّجهَت كلها نحو هدفٍ ثقافي واحد، يمَسُّ حياتنا الجديدة في الصميم.
إن للناقد الإنجليزي المعاصر «هربرت ريد» كتابًا عنوانه «إلى الجحيم بالثقافة» والكتاب مجموعة مقالات في النقد، أولها وأطولها هي المقالة التي جعل عنوانها عنوانًا للكتاب. وفي تلك المقالة يُبيِّن «ريد» وجوب أن تكون «الثقافة» في شعبٍ مُعين، ساريةً في أصلاب الحياة الاجتماعية، وألا تَستقِلَّ بذاتها وكأنها كيان قائم برأسه، لا شأن له بتيَّار الحياة، ولقد كان هذا الدمج التامُّ بين الثقافة وحياة الناس — فيما يقول «ريد» — هو الشأن في كل عصور التاريخ الماضية، فلم يكن الفنان التشكيلي يرسُم لوحاته، أو ينحِتُ تَماثيله ليُرضي مزاجَه الخاص، ثم ليبيع مُبدَعاته في الأسواق لمن يشتري، بل كان يصنع فنَّهُ ليخدم به معبدًا أو غير المعبد من معالم الحياة العامة، وكذلك كان الشاعر والكاتب والعارف، وأما في عصرنا فقد انحرفت «الثقافة» عن مجراها التاريخي، حتى لنراها في حالاتٍ كثيرة تسير في طريقٍ بينما يسير زخم الحياة في طريقٍ آخر، وهذه الثقافة التي تسلُخ نفسها عن التيار التاريخي، هي التي أشار إليها «هربرت ريد» في عنوانه: «إلى الجحيم بالثقافة».
وإني لأشعر آسِفًا، بأن هذه الصيحة الغاضبة من ذلك الناقد القدير، تكاد تفرض نفسها على قلَمي، كلما نظرتُ إلى حياتنا الثقافية، فوجدتُها مُفرَّقة الأهداف وبأن هدفًا من تلك الأهداف وربما كان أقواها وصولًا إلى جمهور الناس، هو أن نُلغي وجودنا الخاص، لننخرِط في قوالب السلَف وكأنه لا زمَن ولا تغيُّر في حياتنا مع ذلك الزمن …