هيكل البناء
والبناء الذي نُريد أن نتحدَّث عنه، هو البناء الثقافي من حياتنا، وحقًّا أن صورة الشيء — أي شيء — لا تكتمِل في الأذهان، ولا يكون لها رسوخ، ولا يسهل على الذاكرة استعادتها، إلا إذا تصوَّرْنا هيكل بُنيانها على أي الخطوط وأي الركائز يُقام، تمامًا كما نتبيَّن قوام الكائن الحي من هيكل عظامه: لقد كنتُ في أسفاري الكثيرة شديد الولَع بمعرفة المدن التي أُقيم فيها؛ فكان أول ما أبحث عنه في مدينة حلَلْتُ بها، هو خريطتها؛ أنشُرها أمامي لأُمعِن النظر إمعانًا طويلًا في شوارعها وميادينها كيف تتقاطع أو تتوازى؟ وأظلُّ هكذا حتى ترتسم الصورة في مخيلتي؛ وبعد ذلك أُقَسِّم المدينة أقسامًا، لأُخصِّص قسمًا لكل يوم من أيام إقامتي، لأتجول في أرجائه سيرًا على الأقدام، ووقوفًا بما يَستحِقُّ الوقوف عنده من معالِم المدينة، وبهذا كنتُ أُغادرها وقد رسخَتْ لها في ذاكرتي صورة هيهات لها أن تُمحى.
وهذا الذي كنتُ أفعله في زيارة المدن، أو غير المدن مما يُزار، أفعله هو نفسه — أو ما يُماثله — إذا قرأت كتابًا، أو مقالًا، أو أردتُ الخروج بفكرةٍ مُحددة عن كاتبٍ مُعين في كل ما كتبه وقرأته له، وهو أن أبحث عن «الهيكل الفكري» الذي كساه الكاتب لحمًا بما ذكَرَه من تفصيلات؛ فإذا لم أقع على هيكلٍ يُبين أصلاب الفكرة المعروضة وشرايينها، عرفتُ أنها «دردشة» دردش بها الكاتب ليُزجِّي فراغًا وليُهيِّئ لقارئه فرصةً لإزجاء فراغه، ولكن لا هو يملك فكرةً يريد عرضها، ولا قارئه خارج منه بفكرة تبقى معه حينًا يقصر أو يطول.
وفيما أنا بصدَدِه من مُحاولات أمَسُّ بها حياتنا الثقافية الراهنة، طالبتُ نفسي بالبحث عن «هيكل» للبناء الثقافي كما أتمنَّاه للوطن العربي بعامة ولمصر بخاصة كي يسهل عليَّ الفهم وبالتالي يسهل الإفهام. ولم أكد أُطالِب نفسي بهذا حتى شاء لي الله رب العالمين، ولِسببٍ لا أدريه ولا أتبَيَّنه، شاء لي أن يجري لِساني بِقول الله في كتابه الكريم: … وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا … فما أنا إلا أن نقرتُ ظهر المكتب بإصبعي، هامسًا في فرحة الظافر: «هذا هو البناء الثقافي الكامل وهيكله» ثم انتقلتُ بعد ذلك إلى تحليلٍ وتفصيل.
إنك إذا استعرضتَ الأنماط الثقافية التي عاشها الإنسان هنا وهنا وهناك، من أرجاء الأرض وفي مختلف الحضارات، رأيت طرفَين يروح بينهما الإنسان في ثقافته ويَجيء، وهما السماء بكلِّ ما ترمز إليه، والأرض وما تتعلَّق به ويتعلَّق بها من ظواهر الكون. وأما السماء فترمز بها إلى الديانات بعقائدها وتشريعاتها وأخلاقياتها، وأما الأرض والكون كله معها فنرمز بها إلى ميادين العِلم والعمل على اختلافها، وبين هذين القُطبَين يعيش الإنسان، فيه بدن من طينة الأرض وجنسها، وفيه روح هي بمثابة همزة وصل بينه وبين السماء وما تَعنيه، وعلى أعمدة هذا الهيكل وقوائمه، رأينا ثلاث صورٍ للإنسان في حياته الثقافية: كان خيرها صورة يتوازن فيها الإنسان بين طرفَي السماء والأرض، فهو عابد لله وهو في مَجال دينه، وهو أيضًا عابد لله وهو في دُنيا العلم والعمل فوق هذه الأرض، وأما الصورتان الأُخرَيان، فهما ضربان من التطرُّف، فإما أن يستغرق الإنسان طاقة حياته متعلقًا بالسماء وما ترمُز إليه مُهمِلًا شئون الأرض بل مُزدريًا لها مُحقِّرًا من شأنها، وإما أن يتعلق بالأرض التي هي دُنياه علمًا وعملًا، فإذا كان التطرُّف بالصورة الأولى وصفوا حياة الإنسان الثقافية في جُملتِها بأنها «روحانية» وإذا كان التطرُّف بالصورة الثانية وصفوا حياة الإنسان الثقافية عندئذٍ بأنها «مادية»، وإننا لنجد الصور الثلاث جميعًا في كل نمَط ثقافي عرفه الإنسان: فهناك من الناس من يتوازن بالجمع بين الطرفَين وهناك منهم من يتطرَّف إلى أعلى، ومنهم من يتطرف إلى أسفل، إلا أن العصور التاريخية وكذلك الشعوب المختلفة قد يغلِب على العصر المُعيَّن منها، أو الشعب المُعيَّن، صفة غالبة تُميِّزه: اتزانًا أو تطرفًا هنا أو تطرفًا هناك. ولو أنَّنا وجَّهنا أنظارنا نحو ما هو كائن بين «السماء وما بناها» و«الأرض وما طحاها» من كائناتٍ أُخرى غير الإنسان، من نجوم وكواكب وذر ونبات وحيوان لَما وجَدنا فيها ذلك التذبذب بين هذا وذاك الذي نراه في الإنسان؛ لأن الخالق جلَّ وعلا قد ألهم تلك الكائنات جميعًا خطًّا واحدًا تسير فيه، وكان الإنسان وحدَه دون سائر الكائنات هو الذي أُلهِمت نفسه اختيارًا بين قُدرتَين فإما فجور إذا أراد، وإما التقوى إذا أراد، وعليه آخِر الأمر يقع الحساب فيما يختار، ومن هنا رأيناه قد اضطرب بين تطرف واتزان.
ونحن إذ نَستخدِم صِفتَي «الاتزان» و«التطرف» بشقَّيه، لا نُطلق الأسماء جزافًا، فإذا تذكَّرنا في وعيٍ وفَهم، أن من بَنى السماء هو من طحا الأرض، وهو الذي سوَّى النفس الإنسانية على نحو ما سواها، كان لنا كل الحق في أن نصف بالاتزان إنسانًا عرف كيف يجمع في نفسه على التقوى سماءً وأرضًا في وقتٍ واحد، بمعنى أن يجمع في ثقافته دينًا وعلمًا وعملًا، بأقدارٍ تجعل الأركان الثلاثة عمدًا تحمل معًا سقفًا واحدًا، وإذا كان اتزان النفس يكمل للإنسان بهذا الجمع المُتعاون، نتج عن ذلك أن يكون الاكتفاء بجانبٍ واحدٍ دون الجانبَين الآخرين، أو بجانبَين دون الثالث، موقفًا منقوصَ البناء مُعرضًا للانهيار.
وفي هذا الإطار نستطيع الحكم على ثقافتنا وثقافات غيرنا، بما يتَّجه نحو الكمال منها وما يتَّجه نحو النقص والتشويه. ونظرة عجلى إلى شريط الحضارات وثقافاتها قد تُوضِّح لنا — على ضوء الهيكل الذي قدمناه — بأن الحضارة الفرعونية توازنَت فيها الثقافة مع بعض الرجحان نحو السماء، فقد امتلأت أرضُهم بالصناعة والفن والتشييد والحرب ونظام الحُكم، إلا أن الدِّين كان هو دافع هذا النشاط كله، وكذلك توازنَت الحضارة العربية في ثقافتها في عصر المأمون في القرن التاسع الميلادي وامتداده إلى القرن الحادي عشر الميلادي، لأننا إذا أخذْنا رسائل إخوان الصفا في موسوعيتها علامة على نزعةِ الحياة الثقافية عندئذٍ وجَدْنا اهتمام القوم قد انصبَّ على كل فروع العِلم على حدٍّ سواء، لا فرق في ذلك بين علومٍ طبيعية وعلوم دينية، لكن الحياة الثقافية في أوروبا إبَّان عصورها الوسطى (من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر) قد تطرَّفت نحو السماء لدرجةٍ ملحوظة، والحياة الثقافية في الدولتَين العُظمَيين في عصرنا هذا قد تطرَّفت نحو الأرض بدرجةٍ ملحوظة كذلك.
تلك أمثلة مختارة بمِقياس كبير، فإذا ضيَّقنا مقياس الرسم لننظُر إلى مساحاتٍ محدودة في دُنيانا نحن الثقافية وفي زماننا الحديث منه والمعاصر؛ قُلنا إن عناصر حياتنا الثقافية قد توازنت خلال الفترة المُمتدة من أواخر القرن الماضي وإلى نهاية النصف الأول من هذا القرن، ففي كل فردٍ من الأعلام الذين حملوا عبء الثقافة على عواتقهم تجِد الجمع بين التأثُّر بموروثنا الثقافي والتأثر بتيَّارات الفِكر في الغرب في توازنٍ يلفِت النظر، في حين أنَّ الفترة الراهنة التي نجتازها وبصفةٍ خاصة خلال السبعينيات والثمانينيات تشهد انحرافًا واضحًا نحو السماء في تكرارية وببغائية تكاد تخلو من لمعة الذكاء.
وهذه الفترة الأخيرة هي التي تُهمُّنا بالدرجة الأولى، لأنها هي الفترة التي نتنفَّس هواءها، وهي الفترة التي نعنيها حين نشكو من حالة التعليم والإعلام والثقافة، فإذا سألْنا بل ولا بدَّ لنا أن نسأل: ماذا نحن صانعون؟ كان الجواب — فيما أظن — واضحًا في ضوء الهيكل البنائي الذي رسَمْناه، فالذي ينقُصنا هو أن ننظر إلى السماء وإلى الأرض معًا، نظرتنا إلى العقيدة من جهة والجهاد في سبيلها من جهةٍ أخرى، ويكون هذا الدمج بين الطرفَين هو المضمون الإنساني الذي يتمثَّل في كل فردٍ من أبناء الشعب، شريطة أن يتَّسِع بنا أُفق النظر حين ننظُر إلى الجهاد المطلوب بحيث يكون «العلم» بكل فروعه بحثًا وتحصيلًا وتطبيقًا فريضةً من العقيدة تتطلَّب الجهاد في سبيلها، وكذلك قل عن دُنيا العمل بكل جوانبها من صناعةٍ وزراعة ومِهنة وحرفة، فهذه كلها فروض تفرضها العقيدة المُوحى بها من السماء، وينبغي الجهاد في سبيلها. ويتوازى مع العقيدة والجهاد في سبيلها بالعلم وبالعمل نشاطٌ إبداعي في عالم الفن والأدب ليحمِل في طيِّه انعكاسات ما تموج به نفس المواطن العربي من هذا كله.
على أن الآيات الكريمة حين أشارت إلى النفس الإنسانية في تردُّدها بين السماء والأرض أشارت إلى ازدواجية تلك النفس بين فجور وتقوى؛ بمعنى أن في فِطرتها ما يمكن أن يميل بها نحو هذا وما يمكن أن يميل بها نحو ذاك، وبهذا يُقام المعيار الذي نُميِّز به بين من حسُنَت تربيته وثقافته وتعليمه، وبين من ساءت فيه هذه الجوانب، إذ ماذا يصنع المُربي فيمن يُربيه، والمُعلم فيمن يُعلمه، وصانع الثقافة فيمن يتلقَّى صناعته، ماذا يصنع هؤلاء إذا لم تكن حصيلة صناعتهم إنسانًا يَقْوى فيه الجانب المُتجه به نحو التقوى بمقدار ما يَضعُف فيه الجانب المُتجه به نحوَ الفجور؟ وربما كان هذا الموضع من حديثنا هو المناسبة الصالحة لِلَفتِ الأنظار إلى حقيقة هامَّة شديدة الصِّلة بعصرنا، وهي أن «العلم» مُحايد حيادًا تامًّا بالنسبة إلى التقوى والفجور، أي إلى ما فيه خير الإنسان وما فيه الشر للإنسان، وإنما يأتي الخير والشر نتيجة لحُسن استخدام ذلك العلم أو لسوئه؛ فالعلم في ذاته قوة وعلى الإنسان أن يتزوَّد منها ما استطاع أن يتزوَّد، ثم تأتي التربية، وتأتي الثقافة لتزرعها في الأفئدة إحساسًا بالحدود التي تُقيد استخدامنا لقوة العلم التي اكتسبناها، فإذا كان العلم قد كشف السرَّ عن ذلك المارد الجبار، الذي هو تلك الذرة الشيطانية التي صغرت حجمًا حتى لتدقُّ فلا تُرى بأعظم المجاهير، ولكنها انطوت على قوةٍ تُثير فينا الدهشة والذهول، فها هنا يكون على العلم أن يستخلص قوانين ذلك المارد الصغير الكبير، ثم يكون على التربية والثقافة من ناحيةٍ أخرى أن تبُثَّ القيم الإنسانية في صدور الناس ليتعلموا متى وإلى أي حدٍّ يجوز ذلك الاستخدام، ومتى وإلى أي حدٍّ لا يجوز ولقد نجح عصرنا في تحصيل العِلم ونشره ولكنه فشل في زرع الضوابط القيمية في الصدور.
الانحراف الذي يميل بأصحابه إلى تطرُّفٍ إما إلى أعلى وإما إلى أسفل مصدره دائمًا هو خطأ الظنِّ بأن ثمَّة تنافرًا بين السماء والأرض بحيث تجمعهما مصلحة واحدة، فإذا رجحت كفة السماء خفَّت حتمًا كفة الأرض، وإذا علا شأن الأرض وشواغلها انخفضت حتمًا شئون السماء، فلَكَم شهِدنا في أمور الحياة الجارية كيف أنَّ المُتطرفِين في الدين وكذلك من كان الاشتغال بالدين مورد أرزاقهم ومكانتهم بين الناس، كيف أنَّ هؤلاء جميعًا يغارون أشدَّ الغيرة على الدين، من أي نجاحٍ يُصيبه المُشتغلون بأمور هذه الدنيا علمًا وثروةً وجاهًا، وغير ذلك مما لا يتَّصِل بالحياة الدينية اتصالًا مباشرًا كأنما الطرفان في رأيهم نقيضان لا يجتمعان معًا في نجاحٍ واحد، فلقد سمع كاتب هذه السطور أستاذًا جليلًا وهو يتحدث إلى جماهير الناس مُستخفًّا بالعلم ونتائجه استخفافًا عجيبًا، فلمَّا كان حديثه دائرًا حول أولئك الذين أتعبوا أنفسهم عبثًا ليصعدوا إلى القمر أمسك بمنديلٍ من الورَق أخرجَه من علبةٍ أمامه ورفعه بيدِه ليقول، إن هذه الورقة أنفع من كل ما صنعوه في ذلك السبيل، وفات الشيخ الجليل عندئذٍ أنه وهو يُعلِن هذا الرأي العجيب ربما كان حديثه ذاك يُذاع بواسطة قمر صناعي ليستمع إليه ثُلث سكان الأرض في لحظةٍ واحدة، والأقمار الصناعية هي إحدى النتائج الفرعية التي تفرَّعَت عن العمليات العلمية التي أدَّت بالإنسان إلى بلوغ القمر ليمشي على سطحه بقدمَيه لأول مرة منذ خلق الله تعالى الكون وما فيه، وكذلك سمع كاتب هذه السطور بأُذنَيه أستاذًا جليلًا يقول للناس في معرِض حديثه عن عجز الإنسان وقصوره، وكان العلماء في بلد من بلاد الأرض قد أذاعوا في قومهم نذيرًا بأن بركانًا على أرضهم وشيك الانفجار، يقول للناس إن هؤلاء العلماء قد ضلوا سواء سبيلهم حين ظنوا بأنفسهم القدرة على التنبؤ بالغيب … والأمثلة لا آخِر لها، لِما يقوله المتطرفون في الدين أو المُشتغِلون به إذا ما نجح العلم في كشوفه ومغامراته، وهم يقولون ما يقولونه غيرةً على الدين من أن تُحيط به شكوك؛ بسبب ما وُفِّق إليه العلم من رفع للأستار عن بعض السِّر المَكنون في جنبات هذا الكون العظيم، وعكْس ذلك قائم عند بعض المُشتغِلين بالعلم، وذلك بالنسبة إلى موقفهم إزاء الدين، فلأنهم يرَون اختلافًا شديدًا في منهج الإنسان بين الحالتَين: حالة إيمانه الديني وحالة بحوثه العلمية، فبينما هو في الحالة الأولى يؤمن أولًا بما يؤمن به ثُم يبحث ويُحلِّل ذلك الذي آمَن به وذلك إذا كان من القادرين على البحث والتحليل والراغبين فيهما، أقول إنه بينما الإنسان في حالة إيمانه الديني يؤمِن أولًا ثم قد يُحلل ويُعلل ما قد آمَن به، فإنه في حالة النَّظر العلمي يبدأ بالتحليل والتعليل لعلَّه ينتهي آخر الأمر بما يؤمِن أنه صواب، وحين يشعُر بعض المُشتغلين بالعِلم بهذا الفارق المنهجي بين الحالتَين تأخذهم خشية الخلط بينهما؛ إذ ربما كان الخسار في هذا الخلط واقعًا على العِلم وأصحابه.
والفريقان كلاهما: رجل الدين في غيرته على الدين من نجاح العلم، ورجل العلم في حِرصه على أن يُسلِّم البحث العلمي من سرعة التصديق في نتائج مُعينة قبل استيفاء البحث المُدقِّق الغامض أقول: إن الفريقين كليهما خاطئ في ظنونه، لأن لكلٍّ منهما جانبًا يُدير حوله اهتمامه، لكن الجانبَين معًا يَصنعان إنسانًا واحدًا ويصنعان كونًا واحدًا ويؤمِنان بإلهٍ واحد، وكيف يكون ذلك؟ إنه يكون ويتَّضح أمام العقل وضوحًا ناصعًا إذا نحن فرَّقنا — في كل ظاهرةٍ مما نتناوله بالبحث والنظر — بين «الفعل» و«المفعول». وخذ مثلًا يُوضِّح لك ذلك؛ يُصاب الإنسان بجرحٍ فيُشير عليه الطبيب بدواء؛ فيندمل الجرح، وهنا قد يقول رجل العِلم (علم الطب في هذه الحالة) إنه العلم ونجاحه فيخاف رجل الدين أن يكون في ذلك القول انتقاص من قدرة الله فيحتجُّ قائلًا: بل هو الله سبحانه هو الشافي: وسِرُّ الخلاف بينهما هو أنهما لم يُفرقا بين «الفعل» و«المفعول»؛ فالتِئام الجرح مفعول أدَّى إليه الدواء، ولكن لماذا كان لذلك الدواء «فعله»؟ لماذا تتصرَّف أنسجة الجلد بمِثل ما تتصرف به حين وُضِع عليها الدواء؟ قد يستسهل مُجيب أن يُجيب على ذلك بقوله إنها «طبائع الأشياء» لكن المؤمن بالله يُفضل أن ينسِب ذلك «الفعل» إلى فاعل هو الخالق جلَّ وعلا الذي جعل للأشياء تلك الطبائع، إذن لا تناقُض بين رجل العِلم هنا ورجل الدين، فالأول عُني ﺑ «المفعول» أي بالظاهرة التي نتجت وأصبحت شيئًا مرئيًّا للعَين وأعني «الجرح» في هذه الحالة، ورجل الدين اتَّجه بنظره إلى «الفعل» وفاعله.
فالعلم في كل ميدانٍ من ميادينه يُدير بحثه حول «الظاهرة» المُعينة التي هي مَوضع بحثه، ولا يفوتك هنا كلمة «ظاهرة» ومعناها، فالعِلم مجاله ما يظهر من حقائق الأشياء.
وأما ما وراء الأسطح الظاهرة من قوى تؤدي إلى ظهورها، فليس ذلك من شأنه وهو في لحظة البحث العلمي، وانحصار العِلم فيما «يظهر» أو في الذي يمكن استدلال وجوده من ذلك الظاهر، أمر لا يشين العلم ولا يَعيبه ولا يؤخَذ دليلًا على عجزه، فعجزُه أو قُدرته إنما يكون داخل مجال اختصاصه وهو «الظواهر» وقوانين العِلم جميعًا، إن هي إلا صِيَغ دقيقة تُصاغ برموز الرياضة أحيانًا وبألفاظٍ من اللغة، وذلك بحسب مادة الموضوع صياغة يُراد بها أن يتنبَّأ الإنسان في دقَّة ما عساه يحدُث في عالَم «الظواهر» إذا ما توفَّرت عوامل مُعينة، وواضح أن أية «ظاهرة» كالمطر، أو الزرع، أو الريح، أو المرض، أو ما شئتَ، إنما هي «مفعول» تُدركه حواسُّنا لكنه نتج عن «فعل» خافٍ لا تُدركه الأبصار فتؤمِن به البصائر والقلوب.
وأستجمِع ما قُلته ليُصبح واضحًا أمام القارئ: فلقد حاولنا أن نفهم الحياة الثقافية أينما وقعَت في ضوء «هيكل» نظنُّ أنَّ على أضلاعه وركائزه يُقام لتلك الحياة الثقافية بناؤها، وكان الهيكل الذي قدَّمناه هو السماء في أعلى والأرض في أسفل والإنسان بينهما صاعدًا هابطًا بما وضعَه فيه خالقه من إرادةٍ حُرة الاختيار بين طيِّبٍ وخبيث، فالسماء هنا رمز للوقفة الدينية الإيمانية بكل ما يتفرَّع عنها من فروع، والأرض رمز لها والكون كله معها، وذلك هو ميدان العلم والعمل، ثم زعمنا أن الفرد من الأفراد أو الشعب من الشعوب أو العصر من العصور يأخذ طابعه الثقافي من إحدى وقفاتٍ ثلاث إزاء هذا البناء الهيكلي: وقفة تميل نحو السماء ولا تجعل للأرض قِيمة إلا بالحد الأدنى، وأخرى تميل نحو هذه الحياة الأرضية وما يلتفُّ بها ولا تفرغ لما هو غيبٌ إلَّا بالحد الأدنى كذلك، ووقفة ثالثة تتوازن فيها الجوانب، وسبيل ذلك عندَها هو ألا تفهم السماء والأرض أو قُل الغيب والشهادة أو إن شئتَ فقل الآخرة، والأولى أقول إن الوقفة الثالثة لا تفهم أيًّا من هذه الثنائيات إلا على أنَّ كل واحدةٍ منها هي حقيقة ذات طرفين، ويستحيل على الإنسان أن يحيا أحد الطرفَين إلا وهو موصول بالطرف الآخر فلا آخرة إلا وهي مسبوقة بالأولى، ولا ظواهر يضعها العلم موضوع بحثٍ إلا ووراءها غيب شاء لها أن تظهر كما ظهرت … وبهذا المقياس المُكتمل الناضج المُتمثل في الوقفة الثالثة يكون حُكمنا على حياتنا الثقافية في هذه المرحلة من تاريخنا، وفي أية مرحلة سبقت خلال ذلك التاريخ.
لكِنَّنا ونحن بصدَد الحُكم على حياةٍ ثقافية في إحدى مراحلها عند شعبٍ مُعين، وأذكر أن موضوع حديثنا هذا مُنصب في المقام الأول على حياتنا نحن في مرحلتنا التاريخية هذه، أقول إننا إذا أردْنا حكمًا كهذا وأردنا لهذا الحُكم أن يكون مُنصفًا ما استطعنا وجب علينا النظر في تفصيلات الجوانب المختلفة التي تتألَّف منها حياة الناس الثقافية، سواء أكانت نزَّاعة نحو السماء أم نحو الأرض أم نحو التوحيد بين الطرفَين. ولكي تقدم صورة تُبين تفصيلات حياتنا الثقافية الراهنة سعيًا وراء حُكم منصف لها أو عليها أراني مُضطرًّا إلى الاستعانة بهيكلٍ بنائي آخر داخل الهيكل الذي أسلفتُ الحديث عنه، وأما هذا الهيكل الفرعي الذي أُحاول به أن أضم التفصيلات الكثيرة في رسمٍ قليل الخطوط فهو أن أدعوك لنتصوَّر سُلَّمًا من ثلاث درجات وأُقيمت على جانب السُّلم سنَّادة يستنِد إليها الصاعد أو الهابط.
وأولى هذه الدرجات من أسفل تُمثل المُتفرقات الأولية التي يعرف كل فرد قليلًا أو كثيرًا منها، فكل فردٍ يعرف شيئًا عن السلع المعروضة في الأسواق وأسعارها، وشيئًا عن الأحزاب السياسية القائمة وصُحفها، وشيئًا عن مدارس التعليم ومعاهده وجامعاته، وشيئًا عن القرية والفلاح والأرض الزراعية وما أصابها، وشيئًا من الكرة ومبارياتها، وشيئًا عن حياة المرأة ومُشكلتها بين القرار في البيت أو الخروج إلى العمل وهكذا وهكذا؟ تلك المعارف المُتفرقة عن هذا وهذا وذاك يُكتَب عنها ويذاع ويَتحَدَّث عنها الناس بعضهم مع بعض، ومن هنا كان لكلِّ فردٍ من أبناء الشعب نصيبٌ منها قلَّ ذلك النصيب أو كثر.
تلك كانت أولى درجات السُّلَّم المعرفي من أسفل، فإذا كُتب لك أن تكون من الصاعِدين إلى الدرجة التي تعلوها وجدتَ هناك بدل المعلومات المُتفرقة التي صادفتْك في الدرجة الدنيا، علومًا يُحاول كل علمٍ منها أن يضمَّ أشتات المُتفرقات في قوانين عامة تضمُّها، فللاقتصاد قوانينه العلمية، وللسياسة نظرياتها وللتعليم مناهجه، وللزراعة قواعدها العلمية وهكذا.
ثم تصعد في السُّلم إلى الدرجة الثالثة والعُليا وهي في حقيقتها درجة تفعل في «علوم» الدرجة السابقة عليها ما كانت تلك الدرجة السابقة نفسها قد فعلته في مُتفرقات المعلومات التي شهدتها الدرجة الأولى من أسفل السُّلَّم، فكل درجة إنما تَستخلِص من سابقتها تصميماتٍ تُوجِزها وتكشفها، فقد رأينا كيف عملت «علوم» الدرجة الوسطى على تقنين المعارف المُتفرقة التي حصَّلناها في الدرجة السُّفلى، وها نحن أولًا، نقول القول نفسه عن الدرجة العُليا بالنسبة إلى ما دونها؛ إذ هي تستخلص من قوانين العلوم ونظرياتها «وجهة نظر» عامة وشاملة، تُبين حدود الرؤية التي في إطارها نُريد للإنسان أن يرى حياته في كل فرعٍ من فروعها، وهذه «الرؤية» العامة والشاملة هي من حياتنا بمثابة الدستور الذي تتفرَّع عنه القوانين، ولهذا ترى الصاعِدين إلى الدرجة الثالثة من درجات السُّلَّم يشغلون أنفسهم بأفكارٍ عامة، لا هي من صميم العلوم ولا هي من صنف المعلومات المُتفرقة، هي أفكار بمثابة الخرائط التي تُبين طرق السير أمام السائرين أو بمثابة المناظير التي تُظهِر للعين ما كان قد خَفي عليها من حقائق الأشياء، وتلك الدرجة الثالثة من درجات السُّلَّم هي التي تجد عندها الفكر الفلسفي في معنى من معانيه أو قُل تجد عندها «الحكمة» التي من شأنها أن تحكم خطوات الإنسان على الطريق.
إلا أن تلك الدرجات الثلاث بكل ما اختصَّت به كلٌّ منها، إن تكن قد لخَّصت لنا صورةً لحياة المعرفة — في الفرد الواحد، وفي مجموعة الشعب — تلخيصًا أوضح معالمها، إلا أنها قد تركتنا ومعنا سؤال جائز، وهو هذا: إذا كانت تلك هي صورة البناء المعرفي للإنسان، فبماذا — إذن — يختلف شعب عن شعب؟ والجواب هو أن ثمة سنادة أو قُل بطانة تقوم عليها «هوية» الشعب الواحد، قوامها — عادةً — مجموعة مُختارة من المبادئ والقيم، وهي التي مثلناها بسنادة (درابزين) في جانب السلم بدرجاته الثلاث، يستند إليها الصاعد أو الهابط فمهما تكن الدرجة التي يقف عندها الفرد في حياته، فهو يستند إلى محصول من المبادئ والقِيَم تُبين منها الواجب والجائز والمُمتنِع والمصادر الأساسية التي يستمِدُّ منها تلك المجموعة من المبادئ والقيم هي الدين والأدب والفن والتقاليد والأعراف.
ولقد تولَّت مؤسَّسات في الدولة أو في المجتمع العام أمر العناية بكل درجةٍ من الدرجات الثلاث ومعها السنادة التي يتكئ عليها الصاعدون — سواء كنا على وعيٍ بهذا التقسيم أو على غيرِ وعي — فأما درجة المُتفرقات من المعلومات والمعارف فهي مهمة وزارة الإعلام بأجهزتها المختلفة، إذن يكون أساس الحُكم على عملها نجاحًا أو إخفاقًا هو: كم يعرف متوسط الفرد من أبناء الشعب عن جوانب حياته؟ وأما الدرجة الوسطى وفيها «علوم» تُقنن المعارف المُتفرقة، فشأنها موكول إلى وزارتي التعليم العام والتعليم العالي، بما يتبعهُما من مدارس ومعاهد وجامعات، ويكون أساس الحُكم عليها نجاحًا أو إخفاقًا، كم من «العلم» حصَّل الطالب، وكيف جاء ذلك التحصيل؟ وأما الدرجة الثالثة من درجات السُّلَّم وهي التي تتكوَّن فيها للشعب وجهة نظره، ويُضاف إليها جزء مما تؤدِّيه السنادة التي هي متكأ السائرين، فأمر ذلك هو لوزارة الثقافة إذن يكون الحُكم عليها بالنجاح أو بالفشل مؤسَّسًا على ما أدَّته أو تؤدِّيه في خلق «رؤية» قومية مُوحدة، في إطارها يعلم العالمون ويسلك السالكون.
وبعد الحُكم على هذه الهيئات نجاحًا وإخفاقًا تضم معًا في نسجٍ واحد هو نسج الحياة الثقافية التي نعيش اليوم في ظلِّها ننظر إليها خلال البناء الهيكلي العام ذي الوقفات الثلاث بالنسبة للسماء والأرض والإنسان بينها؛ لنرى أي وقفة منها تسود حياتنا، فنكون بهذه الأحكام المؤسسة على منهج للنظر قد ألمحنا بالحقيقة كما هي واقعة؛ فإذا رأينا بها خللًا أصلحناه.
فإذا سألتني: وما أحكامُك في هذا كله؟ أوجزتُ لك الجواب كما يلي: وأبدأ بالهيكل الفرعي ذي الدرجات الثلاث وسنادتها، فأقول بأن الدرجة الأولى من أسفل التي قُلت عنها أنها في رعاية وزارة الإعلام وهي الدرجة التي تُعرَض فيها على الناس معلومات مُتفرقة عن جوانب حياتنا؛ فظنِّي هو أن حصيلة الفرد المُتوسط منها منقوصة ومُشوهة، وعلة النقص والتشويه فيها هي حرص المشرفين عليها أن يلتمسوا طريق السلامة والعافية فاجتنبوا كل ما عساه يُسيء إلى هذا ويؤذي مشاعر ذاك، وأما الدرجة الوسطى وفيها «العلوم» النظامية بمدارسها ومعاهدها وجامعاتها فهي تُخرِّج لنا — بصفة عامة — شبابًا كأنهم جسَّدوا بأشخاصهم «المُذكرات» التي حفظوها، فلا اكتمال ولا ابتكار ولا مغامرة ولا نقد ولا طموح، وأما الدرجة الثالثة من درجات السُّلَّم التي تقع في رعاية وزارة الثقافة والتي كنَّا نتوقَّع منها وحدة الرؤية ووحدة الهدف فلا أظنُّ أنَّنا في كل تاريخنا الماضي قد تمزَّقنا بين عدة رؤى وعدة أهداف كما تمزَّقنا اليوم. وإني لأشهد بأنه إذا كان في الهيكل جانب على شيءٍ من السواء فهو في سنادة المبادئ والقيم (من الوجهة النظرية)، فهذه تجد نصيبًا موفورًا من التعبير عنها فيما يُذاع ويُنشَر من أدب وفن؛ فإذا نقلنا هذا كله مُجتمِعًا إلى الهيكل البنائي العام وجدتَنا أبعدَ ما يكون الناس عن الوقفة المُتوازنة بين سماءٍ وأرض بين دِين ودنيا بين علمٍ وعقيدة، وأقرب ما يكون الناس إلى تطرُّفٍ أصمَّ وأعمى.