لمسة الواقع
كان الوقت يومًا من أيام الصيف، في سنة ١٩٤٧، وكان المكان محطة فكتوريا بلندن، حيث كنتُ عند نقطة البدء من طريق عودتي إلى مصر، ولم تكن الطائرة يومئذٍ هي الوسيلة التي يلجأ إليها مسافر أول ما يلجأ، وإنما كان الطريق المُعتاد لمن يُسافر من لندن إلى القاهرة، هو أن يأخذ القطار إلى ميناء دوفر على الشاطئ الجنوبي من إنجلترا، ومن هناك يركب سفينة تعبُر به بحر المانش (كما يُسمَّى بالفرنسية) أو بالخليج الإنجليزي (كما يُسمَّى بالإنجليزية) وكانت تلك السفينة تتَّجِه إلى ميناء كاليه على الشاطئ الشمالي من فرنسا، ومن هناك يكون القطار — أو القطارات — إلى ميناء مرسيليا في الجنوب الفرنسي، وأخيرًا يركب المسافر إلى مصر سفينة تعبُر به البحر الأبيض المتوسط إلى ميناء الإسكندرية … ففي ذلك اليوم حين كنتُ في محطة فكتوريا في ساعةٍ مبكرة من الصباح، كانت تلك هي نقطة البدء من طريق السفر إلى أرض الوطن، وعندئذٍ جاءني يلهَث موظف من مكتب البعثات المصرية. ومعه برقية وردَت من مصر تقول: يُطلَب من فلان المرور بباريس في طريق عودته، لحضور المؤتمر الفلاني الذي تُنظِّمه «اليونسكو». وفي مزيجٍ من الدهشة والحيرة والفرحة، عاونني ذلك الموظف على إلغاء إجراءات سفري لأعود إلى مَسكني في لندن، مُستأذِنًا صاحبته في إقامتي يومًا آخر، أعددتُ فيه نفسي إعدادًا جديدًا، لأُرسِل إحدى حقيبتيَّ الاثنتَين شحنًا إلى القاهرة، ولأضع في الأخرى ما يَلزمني من ثيابٍ وغير ثياب في أيام إقامتي بباريس.
علمتُ عند أول وصولي إلى باريس أن الموضوع الأساسي في المؤتمر هو عن «الثقافة»: أهي ثقافة واحدة للإنسان أيًّا كان موطنه؟ أم هي ثقافات تتعدَّد بتعدُّد الشعوب والأوطان؟ والحق أن تلك كانت أول مرة أسمع فيها بمشكلةٍ كهذه، وذلك أني كنتُ حتى ذلك اليوم، على يقينٍ ثابت بأن الحضارة الأم هي في كل عصر حضارة واحدة، يُفرزها من هو في ذروة السلطان الفكري بين الشعوب، ومن تلك الحضارة الأم في عصر مُعيَّن، تنبثِق أشعة تُضيء أرجاء العالَم بدرجاتٍ تتفاوت بتفاوُت قُدرات تلك الأرجاء، ومع الحضارة الأم تقوم ثقافتها، وأظنُّ أن الفرق واضح بين المعنيَين: فالحضارة هي المنشآت والنظم، وأما الثقافة التي تُصاحِب تلك الحضارة فهي الجانبان الفكري والوجداني اللذان يؤثِّران في تشكيل تلك المنشآت والنظم، ثم يعود فيتأثر بها، كانت الثقافة العربية الإسلامية هي الثقافة — من فكر ووجدان — التي تولَّدَت عنها حضارة عربية إسلامية لها مُنشآتها ونظمها التي تحمل طابعها.
ثم عادت تلك النظم والمنشآت بدَورها لتؤثِّر في ترسيخ الطابع المُميز لتلك الثقافة وتعميقه، ومن ذلك المصدر العربي الإسلامي، انبثقت الأشعة في سائر الأرجاء، فلمَّا مالت شمسها نحو غروب، كانت الظروف التاريخية في سبيلها إلى إقامة مصدرٍ جديد، هكذا كان الرأي عندي يوم حضرتُ مؤتمر باريس سنة ١٩٤٧، وهو أن المصدر الحضاري الثقافي واحد في كل عصر من عصور التاريخ، فثقافة واحدة تقترِب منها أو تبتعِد عنها سائر الثقافات، وكذلك حضارة واحدة للعصر الواحد، فلمَّا وجدت السؤال مطروحًا: أهي ثقافة واحدة للجميع، أم هي ثقافات تختلف باختلاف الشعوب؟ لم يكن لي بدٌّ من التفكير العميق في طبيعة هذه المشكلة لأرسُم لنفسي طريق السير في مناقشات المؤتمر.
فما هو المقصود بواحدية الثقافة أو تعدُّدها؟ إن اللغة — مثلًا — هي في صميم البناء الثقافي، فهل يُعقَل أن تعني واحدية الثقافة واحدية اللغة التي يَستخدمها العالَم أجمع؟ وإذا كان الجواب بالنفي، تبِع تعدُّد اللغات تَعَدُّد الآداب من شعرٍ ونثر … وعلى هذا الغرار يمكن السؤال عن واحِدية الفن وواحدية العُرف الاجتماعي والتقاليد وغير ذلك مما يُكِّون مقومات ذلك الشيء الذي نُسمِّيه «الثقافة» عند شعبٍ من الشعوب، إذن فالتعدُّد الثقافي بديهية تفرض نفسها، إلا أنك سرعان ما تُلحُّ عليك فكرة أخرى، لا تُلغي ذلك التعدُّد الذي ذكرناه، بل تُجاوره، وهي أن نوعًا من الواحدية الصورية لا بدَّ من قيامه بالنسبة للجميع في العصر الواحد، وذلك لأن العصر المُعيَّن — عادةً — يدور حول محورٍ رئيسي، كالدِّين أو الفن أو العلم، وذلك المحور الواحد البارز هو الذي يشعُّ في شتَّى الجهات ليُحدِث في الناس أينما كانوا، نقطة التقاءٍ مُشتركة في الذَّوق العام، فإذا كان المحور الأساسي هو العلم التكنولوجي — مثلًا — كما هي الحال في عصرنا، أخذ كل شعبٍ على وجه الأرض من ذلك الاتجاه بنصيب. بل أخذ كل فردٍ رشيد من أفراد شعبٍ بنصيب من إشعاعات ذلك المحور ونتائجه المادية والعقلية على حدٍّ سواء.
بهذه الخطوط العريضة حددتُ موقفي في مؤتمر باريس … بالنسبة إلى السؤال المطروح: فكان الجواب المبدئي عندي على ذلك السؤال هو: إنها ثقافات تتعدَّد شكلًا وروحًا، لكنها كذلك تتَّحِد في جِذر من جذورها، وهو ذلك الذي يعكس روح العصر مُمثلًا في حضارته الأم، وما يَسبقها ويَلحقها من ثقافةٍ تُلائمها، وتلك الحضارة الأم في عصرنا هي حضارة الغرب، ومحورها الرئيسي هو العِلم وما يتَّصِل به من منهج النظر، وبهذه الثنائية المعيارية تحدَّثتُ وضربتُ الأمثلة، فإذا أردْنا الحُكم على الثقافة الهندوكية في عصرنا — مثلًا — قبِلنا جوانبها الأصيلة في الموسيقى والتصوير والنحت، ورفضْنا تقديس البقر، وإذا أردْنا الحكم على الثقافة العربية في صورتها الراهنة، قبِلنا فنونها وأدبها وتصوُّرها الديني، ورفضنا تَواكُلها ورفضها للروح العلمية في منهاج النظر. وهكذا تحدَّثْت في ذلك المؤتمر على نحوٍ شدَّ انتباه الحاضرين.
ولقد حدث لي — بمحض المصادفة — أن جلستُ مع عضوٍ بريطاني من أعضاء المؤتمر، وأخذنا نتحدَّث حديثًا حرًّا، قد يمسُّ شئون المؤتمر من قريبٍ أو بعيد، وقد لا يكون ذا صلةٍ بالمؤتمر وشئونه، وفي غضون هذا الحديث، قال مُحدثي إنه قد استخلص من كلامي وطريقة سلوكي، أنني رجل يصبُّ اهتمامه على «الأفكار» ولا يُوجِّه اهتمامه إلى «الأشخاص» وصمت قليلًا، ثم قال: إنك تحيا داخل رأسك في فكرٍ أكثر جدًّا مما تعيش مع سائر الناس في واقع، فكانت تلك اللمحة التصويرية عن شخصيتي، جديدة عليَّ كل الجدة، إذ لم أكن قد فكرتُ قبل ذلك قطُّ في عناصر شخصيتي، ولو كنتُ قد فعلتُ فربما لم أكن لأقع على هذه الصورة. على أنِّي منذ تلك اللحظة شُغلت بالأمر، رغبة أكيدة منِّي في معرفة نفسي على حقيقتها، وكان من أهم ما عرض لي أثناء انشغالي بذلك التحليل، هو أني ذاتَ لحظةٍ سألت نفسي قائلًا: إذا صدق مُحدثي ذاك في تصويره لشخصي، أفتكون الصورة مقصورة عليَّ وحدي؟ أم هي — يا ترى — صورة تُمثل، بوجهٍ عام، شخصية العربي و«المصري بالتالي» أينما رأيته؟ ومنذ تلك اللحظة تحوَّلت القضية عندي إلى مشكلة، تعترِضني كلما فكرتُ في تحليل الوقفة العربية، وأحسَبني قد انتهيتُ آخِر الأمر، إلى أن «العربي» يحيا في رأسه أكثر جدًّا مما يحيا في الواقع الذي يُحيط به، وحتى لا يُدهَش القارئ لحُكمٍ كهذا، أسرع فأنتبه بأن «الكلام» بضاعة تتعلق بالرأس، قبل أن تكون موصولة بواقع، فربما دارت الألسنة في الأحلاق بِسَيل وراء سَيل من الكلام دون أن تكون في ذلك الكلام قوة تُقلقل حجرًا واحدًا من موضعه على أرض الواقع، وبعد هذا التوضيح، أعود فأقول إنني خلال تفكيري فيما قاله عني ذلك المُتحدِّث؛ وسَّعتُ السؤال لأسأل: ألا تكون هذه سِمة من سمات الشخصية العربية؟ إنها إذا كانت نكون قد وضَعْنا أصابعنا على مفتاحٍ لِما ينبغي أن نؤدِّيه في سبيل تغيير الثقافة العربية وتحديثها.
لكن لا بدَّ من التفرقة بين حالتَين لابتعاد الإنسان عن تفصيلات الواقع، إحداهما مشروعة وضرورية لأي تفكير علمي مهما كان ميدانه، والأخرى مرفوضة لأنها أقرب إلى الهذيان. فأما الحالة الأولى المشروعة والضرورية، فهي تلك التي يستخلص فيها الإنسان أحكامًا عامة من التفصيلات الجزئية التي تجري بها الحياة اليومية على أرض الواقع، وإذا قُلنا ذلك فقد قُلنا إن من فعل ذلك قد ابتعد عن وقائع الحياة، لكنه لم ينفصِل عنها، فافرض — مثلًا — أننا قُلنا عن الإنسان العربي إنه ذو أنفةٍ وكبرياء، شديد المَيل إلى إكرام الضيف ونجدة الملهوف، فهذا قول فيه تعميم لما يجري في حياة الناس، والناس أفراد: إبراهيم وعمر وزيد وخالد، والتعميم لا يذكر أحدًا بذاته من هؤلاء، كلَّا ولا يذكر موقفًا بذاته مما قد مورست فيه صفات الشمَمِ والكبرياء وإكرام الضيف، بل إن أي تعميم لا بد أن يعلو على تلك الأفراد والمفردات، ليصوغ في عبارته العامة ما هو مشترك بينها، لكنه برغم ابتعاده عن جزئيات الواقع، فإنه يستطيع أن ينزل إليها ليذكرها إذا ما طلب منه أن يبين الشواهد على صدقه، وأحسب أنني فيما أكتبه من أفكار مُجردة، إنما أتحرَّك في تعميمات من هذا القبيل، وهو أمر لا مناص منه في أي تفكيرٍ ينزع منزع العلم، وأحسب كذلك أن ذلك العضو البريطاني في مؤتمر باريس الذي لاحظ على شخصي بأنه مُوجه الانتباه إلى «الأفكار» التي في رأسه، وليس إلى «الأشخاص» من حوله، كان يقصد فيما يقصد إليه ذلك الضرب العلمي من الارتفاع عن تفصيلات الواقع، الذي يظلُّ في الوقت نفسه على صلةٍ ضمنية بذلك الواقع، يعود إليه إذا ما اضطر إلى العودة إليه للمراجعة أو لذِكر الشواهد على صِدق ما يذهب إليه.
وأما الحالة الثانية من الابتعاد عن الواقع، وهي الحالة التي زعمتُ بأنها قد أصبحت خاصَّة من خصائص الثقافة العربية في تاريخها الحديث والمعاصر، فهي حالة فيها «انفصال» عن وقائع الحياة الجارية، فسَيل الكلمات الذي يتدفَّق من الأفواه، أو تجري به الأقلام، كثيرًا جدًّا ما يَجيء مَبتور الصِّلة بحقائق الدنيا كما هي حادثة وواقعة؛ ولذلك فكثيرًا ما تُباغتنا الأحداث الجسام دون أن نكون منها على قليلٍ أو كثيرٍ من تدبُّر وتوقع وحساب. والعجب أنك إذا وجهت أنظارهم إلى ما يسود شعوب الغرب وحكوماته من تدبيرٍ وتخطيط وتحديد للأهداف ورسْم للوسائل، أجابوك في استعلاءٍ بأن ذلك لأن تلك الشعوب مادية تنشغِل بالدنيا وأمورها ولا يعمر قلوبهم إيمان كالإيمان الذي يعمر قلوبنا. فإذا كنتُ قد أسلفتُ القول بأن مثل هذه الغيبوبة العقلية تضع أصابعنا على موضعٍ أساسي من مواضع القصور والضعف، مما ينبغي الإشارة إليه لمُعالجته وتعديله ابتغاء تطوير الثقافة العربية وتحديثها، فإنما قصدتُ بذلك تلك الحالة الثانية التي «تنفصل» عن أمور الواقع، وليس الحالة الأولى التي «ترتفع» عن الواقع بتجريده وتعميمه، دون أن تنفصِل عنه.
إننا إذ نريد للثقافة العربية أن تسودها لَفتة إلى دُنيا الواقع، تُنزلها من السطح في عالم الوهم واللغو، بالكلمات، فإنما نُريد لها ما تُمليه الفطرة السلمية على كل كائنٍ حي، إنسانًا وغير إنسان، فليس توثيق الصِّلة بوقائع الأرض، هو الذي يحتاج إلى عزيمة الإرادة، بل إنه الانفصال عن مجرى الواقع المُحيط بنا، هو الذي يحدث بعزيمة من صاحبه، يُلجم بها نفسه كما نُلجم الجواد لتجمُد حركته، وفي هذه المناسبة أذكر مثلًا ساقه مُفكر في العصور الوسطى من التاريخ الأوروبي هو «بوريدان» في سياق حديثه عن إرادة الكائن الحي وكيف تختار بين البدائل المعروضة، وكان المثَل الذي ضربه، حمارًا جائعًا عُلِّقت أمامه حزمتان من الدريس، إحداهما إلى يمينه والأخرى إلى يساره، ورُوعي أن تكون المسافة بين كل من الحزمتَين وبين الحمار متساويةً تمامًا، كما روعي كذلك في الحزمتَين أن يتساويا حجمًا ليكون السؤال بعد ذلك هو: هل يستطيع الحمار أن يتحرك نحو إحدى الحزمتَين ليأكُل؟ وإذا استطاع ذلك فكيف استطاعه؟ وما الذي يدفعه إلى الحركة إلى حزمة اليمين دون حزمة اليسار أو إلى حزمة اليسار دون حزمة اليمين؟ إنه إذا كان الاختيار دائمًا مؤسَّسًا على مُبررات، فليس عند الحمار مُبرر يُسوِّغ له الحركة إلى إحدى الجهتَين دون الأخرى، مما نتوقَّع له أن يُصيب الحمار جمود عن الحركة فالموت جوعًا، ويُعرَف هذا المثل في الكتب باسم «حمار بوريدان» … لكن إن كان ذلك هو نوع التفكير الذي يلغو به إنسان في عصر من عصور ضعفه، فالحمار على الطبيعة أعقل من ذلك، لأن فطرته وحدَها كفيلة له أن يتحرك بلا تردُّد نحو إحدى الحزمتَين ليأكل مهما يكن من أمر التساوي في المسافة والحجم والشكل، فهذه لجاجات إنسانٍ جفَّت الحياة في شرايينه، ولم يبقَ له إلا أن يهذي بكلامٍ فارغ، ينفصل به عن حرارة الحياة الصاحية الواعية.
إن دُنيا الواقع بكائناتها الحية وأشيائها الجامدة، متحركة أو ثابتة، هي حقائق لها طبائعها وخصائصها، وهي في الوقت نفسه دُنيانا التي نعيش فيها، ومحتوم علينا، ونحن نتعامل مع تلك الحقائق أن نأخذ في اعتبارنا أنها موجودة، ومعها تلك الطبائع والخصائص، ولن يزول وجودها لمُجرد أننا قد غضضنا عنها أبصارنا وازدريناها، فلا بدَّ من التعامُل معها وبها، تعاملًا يُلائمنا لننتفِع بها بل ولنُغير منها ما نُريد تغييره استنادًا إلى عِلمنا بما نتميز به من طبائع وخصائص، إن الذي يُجيد سياسة الجياد هو الذي يعرف طبع الجياد، لكن ثقافتنا الأصيلة تحتوي على ترفُّع عن «الواقع» كأنما مُعايشة بَواطن نفوسنا تكفي وحدَها لاجتلاب القوة والمعرفة وكرامة الإنسان. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نُقارن الكلمة العربية «واقع» التي نُشير بها إلى ما هو كائن في محيط الأشياء من حولنا، أن نقارنها بنظيرتها في لُغات الغرب، وهي «ريالتي» (ومعناها الحرفي «الأشياء») لنرى أن في الاسم العربي ما يُشير إلى الوقوع من أعلى إلى أسفل، أو الأغلب، وليست من ذوات الروح، في حين أن الاسم غير العربي يُشير إشارة مُحايدة، فلا صعود ولا هبوط بل هي «أشياء» وكفى، نتعامل معها وبها على النحو الذي تُمليه علينا ضروراتها.
واكتساب الناس قدرة الحس «بالواقع» ليس هنة هينة، بل هو أمر يحتاج إلى تربية للنشء منذ الصِّغر على لفتةٍ خاصة لِما حولهم، وحتى في بلاد الغرب المُتقدمة، قد يشطح التفكير المجرد ببعضهم إلى اتخاذ موقفٍ نظري يتغاضى عن الواقع، لكن قوة الرأي العام الثقافي سرعان ما ترُده. وتحضُرني الآن حادثة طريفة في تاريخ الفكر الإنجليزي … وقد ذاع أمرها لشدة طرافتها وبساطتها مع قُوَّتها إلى حدِّ أنها كثيرًا ما ترِد في أكثر المؤلَّفات الفلسفية وقارًا، وهي حادثة وقعت بين الدكتور جونسون الذي لا نُبالغ إذا قُلنا عنه إنه كان في دنيا الثقافة والأدب في بلاده، إبَّان القرن الثامن عشر، وبين مُرافقه «بوزويل» الذي سايرَه مُسايرة الظل لصاحبه، وكانت الجلسة اليومية لجونسون في مقهى بلندن ومعه «بوزويل» ومن جاء من المُريدين، وفي عهدهم ذاك، كان على رأس الفكر الفلسفي في إنجلترا الفيلسوف «باركلي» الذي جاءت فلسفته على شيءٍ كثير من الشذوذ بالنسبة للمعروف المألوف عن مسار الفكر الإنجليزي، فبينما المسار العام هو أن تستنِد أية فكرة، مهما كان موضوعها، على رصيدٍ حسِّي من كائنات الواقع، جاء «باركلي» ليبني فلسفته على أن ذلك الواقع نفسه لا سبيل إلى بلوغه أذهاننا إلا أن يتحوَّل من واقعيته المادة ليكون «فكرة»، إذن، فليس لدى الإنسان من دُنياه إلا «أفكار» في رأسه، فدار النقاش ذات يوم بين «جونسون» و«بوزويل» إذ هما جالسان في المقهى المذكور مع سائر الرفاق، حول ذلك، الذي كان يكتبه «باركلي» عن إنكار الواقع المادي، تحويلًا له إلى أفكار في رءوسنا، فلم يكن من جونسون إلا الرفض، فسأله «بوزويل» قائلًا: ولكن ما وسيلتك إلى دحض حجته؟ وكان هناك حجر ضخم على الأرض أمامهم؛ فرفس جونسون الحجر بقدمِه، قائلًا: «هذه هي وسيلتي لدحض حُجَّته.» أي إن وجود الواقع المادي في شتَّى كائناته لا يحتاج إثباته إلى حجة نظرية، لأنه يصدم أجسادنا بصلابة وجوده.
والذي يلفت النظر بالنسبة إلى مناخنا الثقافي العام، مصريًّا كان بصفةٍ خاصة، أم كان عربيًّا بصفةٍ عامة، هو أنه لا اتِّساق بين مواقفنا العينية في مجرى حياتنا اليومية، وبين موقفنا من حيث «الرؤية» العامة لِما يجب أن يكون عليه الإنسان في وجوده الدنيوي؛ فبينما نحن في المواقف الحياتية الجزئية على صِلةٍ وثيقة بالأشياء وطبائعها، ترانا في تصوُّرنا للمثَل الأعلى نحثُّ أنفسنا على الترفُّع عن تلك الأشياء وكأنها دنس ونجاسة! فالمصري «مزارع» مُتمرِّس يعرف أسرار أرضه وأسرار زرعه، لا معرفة مُضبَّبة بالغموض، بل هي معرفة بالحقائق الواقعية في تفصيلات تفصيلاتها، ولم تكن تلك حالته في قرنٍ واحد من الزمان أو قرنين، بل هي حالته خلال دهر يقاس بعشرات القرون، فكيف يُعقَل وحالته هي هذه في مُلامَسة الأرض ومُعايشتها؛ يُمسي معها ويُصبح معها، ومع ذلك إذا فرغ من عمله، وخلا إلى نفسه تعلق بمجردات، لا هي من نبات هذه الدنيا، ولا هي بقادرة على رصف الطريق في هذه الحياة أمام السالكين؟ فإذا توجَّهنا بالنظر إلى «العربي» — مصريًّا وغير مصري — غلبت علينا الصحراء وبداوتها، وهنا أيضًا يأخذنا العجب من تناقُضٍ نراه بين مواقفنا العينية في حياتنا اليومية الجارية، وبين الإطار النظري الذي نُقيم فيه تصوراتنا عن المَثَل الأعلى، فالبدوي قد اضطرته حياة البداوة أن يكون مُرهَف الحواس لتفصيلات العالم المُحيط به، إنه يجيد مُراقبة النجوم، لأنها هي مصابيحه وهو مسافر عبر الفلاة، ويُجيد النظر إلى تفصيلات الطريق، بحقائق نجاده ووهاده، وهو يعلم أين يتجه لينتجِع بإبلِهِ وغنمه، إلى حيث الماء والعشب، إنه يعرف جيدًا متى تهبُّ الريح ومن أين، سواء أكانت حارة تُتَّقى أم باردة تُرتَقب، وأعجب من هذا أن من أميز ما يُميز الشعر العربي، تلك اللقطات الحسية الدقيقة، مما عسى أن تراه العين أو تسمعه الأذن، وكل هذه شواهد على أن العربي البدوي ليس بغافلٍ عن دقائق ما حوله، لكنه إذا خلا إلى نفسه في ساعات تأمُّلاته، تعلق خياله بمجردات يتنصَّل بها من رجس هذه الدنيا في واقع كائناتها وأشيائها.
وليست المؤاخَذَة هنا مُنصبَّة على أن العربي، مدفوعًا بثقافته الأصيلة، يلوذ بصورة مُجردة تُمثِّل له الحياة كما كان ينبغي لها أن تكون، كلَّا، لأن ذلك من علامات الصحة لا من علامات المرض، إذ لا مجال لشكٍّ عند عاقل، بأن الحياة المُكبلة بقيود الواقع كما يقع، لا بد أن يُصيبها نقص كثير أو قليل، لما يعلق بها من عناء الطريق ومن غبار العواصف، فمن الخير أن يلوذ المُتعَب بواحة يستريح إليها، تتحقق فيها صورة الحياة في كمالها، حتى ولو كانت تلك الصورة من محض الخيال، لكن موضع المؤاخذة في البناء الثقافي في حياة العربي هو مَيله إلى التعامل مع الواقع بأطراف أصابعه، محاولًا أن يتنصَّل من العيش فيه، كما يتنصل الإنسان من وزرٍ اقترَفَه وأسِفَ على اقترافه، ومُفاخرته بأنه إنما يحيا للروح ومعانيها ومراميها وخلودها، لا لهذه الدنيا بمائها وهوائها ونارها وترابها، والوقفة الصحيحة هي أن نسدَّ الفجوة بين الطرفين، فليست الأرض وما عليها من صنع الشياطين بل هي مخلوقة لله سبحانه وتعالى، لا تختلف في ذلك عن السماء ومصابيحها. ولو أننا ترفَّعنا عن الأرض وما تحمله فوق ظهرها أو في أحشاء بطنها، لَما بَقِيَت أمامنا سبيل لنكون مُستخلَفين فيها بأمرٍ من الله جل وعلا، بالعمل وبالتعمير وبمعرفة الله عن طريق معرفتنا لما خلق، أرضًا كان هذا الخلق أو سماء أو ما بين أرض وسماء.
إننا لو حلَّلنا وقفة العربي إزاء عالم الأشياء والأحداث الواقعة في مُحيطه، وجدنا لنا وقفة من يُخرِج من رأسه تصورًا يختاره من مخزون تصوُّراته، ليُلقي به على تلك الأشياء أو الأحداث، ثم يحاول بعد ذلك أن يُقيم تصرُّفاته على هذا الأساس، فإما انصاعت له دنيا الواقع بالمصادفة، وإما تأبَّت عليه وعاندت. وقد كان الأصوب والأسلم والأدنى إلى النجاح، أن يبدأ بدراسة ما يقع حوله دراسة تفصيلية ثم يبني على تلك الدراسة خطة العمل، إلا أن مِثل هذا المنهج في رسم خطة السير، يحتاج إلى تدريب منذ النشأة الأولى، لأنها هي نفسها الخطة التي تُمليها النظرة العلمية المُستندة إلى حقائق الواقع، فللتفكير طريقان، لكل طريق منهما مجاله الذي يصلح له، طريق يبدأ سَير التفكير فيه من داخل الإنسان فخروجًا إلى الأشياء، وطريق ثان يبدأ فيه السير من الخارج حيث الأشياء قائمة كما هي قائمة، فدخولًا إلى الداخل، ويكون الطريق الأول أصلح للسير، عندما يكون الرأس قد ثُبِّت فيه بالفعل أفكار ومُعتقدات من حيث يدري صاحبه ومن حيث لا يدري، وكثيرًا جدًّا ما يجيء الزلل من أن المخزون الفكري قد بُثَّ في الإنسان أيام أن كان أصغر سنًّا وأقل قُدرة على تحليل ما يتلقَّاه من الآخرين ونقده، ولذلك كان من الطبيعي في البلاد ذات التاريخ الطويل الذي حَمل إليها على أمواجه عبر الزمن ثقافة قديمة، دون أن تتعرض لنهضات فكرية تُحدِث فيها بعثًا فكريًّا جديدًا، أن تجد «المُثقف» فيها هو من «حفظ» في ذاكرته مجموعةً ضخمة من مأثورات أسلافه، وبهذا «المحفوظ» تراه يدخُل في عالم الأشياء والأحداث، دخول من جاءنا ومعه الأحكام مُسبقة وجاهزة يفصل بها بين المقبول والمرفوض، ويقيس بها الصواب والخطأ، ويرسم على أساسها خطة سَيره وهو في سبيله إلى مواجهة الحياة ومشكلاتها، وذلك كله قبل أن يتناول تفصيلات الموقف المُحيط به ليعلم منها ماذا يصلح لها وماذا لا يصلح.
ولا كذلك شعب حديث التكوين، أو شعب قديم في التاريخ لكنه نهض واستيقظ فوعى حقائق الدنيا في طورها الجديد، ففي كلٍّ من هاتَين الحالتَين، ينعكس طريق السير، فبدل أن يبدأ الإنسان من داخل نفسه، حيث المحفوظ من المأثور على أسلافه، مما بدأ في حفظه منذ طفولته، أقول إن الإنسان الناهض الواعي لما هو جديد، بدلَ أن يبدأ طريقه الفكري من محفوظاته، يجعل نقطة البدء على أرض الواقع ذاته، ولا أحسبني مُسرفًا في القول إذا زعمتُ أن صميم النهضة الأوروبية التي أخرجت الغرب من عصوره الوسطى اللاعلمية في نظرة الناس إلى حياتهم ومشكلاتها، وإلى ظواهر الكون وفهمها وتقنينها، كان في مثل هذه النقلة الفكرية التي أشرتُ إليها وأعني أن يبدأ طريق التفكير من دراسة الوقائع هناك على ظهر الأرض، المرئي بالعين المسموع بالأذن، فدخولًا بحصيلة الدراسة إلى داخل الإنسان، حيث الإرادة في اختيارها الحر، وفي عزيمتها الماضية، فتُقرِّر ماذا هي صانعة بذلك الواقع الخارجي المدروس: أنترُكه على حالته إذا كان نافعًا؟ أم نُغيره أو نمحوه محوًا إذا كان مرفوضًا؟ أقول إن صميم النهضة الأوروبية التي أخرجتها من عصورها الوسطى، هو أن الفكر في الغرب أخذ يبدأ طريقه من دراسة الواقع، بعد أن كان في مثل الحالة التي يَحياها الفكر العربي حتى اليوم، وهي أن تبدأ رحلته من مأثورات مما قاله السلف، محفوظة ومحفورة في الذاكرة بمسمار، فخروجًا بذلك المأثور الموروث المحفوظ إلى عالم الأشياء ليطرح عليها ظلَّه، حاسبًا بذلك أن الظل سيقوى وحده على زحزحة الجبال!
… قال السامع: اضرب لي مثلًا لهذه الصورة التي زعمتها عن الفكر العربي في يومنا هذا. فأجبتُه قائلًا: ترى هل تكفيك — يا ترى — المشكلة العربية التي أنساها قيام إسرائيل: كيف عالجَتْها الأمة العربية؟ فلقد مضت أربعون عامًا، ولك أن تنظُر ماذا صنع كل من الجانبين: الجانب المُقتحم المُعتدي، والجانب المُعتدى عليه، عِلمًا بأن إسرائيل هي «الغرب» في صورةٍ مُصغرة، ووراءها يؤيدها الغرب الكبير في أمريكا وأوروبا؛ فنحن في هذا أمام موقفٍ فيه اعتداء من ناحية، ومقاومة للعدوان من ناحية أخرى، وهمُّنا الآن هو أن ننظر إلى ناحيتنا لنرى ماذا صنعنا في أربعين عامًا من المقاومة؟ لقد انتهَينا إلى وطن عربي تمزَّقت أجزاؤه كما لم تتمزَّق في أي وقتٍ مضى من تاريخها. فهل كان يمكن لهذا التجزؤ أن يحدُث لو أن الغرب يُحبون ثقافة تدرس خارج جلدها، لتكون على استعدادٍ من داخلها على مقابلة الضربة بضربتَين؟ ولقد شاء الله سبحانه أن يبلونا لنتبيَّن حقيقتنا أمام الأزمات، فأنعم على الأمة العربية وهي في قلب مِحنتها بسلاحٍ سائل كان يستطيع أن يُحدِث غصَّة في حلوق الأعداء يشرقون بها حتى يطلبوا منا النجدة، فكان في أيدينا ساعتها أن نبيع ونشتري حتى تزول عنا الغمَّة، لكننا لم نَصدُر في أفعالنا عن دراسة موضوعية للواقع، واتَّجهنا بأبصارنا نحو أجوافنا نُخرج منها مكنونها؛ فبدأت حرب كلمات حتى اختنقنا نحن بكلماتنا وتمزَّقنا في ساحة الحرب الكلامية هذه شِيَعًا وأحزابًا، في حين أخذ المُعتدي ينظر إلى حقائق ذلك الواقع الأليم ويدرسها ويُقيم على الدراسة الواقعية أسبابًا للقوة فوق أسباب.
قال السامع: وماذا تُريدنا أن نصنع؟
قلت: أريد أن نعكس اتجاه السير، فنبدأ طريقنا بلمسة الواقع.