صورة جديدة لأفكار قديمة
هن أفكار ثلاث كانت للإنسان — ولم تزل — هي كبرى قضاياه، فتذهب به الأيام وتجيء. وهو عندها، يغزلها خيوطًا وينسجها ثيابًا، فإذا تبدَّلت عصوره واحدًا بعد واحد، تبدَّل معها، فبعد أن كان في عصرٍ مضى يغزل خيوطه من هذه قبل تلك تراه، وقد جاءه عصر جديد، يغزلها من تلك قبل هذه، فالأفكار الثلاث جميعًا هي محاوره التي يدور حولها، لا غناء له عنها مُجتمعةً وفرادى، وذلك لأنه لا يصطنعها اصطناعًا، ولا يتكلَّفها أو يدَّعيها لأنها صادرة له عن فطرته، ولا حيلة له في فطرةٍ صُنِعت له ولم يَصنعها لنفسه، وأما تلك الأفكار الثلاث، التي تُلازمه ما نبَضَ له قلب وتنفَّست رئتان، فهي فكرته عن إلهٍ خلقه وسوَّاه، وفكرته عن كونٍ يعيش فيه، وفكرته عن نفسه. وحول هذه الأقطاب الثلاثة تدور به الرحى: دينًا وعلمًا وأدبًا وفنًّا. ومما يقوله ويؤمِن به عن تلك الميادين الثلاثة. في عصرٍ مُعيَّن من عصور تاريخه، يُنسَج له نسيج، هو الذي يقول عنه في ذلك العصر المُعيَّن إنه «ثقافته».
لكن الإنسان في دورانه حول تلك الأقطاب الثلاثة، تتغيَّر وجهة نظره في ترتيبها، فمن أيها يبدأ؟ وإلى أيها ينتهي؟
على أن مدار الحكم هنا لا يكون الأولوية «في القيمة». وإنما تكون الأولوية لمنطق السير في تتابُع خطواته، وتشبيه ذلك أن تكون ذاهبًا من منزلك إلى المسجد، فتختار هذا الطريق مرةً لأنه أقصر ويُناسب وقتك الضيق، ثم تختار ذلك الطريق مرةً ثانية لأنه أهدأ، وقد تختار طريقًا ثالثًا في مرة ثالثة، لتمرَّ في طريق عودتك على صديقٍ مريض تعوده، ومن هذا القبيل ما يحدُث حين تأخذ الإنسان حيرة، في هذا العصر أو ذاك بأي الأفكار الثلاث يبدأ وبأيها ينتهي؟ أيبدأ من فكرته عن خالقه وخالق الكون معًا، بمعنى أن يُوجِّه اهتمامه الأول والأكبر إلى ما قد ورد في كتاب عقيدته الدينية، ليكون ذلك هو مصدر الضياء الذي على هداه يفهم الكون ويفهم نفسه؟ أم يأخذ ذلك الكتاب — في أول الأمر — من ناحية التديُّن والتعبد، مُرجئًا ناحية المعرفة والفهم حتى يدرُس نفسه ويدرُس الكون معًا، وعندئذٍ فقط يكون أقدرَ ما يكون معرفةً وفهمًا لحقيقة الخالق الذي خلقه وخلق الكون جميعًا؟ والحق أن ثمَّة فرقًا بعيدًا بين الحالتَين: حالة تعرف بها نفسك والكون على ضوء ما ورد في تعاليم الدين ومبادئه، وحالة أخرى تعرف فيها تلك التعاليم والمبادئ؛ على ضوء ما تدرسه دراسة مُتعمقة عن نفسك وعن ظواهر الكون معًا؟ ولعلك قد لاحظتَ في هذا الذي بسطناه، أننا قد أدرنا الحديث وكأنه ليس هناك إلا طرفان: الله (سبحانه وتعالى) ثم الكون والإنسان مُجتمعَين معًا في طرفٍ آخر. لكن حيرة الترتيب تعود هي نفسها بين هذين العنصرين: الكون والإنسان، فيكون السؤال في هذه الحالة هو: أندرس الإنسان مرورًا بدراسة الكون؟ أم ندرس الكون مرورًا بدراسة الإنسان؟
والإجابة عن هذه الأسئلة، في أي عصر من العصور هي التي — فيما يظنُّ كاتب هذه السطور — تُحدِّد العصب الأساسي فيما يُطلَق عليه بعد ذلك اسم ثقافة ذلك العصر. وغنيٌّ عن البيان، أن أمثال هذه الأسئلة لا يُلقيها الناس بعضهم على بعض مُقدمًا، لكي يبدءوا خطوات السير في طريق حياتهم العملية، بعد أن تتقرَّر الإجابة بأغلبية الأصوات إنما هي — أعني الإجابة — وأسئلتها تكون مُضمرة في طبيعة الحياة التي أصبح الناس يعيشونها بحكم ظروفٍ قامت ولم يعُد في الأمر خيار للناس أحبوا تلك الظروف الطارئة أم كرهوها، تاركِين مهمة التحليلات النظرية للموقف الجديد، لمن كان لهم مزاج وقُدرة تميل بهم نحو أن ينتبذوا من صخب الحياة العملية ركنًا هادئًا، يُراجعون فيه ما هو كائن على أرض الواقع، ليردُّوه إلى أصوله ومنابعه؟ فإذا ما عرضوا على الناس نتائج تحليلاتهم تلك وجدوا أنفسهم أوضح فهمًا لحياتهم، فإن رأوها تستوجب التعديل والإصلاح بدلوها وأصلحوها.
إننا في هذه المرحلة الحاضرة من حياتنا، نُكثر الحديث المشوب بالقلق عن ثقافتنا وإلى أي وجهةٍ نُريد لها أن تتَّجه؟ وحتى أصحاب النظرة العجلى، يستطيعون أن يرَوا ثلاث وجهات للنظر متفاوتة القوة متفاوتة الذيوع، فوجهة منها، وهي الأوسع انتشارًا بين الناس، وإن لم تكن بالضرورة أقواها حجةً وأنضجها فكرًا، لا تتردَّد في دعوة الناس إلى أن يحيَوا في حاضرهم ثقافة هي نفسها الثقافة التي استظلَّ بظلها أسلافهم في التاريخ العربي الإسلامي على وجه التحديد، فإذا أحاطتهم حياتهم القائمة بمشكلة كانوا على يقينٍ من أنفسهم، بأنهم واجدون الحل الأفعل، بين ما خلَّفَه لنا أولئك الأسلاف، فهناك سوف نجد السؤال وجوابه، على نحو ما يفعل التلميذ الصغير وهو يراجع دروسه استعدادًا للامتحان، فإذا لم يكن السؤال ذاته موجودًا في مُخلَّفات السلف، بحثنا عن سؤال يُشبهه لنقيس الشبيه إلى شبيهه، ووجهة نظر ثانية، هي أقل الوجهات الثلاث قبولًا وانتشارًا بين الناس كما أنها في الوقت نفسه في — رأي هذا الكاتب — أضعفها حجةً وأبعدها عن الصواب وهي وجهة نظر يميل أصحابها إلى أخذ ثقافتنا الآن بضاعةً جاهزة من مُنتجات الغرب الحديث والمعاصر، تمامًا كما نفعل عندما نستورد منه الطيارات والسيارات، وكأننا أمةٌ خرجت صباح اليوم لأول مرة من العدم. وأما وجهة النظر الثالثة فتقع وسطًا بين الطرفين؛ بمعنى أنها تريد لنا حياة ثقافية تظلُّ معها السحنة العربية بعامة — والمصرية بخاصة — سليمةً من الأذى، على أن نلتمِس لتلك الثقافة بعض غذائها من الغرب، وذلك فيما يمسُّ نبض الحياة المُعاصرة. ولا أظنُّ أن ذلك طلبٌ منَّا للمُحال؛ لأنه أمر وقع في حياتنا بالفعل، في بعض جوانب حياتنا، وعند نفرٍ من أعلامنا، ولم يبقَ إلا أن نُعمق ليشمل جوانب الحياة بأسرها وأبناء الشعب جميعًا في رؤيتهم العامة للدنيا وأهلها وأحداثها.
وأغلب ظنِّي هو أننا إذا ما أمعنَّا النظر في هذا الاختلاف بين وجهات النظر الثلاث، وجدنا أنها في أساسها أنما تختلف على أولويات الترتيب بين المحاور الثلاثة التي قدَّمناها، فأصحاب وجهة النظر الأولى يرَون أن نبدأ بمعرفة الدِّين في مصادره وأصوله لكي نفهم الكون والإنسان على أساسه، وأصحاب وجهة النظر الثانية، جريًا على نموذج الثقافة الغربية القائمة، يرَون أن العلم بالكون والإنسان يُهيئ لنا النضج الفكري والروحي معًا، الذي يُعيننا بعد ذلك على أن نكون أقدر على فَهم ديننا فهمًا لا يتصادم مع أُسس الحياة، كما تفرضها ظروف عصرنا. وأما أصحاب وجهة النظر الثالثة، وهي التي تلتمس لنفسها طريقًا وسطًا يجمع الطرفَين ولا يرفضهما، فالظن عند أصحابها — أو هكذا يرى كاتب هذه السطور — أن الأولوية إنما تكون للإنسان؛ نُربيه على أُسس تستثمر فطرته كما هي واقعة، وكما خلقها خالقها ومصورها وباريها؟ على نحوِ ما يَرعى الزارع طبيعة النبات الذي يتعهده، فالأولويات لا يُقرِّرها هو للنبات، بل النبات هو الذي يُمليها عليه. وكذلك يكون الإنسان في نشأته ونموه؛ له في كل مرحلةٍ من مراحل عمره حاجات تتطلَّب الإشباع فيتولَّاها وليُّ أمره بما هي في حاجة إليه دينًا كان، أو علمًا أو بحثًا عن نفقة نفسه، حتى إذا ما اكتمل له النمو الناضج، عرف كيف يكون عالمًا مع الدين أو كيف يكون مُتدينًا مع علم بحسب ما تقتضيه وقفته من دُنياه.
وقبل أن أضع بين يدي القارئ مُقارنة بين دنيانا اليوم وما نستوجبه، وبين دنيا أسلافنا في التاريخ العربي الإسلامي (وأتعمد أن أضع هذا التحفُّظ لأن لكلِّ بلدٍ من الوطن العربي أسلافًا آخرين يؤخَذون أيضًا في الاعتبار عند تكويننا لوجهة نظرٍ مُعيَّنة) أُفضِّل أن أسوق مثلًا مأخوذًا من غيرنا، لنرى كيف يحدُث الانتقال الثقافي عند الشعوب، استجابة لتغيُّر ظروف الحياة، فكيف تحوَّلت أوروبا من ثقافة عصورها الوسطى إلى ثقافة عصورها الحديثة، فالمُعاصرة؟ فلقد تمَّ لها ذلك التحوُّل خلال ما يقرب من قرنَين، هما الخامس عشر والسادس عشر، فما الذي كان قبل ذلك وما الذي أصبح بعده؟ ونعود إلى الأفكار الثلاث الكبرى التي ذكرناها: الله والكون والإنسان، فنرى أن ما قد حدث هو — أساسًا — تغيُّر في ترتيب تلك الأفكار في بناء الحياة الثقافية، فقد كان الترتيب خلال العصور الوسطى كلها (امتدت من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر) يُعطي الأولوية المُطلقة للدِّين ورجاله، حتى لقد كانت الأكثرية الغالبة من العلماء، من رجال الدين؟ كما كانت الأكثرية الغالبة من موضوعات البحث مما يتَّصِل بالفكر الديني من قريب، بل وكانت الأكثرية الغالبة من مراكز البحث العلمي في الأديرة، وترتَّب على هذا المناخ العام أن تنحصِر شئون الدنيا — من ناحية البحث العلمي — في أقلِّ حيزٍ ممكن؛ إذ لماذا يُعنى الباحثون العلماء بدُنيا الناس هذه، إذا كانت هذه الدنيا بكل ما فيها شيئًا مزهودًا فيه، لا يزيد على أن يكون معبرًا ليس منه بدٌّ كل أمره هو أن يُوصِّل الإنسان إلى لقاء ربه؟ ولا عجبَ ألا يجد المُنقِّب لآثار العصور الوسطى في ربوع أوروبا، إلا عمارة الكنائس والأديرة وإلا فنونًا من تصويرٍ ونحت يتَّصِل كلها — أو معظمها — بموضوعاتٍ دينية مأخوذة من الكتاب المقدس، وهكذا قُل في شتَّى جوانب الحياة الثقافية من رجال أعلام ومؤلفات وتيارات لفكر الفلسفي وغيرها، وأظن أن ذاكرتنا نحن في الشرق الإسلامي، تحفظ جيدًا مُعاناة أُمَّتنا وبلادنا — في تلك العصور الوسطى — من الحروب الصليبية التي شنَّها علينا ملوك أوروبا بدفعةٍ من الروح الدينية الضيِّقة الأفق إبَّان تلك الفترة من تاريخ أوروبا.
لكن القلق أخذ يَسري في نفوس الناس وأخذت الرغبة في الانطلاق تشتدُّ بهم شيئًا فشيئًا حتى رأينا الإنسان الأوروبي عندئذٍ يُغامر هنا وهنا وهناك وطلبًا لمعرفة هذا العالَم الذي إنما خُلِق ليعيش فيه، فغامر في المُحيطات المجهولة عندئذٍ ليكشف عمَّا وراءها ويكفي أن نذكر من تلك الرحلات رحلة كرستوفر كولومبس، التي انتهت إلى كشف القارة الأمريكية، وكلنا يعلم كم نتج عن ظهور تلك القارة — أو القارتَين — من أثرٍ في تغيير وجه الحضارة الإنسانية كلها بعد ذلك، ولستُ أنسى تلك المحاضرة العلمية التي سمعتُها في شبابي حين قال المحاضر في سياق حديثه: إن نتائج رحلة كولومبس عبر المحيط الأطلنطي لم تظهر كلها بعد، قاصدًا بذلك إلى أنه ما دامت حضارة الولايات المتحدة الأمريكية هي نتيجة ذلك الكشف الجغرافي ثم ما دامت هذه الحضارة العلمية الجديدة لم تَستكمِل شوطها بعد إذن تكون رحلة كولومبس ما زالت منطوية على مجهولاتٍ فيما قد ينتُج عنها.
ولم تكن انطلاقة الإنسان الأوروبي من سجن الحياة في عصوره الوسطى مقصورةً على مغامرات المغامرين في البحار حول الكرة الأرضية شرقًا وغربًا بل جاوزت ذلك لتكون انطلاقةً شاملة لم تترك مغلقًا خارج الإنسان وداخله إلا حاولت كشف الستار عن أسراره ما وسِعَها ذلك، فانطلق الفلكيون نحو السماء يرصدونها، وانطلق المُفكرون نحو جوف الإنسان لعلَّهم يرفعون عنه خبيئة الغطاء الذي يُخفيه؟ ولو تتبَّعت مؤلفات الفلاسفة الأوروبيين خلال قرنَين في ذلك الزمان، لوجدتَ بينها عددًا ملحوظًا خصَّصه أصحابه للبحث المُفصَّل في حقيقة العقل الإنساني؛ كيف يُدرك ما يُدركه، وإلى أي مدًى يستطيع أن يُدرك، وما هي جوانب القصور في إدراكه. وأظنُّها مجموعة من المؤلفات الكاشفة عن حقيقة الإنسان من داخل، ستبقى لها مكانتها العُليا في كل ما أنتجه الإنسان بعد ذلك في هذا الصدد، ولا أقول «قبل ذلك»؛ لأن غاية الباحثين قبل ذلك فيما يختصُّ بحقيقة الحياة الإنسانية من الداخل لم تجاوز الأوليَّات الأولى التي تنقصها الدقة كما ينقصها الشمول.
هكذا كان الإنسان حبيس فكرِه الديني قبل نهضته، وهكذا انطلق في كل اتجاهٍ ليَخرج من جدران محبسه ثم أخذ يبني بعد ذلك خلال القرون الأربعة التي باءت بعد نهضته حتى يومنا هذا، أخذ يبني هذا البناء الحضاري العلمي الشاهق الذي نراه اليوم فتغيَّر ترتيب الأفكار الثلاث الكبرى في هذه الانتقالة الحضارية الثقافية بل إنها انتقالة حدثت نتيجة للتغيُّر الذي طرأ في نفوس الناس عن ذلك الترتيب. والذي أريد له أن يكون واضحًا في أذهاننا كل الوضوح، هو أن المسألة لم تكن إهمالًا للدين، بل هي ترتيب جديد للطريق الفكري وخطواته بحيث يضمن للإنسان أن يكون على معرفةٍ بالدِّين أدقَّ وأوضح، وعلى معرفة بنفسه وقدراتها، وعلى معرفةٍ عالية بالكون وما فيه. فالسؤال الكامن هنا هو هذا: أيكون الدين طريقنا إلى العلم بأنفسنا وبالكون وكائناته، أم يكون هذا العلم طريقنا إلى إيمانٍ ديني أكثر استنارة وأشدَّ حيويةً وأوسع أفقًا؟!
تلك هي صورة مُوجزة لما أحدثته انطلاقة الإنسان الأوروبي في نهضته مما أدى إلى انتقاله من مُركَّب ثقافي كان يعيشه في عصوره الوسطى إلى مُركَّب ثقافي آخر هو الذي يعيشه بصفة أساسية حتى اليوم، وكان جوهر الحركة الانتقالية، كما أسلفنا، تغييرًا في ترتيب المحاور الثلاثة الأساسية في البناء الثقافي، والحق أني أُحِسُّ في نفسي أني أكتب هذه الكلمات بشيء من القلق خشية أن يتعجل قارئها فيسيء فهمها، فلعل الفكرة ما زالت في حاجة إلى مزيد من الشرح؛ حتى لا يتسرب إلى ذهن قارئ ظن بأن أولوية فكرة على أخرى بين الأفكار الكبرى الثلاث؛ معناها أولوية في القيمة الذاتية وليس الأمر كذلك، على الأقل بالنسبة لهذا السياق الذي نتحدَّث فيه. افرض، مثلًا، أنك تدرس شجرة الإنسان ووشائج القُربى لأسرةٍ ما، فعندئذٍ الجد والجدة هما اللذان منهما بدأ التسلسل؟ وإن هذا التسلسل ليتدرَّج معك أبناءً فأحفادًا، فأبناء أحفاد ثم أحفاد هؤلاء الأحفاد، وهكذا تتوالى درجات التسلسُل إلى أن تبلغ الغاية التي يكفيك الوقوف عندها؟ فماذا أنت قائل لمن يسألك: أيهما أجدى في دراسة شجرة الأنساب هذه، أن نبدأ من الجدود إلى أحفاد الأحفاد؟ أم نبدأ من هؤلاء الأحفاد صعودًا إلى الجدود؟ فبماذا تجيب، ألا يكون جوابك هو أن أمر الأولوية هنا متوقِّف على ما يهدف إليه الباحث: أيهدف إلى رد الفروع إلى جذورها؟ أم يهدف إلى تعقُّب الجذور إلى فروعها؟ فأولوية البدء لا تعني شيئًا بالنسبة إلى الأهمية والقيمة الذاتية؟ وكذلك الحال في الأولوية بين المَحاور الثلاثة التي قُلنا إنها تُشكِّل الإطار الذي يُقام عليه البناء الثقافي لجماعة مُعينة في عصرٍ مُعين، فمن المألوف عند من أراد رسم صورة تُبين العلاقات الرابطة بين مختلف المكونات العقلية التي منها تتألف المعرفة أن يرسُم تلك الصورة على شكل هرَم قاعدته عريضة ثم تتسلسل الدرجات صعودًا مع ضيق في الاتساع، حتى يبلغ الذروة في نقطة صغيرة المساحة عظيمة القيمة، وذلك لأن هذه الذروة هي بمثابة المبدأ الأعلى الذي تتوالَد منه سائر أفكار الإنسان درجةً بعد درجة حتى تصِل آخر الأمر إلى التفصيلات الجزئية على أرض الواقع المحسوس، فلو سُئلنا هنا أيضًا، كما سُئلنا في شجرة الأنساب لأسرةٍ ما، لو سُئلنا هنا: أتكون الأولوية في تحصيل المعرفة للمبدأ العام الذي ينسل سائر الأفكار بكل درجاتها؟ أم تكون تلك الأولوية في التحصيل للأفكار التفصيلية ليصعد منها الدارس درجةً بعد درجةٍ حتى يصِل إلى المبدأ العام المجرد الذي يضمُّها جميعًا؟ وأحسب أن الجواب هنا هو كالجواب في المثَل السابق وهو أن الأولوية تتوقَّف على نوع الدارس وهدفه، دون أن يكون لتلك الأولوية أي أثرٍ على أهمية الموضوع وقيمته الذاتية.
وبعد هذا التوضيح فلنتَّجه بأبصارنا نحو حياتنا الثقافية، لنرى كيف يقوم بناؤها في إطار الأفكار الثلاثة الكبرى ثم كيف نُريد له أن يكون؟ وأحسب أن الأمر في ذلك أوضح من أن يُثير الجدل؟ فإذا كانت الدعوة إلى ثقافةٍ سلفية هي الغالبة، كانت أولوية الترتيب بالتالي، هي أن الفكرة الدينية يجب أن تأتي أولًا وعلى هديِها تكون صورة العِلم وصورة الإنسان؟ وما دام ذلك هو كذلك، كان بناؤها الثقافي — كما هو قائم بالفعل — على مبعدةٍ بعيدة عن الصورة التي اقتضاها روح هذا العصر ممن هم بُناة حضارته إذ إن هؤلاء البُناة — كما أسلفنا — قد كانوا على ترتيبٍ يُشبه ما هو قائم عندنا اليوم ثم أبدلوا به ترتيبًا آخر يبدأ هنا من الكون ودراسته وحينًا آخر بالإنسان ودراسة مقوماته لينتهي السير في كلتا الحالتَين إلى رؤيةٍ دينية تُبنى على نور المعرفة. وإنه لسؤال ألقاه في أوروبا العصور الوسطى، أيام كانت في مخاض التحوُّل إلى عصرها الحديث وهو: هل يعرف الإنسان ليؤمن، أو هو يؤمن ليعرف؟ وهكذا — في اختصار شديد — يكون الفرق بين من يُريد تحديثًا لحياتنا الثقافية الراهنة وبين من يُريد بها سلفية. فالأول هو بمثابة من يقول: لا بد لي أن أعرف ليجيء إيماني على أساسٍ بصير، وأما الثاني فهو بمثابة من يقول: بل لا بد لي من إيمان أولًا؛ لكي تجيء المعرفة بعد ذلك في حدود ذلك الإيمان.
فإذا أردتَ أن تتَّخِذ لنفسك موقفًا تطمئنُّ إليه من هذَين الموقفَين قارن بين رجلَين وهما يتلوان قول الله سبحانه وتعالى قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي. فأما أول الرجُلين فقد قرأ الآية وحفظها ثم خرج بما حفظه إلى الكون الفسيح تأمَّل ظواهره. وأما الرجل الثاني فقد أُتيح له أن يدرُس دراسةً علمية دقيقة لبعض تلك الظواهر كظاهرة الضوء أو الكهرباء أو المغناطيسية أو الجاذبية أو أُتيح له أن يدرس مثل تلك الدراسة العلمية لظاهرةٍ من ظواهر الحياة في النبات أو في الحيوان أو في الإنسان نفسه، فمِثل هذا الرجل الدارس مَن سيرى في كل نقطةٍ من نقاط هذا الكون اللامُتناهي كلمةً من كلمات ربه تملؤه بالتعظيم والإجلال والخضوع لخالِق هذه المعجزات. إن عالِم النبات مثلًا لو تقصَّى جزئيات نبتةٍ واحدة صغيرة كيف تتغذَّى وكيف ترتوي وكيف تنمو وكيف تدفع عن نفسها الأخطار التي قد تُهدِّد وجودها، لوجد ذلك العالِم في تلك النبتة الصغيرة من كلمات ربِّه ما يحتاج مُجلدًا ضخمًا يشرح شيئًا من تفصيلاته، فانظر إلى الفرق بين الرجُلين: الرجل الأول الذي حفظ الآية الكريمة وخرج بها إلى الكون؛ فلا يكون في وسعه إلا أن يعلَم بأن الله سبحانه وتعالى خالِق قادِر عليم دون أن نعلم تفصيلةً واحدة فوق ذلك الموقف المُبهَم المجرد؟ وأما الرجل الثاني بعد أن يُزوِّد نفسه بتفصيلات ظاهرة كونية واحدة وما فيها من أعاجيب تُثير الدهشة والذهول، فإنه إذا ما عاد إلى الآية الكريمة، أحسَّ أعماقها، فحقًّا إنه لو كان وراء البحر سبعة أبحر كلها مداد لنفد المداد قبل أن ينفد الحديث عن كلمات ربي.
وقد يقوم في ذهن قارئ هذه السطور سؤال يسأل به: أينتظر المؤمن حتى يتزوَّد بالعلم ثم يبدأ في الإلمام بدينه أصولًا وفروعًا؛ وجوابُنا عن سؤالٍ كهذا هو أن نؤكد وجوب التفرقة بين أمرَين: أولهما أن يتلقى المُتديِّن عقيدته إيمانًا منذ طفولته الواعية وأن يتعلم طرُق العبادة ويُمارسها، كل جانب منها في موعده المناسب، وأما الأمر الثاني فهو استخلاص حياة ثقافية من ذلك الدين، بالإضافة إلى ما نَستخلصه من مصادر أخرى، ونحن في هذا الحديث، إنما نتناول الدين — والمصادر الأخرى — من حيث هو مُقوِّم من مقومات البناء الثقافي.
كان أسلافنا الأولون في التاريخ العربي الإسلامي يجعلون اهتمامهم الأول في نشاطهم الفكري لموضوعاتٍ تفرَّعت لهم عن العقيدة الدينية ذاتها، ولم يكن لهم من ذلك بد لأنهم وجدوا أنفسهم أمام دينٍ جديد آمنوا به، وحسبنا أن نستعرِض مدارس الفكر ماذا كانت، وفي أي الموضوعات كسبوا فاعليتهم العقلية، ولنا في هذا الصدد أن نأخذ بما ذكره الإمام الغزالي في كتابه «المُنقذ من الضلال» عن تلك المدارس إذ قال إنها أربع: الفلاسفة والمُتكلمون والباطنية (ويُسمِّيهم التعليميين) والمُتصوفة، فأما الفلاسفة فكلنا يعلم أن طريقهم في التفكير هو أن يُوازنوا بين ما ورد في فلسفة اليونان الأقدمين، وبين ما جاء به الإسلام في مبادئه وعقائده، ليرَوا إن كان ما بينهما اتفاقًا أو اختلافًا، وذلك ليَخلُصوا لأنفسهم برؤيةٍ فلسفية عربية إسلامية، فإذا كان هذا هكذا، فلماذا لا يصنع فلاسفتنا اليوم صنيع أسلافهم لكنهم في هذه الحالة لا بد أن يُضيفوا إلى فلسفة اليونان القدماء، ما استُحدِث بعدهم من فلسفاتٍ في الغرب الحديث والمعاصر، ومعنى ذلك قصور الدعوة السلفية عن إشباع الحاجة عندنا نحن العرب في يوم الناس هذا، وأما عن جماعة المُتكلمين فقد كان هدفهم هو أن يقيموا الأدلة العقلية على موضوعاتٍ وردت في العقيدة الإسلامية مثل وجود الله ووحدانية الله، والصفات الإلهية وعلاقتها بالذات كالعلم والإرادة والعدل وغيرها والقضاء والقدر، وهكذا. فتلك الموضوعات وما يُشبهها كانت هي الشغل الشاغل لجماعة المُتكلمين، ونحن اليوم نسأل السؤال الذي ذكرناه فيما قدمَّناه وأجبنا عنه، نسأل أيهما أوصل بالمؤمن إلى الصورة الواضحة: أن نبحث في يومِنا هذا تلك الموضوعات ذاتها التي أشبعها القدماء بحثًا أم نجعل طريقنا إلى فهمها معرفة علمية دقيقة وواسعة بما في هذا الكون العظيم من كائنات، وعندئذٍ تتَّسِع آفاقنا بمقدار ما درَسْنا لنفهم عن علم الله سبحانه وقُدرته ووحدانيته وغير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى فهمًا أدق وأعمق. وما قُلناه عن جماعة الفلاسفة وجماعة المتكلمين في أقسام الغزالي الأربعة، نقول ما يُشبهه عن «التعليميين» «جماعة الباطنية» من المتصوفة، فكل تلك الجماعات في الحياة الفكرية عند أسلافنا بحثت عن المعرفة في الموضوعات الدينية بادئةً بها ومُنتهية بها، فهل نجيء نحن في عصرنا لنُكرِّر الشيء نفسه أو أن الطريق الأمثل بالنسبة لعصرنا أن نصِل إلى الهدف ذاته عن طريقٍ آخر؟
إن أولئك الذين يتمنَّون لنا أن تجيء حياتنا الثقافية اليوم صورة كربونية من حياة أسلافِنا يفوتهم أن هؤلاء الأسلاف أنفسهم لم يكونوا على رأيٍ واحد، بل اعتركوا بعضهم مع بعض فتكوَّنت منهم فرق (جمع فرقة) على نحو ما نتشعَّب نحن اليوم تيارات ومدارس، فاقرأ — مثلًا — كتاب ابن رشد «مناهج الأدلة في عقائد الملة» لترى صورةً حية عن مجادلاتهم بعضهم مع بعض، فكما يدلُّك عنوان كتابه نرى ابن رشد يستعرض مناهج التفكير عند جماعات المُتكلمين من معتزلة وأشعرية وغيرهما، كما يتناول كذلك مناهج المتصوفة ليُبين في جلاءٍ ناصع كيف أن أولئك وهؤلاء قد ضلُّوا سواء السبيل منهجيًّا حينما تناولوا عقائد المُسلمين بالبحث والتدليل، وكان من طريف ما ذكره ابن رشد في هذا الكتاب — وكان ذلك قُرب نهاية الكتاب — أن تلك الجماعات كلها قد انحرفت عن ظاهر النصِّ القرآني الكريم قليلًا أو كثيرًا؛ وقال ما معناه: إن الموقف يُشبه أن يكون طبيبًا ماهرًا قد ركَّب دواء يصلح لشفاء علَّةٍ يمرض بها كثيرون؛ فيجيء مريض مُعين ليجد أن الدواء العظيم لم يلائم حالته الخاصة؛ فيُدخل تعديلًا في تركيب الدواء بحذف بعض عناصره التي ظنَّ أنها هي التي باعدَت بينه وبين الشفاء، فلا يلبث أن تلتفَّ حوله جماعة تأخذ عنه هذا التعديل إلى أن تسوق الأيام مريضًا آخر من هذه الجماعة الجديدة، لا يجِد مُلاءمة بين مرضه الخاص وبين الدواء المُعدَّل فيلجأ بدَوره إلى تعديل التعديل ويخرج إلى الناس بوصفةٍ جديدة وتبعه فيها من يتبعه وهكذا دواليك. وذلك بعينه هو ما قد حدث — هكذا يقول ابن رشد ما معناه — للجماعات الفكرية، ثم يقول في آخِر عبارته تلك ما نصُّه: وأول من غيَّر هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدَهم ثم الأشعرية، ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد (الغزالي) فطمَّ الوادي على القرى، واستطرد ابن رشد في حديثه عن الغزالي ليُبيِّن كيف أخطأ السبيل وكلنا نعرف شيئًا عن تلك المواجهة الفكرية بين الرجُلَين حتى لتُعَد نموذجًا فريدًا لليقظة العلمية الثقافية، كيف يكون الأخذ والردُّ بين رءوس الأمة القوية، وذلك برغم أن الرجُلَين الإمام أبو حامد الغزالي والفيلسوف ابن رُشد كان بينهما في الزمن بضع عشرات من السنين، فقد ألَّف الغزالي كتابه المشهور تهافُت الفلاسفة ليُبين فيه كيف أن فلسفة اليونان مُتمثلة في أرسطو وانعكست عند العرب في ابن سينا إنما هي كالبناء المُتداعي لما تشتمل عليه من مُتناقِضات وتمضي بضع عشرات من السنين بعد موت الغزالي في المشرق الإسلامي ليظهر ابن رشد في المغرب الإسلامي — في الأندلس — فيُخرج بدوره كتابه «تهافُت التهافُت» قاصدًا أن يُبين أن المُتناقض المتداعي بناؤه هو أبو حامد الغزالي في مؤلَّفه، وليس هو أرسطو اليوناني كما انعكست صورته في كتب ابن سينا.
فمَن مِن هؤلاء المُتعارِكين في ساحة الفكر بين أسلافنا، هو من يُريد أصحاب الدعوة إلى ثقافةٍ سلفية أن يَعودوا إليه أو أن يُعيدوه حيًّا إليهم؟ كلَّا إنه عصر جديد لنا لا بد أن نعيشه قولًا وتعديلًا؟ ولكن ذلك يقتضي بحكم الضرورة أن تكون لنا في ترتيب الأفكار الثلاث الكبرى صورة جديدة.