أفكار تحيا وأفكار تموت
كائنات كسائر الكائنات، تحيا وتموت: منها ما يولد ميتًا، ومنها ما تمتدُّ به الحياة حينًا، ومنها ما كُتِب له الخلود، إنها كسائر الأحياء، تُريد لنفسها الأجواء، الصالِحة لبقائها، فبعض الأحياء يَسبح في الماء، وبعضها يزحف على يابس الأرض أو يمشي على أرجل، وبعضها الآخر مُجنَّح يطير في جوِّ السماء؛ وإنها لكالجياد في مِضمار السباق، فجياد تسقط في بعض الطريق، وجياد حُرة كريمة تصمد إلى آخر الشوط؛ والعجب هو من إنسانٍ لا يَطيب له العيش إلا مع أفكارٍ أصابها الإعياء في بعض الطريق فماتت، فتعفَّنت، أو حُنِّطت لتبقى هياكلها هامدة في توابيتها على سبيل الذكرى.
وأما الأفكار التي هي كالطير الذي يضرب الهواء بأجنحته القوية، مُخترقًا طريقه فوق رءوس الزمن، مُحتفظًا في يومِه بقوَّته التي كانت له في أمسه، قريبِه وبعيدِه، والتي سوف تكون له في غدِه، وما بعد الغد، وربما إلى آخر الدهر، فهي الأفكار التي ألقت عن ظهورها أثقال اللحظة العابرة، ولم يبقَ من الفكرة القوية إلا إطارها؛ وبذلك تخفَّفت من أحمال الحجر والحصى، ليبقى الجوهر الثابت؛ ومن ثم استطاعت أن تطير عبر الزمان بهياكل تأخُذ من كل عصرٍ لحمه ودمه فتكتسي بما يلائم ذلك العصر؛ حتى إذا ما أدبرت أيامُه عادت الفكرة القوية فخلعت عن هيكلها ذلك الحشو المؤقَّت لتنتقِل إلى عصرٍ جديد فيمتلئ إطارها بمضمونٍ جديد، وهكذا دواليك عصرًا بعد عصر على طول الزمن.
الأفكار القوية بحياة مُتجدِّدة، هي كالغُرَف في فندقٍ ممتاز، يشغلها الزائرون زائرًا بعد زائر؛ فيراها كل زائرٍ وكأنها جديدة بنت يومِها، بُنيت الآن من أجله هو، وذلك لأنها تُنقي جدرانها وأثاثها من ضرورات الأمس، لتستقبل يومًا جديدًا له ضروراته الجديدة؛ وإذا لم يُعجبك تشبيه الأفكار الشريفة بغُرَف الفنادق تخلو وتمتلئ، ثم تمتلئ لتخلو، مُحتفظة لنفسها بشروط الدوام؛ فانتقل معي إلى ميادين العلم؛ تجد ما شئتَ من أمثلة، فيها ما قد رأيناه في غُرَف الفنادق التي يتوالى عليها النزلاء، من صفاتٍ تجعلها صالحةً في يومِها بما صلُحت به في أمسها، وما سوف تصلح به في غدها؛ وابدأ فخُذ المثَل من أية حقيقةٍ في أي علمٍ من علوم الرياضة؛ ولنجعل مثلنا الذي نختاره بسيطًا ليكون واضحًا، فخُذ هذه المعادلة العددية: ٣ + ٤ = ٧؛ فهي — كما تعلم — حقيقة لا يُغير من صدقِها طول الزمن، كلَّا ولا يُغير من صدقها تَغيُّر المكان؛ فما الذي أكسبها هذه الحصانة؟ الذي أكسبها تلك الحصانة التي ضمِنت لها البقاء، أنها لم تثقل هيكلها بمضمون مُعين، قد يُوجَد اليوم ولا يُوجَد غدًا؛ فالأمر فيها يُشبه الملابس الجاهزة، يلبسها من جاءت على قده؛ فهي لم تشترط مادة مُعينة يكون منها الثلاثة ويكون منها الأربعة أيضًا، حتى يمكن أن يكون حاصل جمعها سبعة؛ إذ هي تصلح على أفراد الناس، وعلى الأنهار، وعلى حبات البرتقال، وعلى أي نوع شئتَ من أنواع الكائنات؛ وهي في كل حالةٍ من حالات استعمالها، تفرغ نفسها من كل ما قد ملأها قبل ذلك، لتضع نفسها بين يديك؛ هيكلًا خالصًا بإطاره، لتملأه أنت بما عندك من أشياء وغير أشياء.
وهذا الذي قُلناه عن الصياغات الرياضية بشتَّى أنواعها، نقول ما يقرب منه، عن أي قانون علمي في أي ميدان من ميادين البحث في ظواهر الطبيعة: فقوانين العلوم الطبيعية هي الأخرى صُور مُفرغة من مضموناتها العينية، لكي يملأها كلٌّ بمضموناتٍ ممَّا يقع له في بيئته؛ فإذا قُلنا مثلًا إنه مع ارتفاع الأرض تقلُّ درجة الحرارة، فنحن قد تركنا تفصيلات المكان؛ أين؟ وما نوع الارتفاع؟ فقد يكون ارتفاعًا على قمَّة جبل في كينيا، وقد يكون ارتفاعًا في عمارةٍ شاهقة في القاهرة، وقد يكون ارتفاعًا في طائرةٍ فوق الصحراء؛ وإذا قُلنا إن العصا المغموسة في الماء تبدو للعين مكسورة، فقد تركنا كل تفصيلات المَوقف مكانًا وزمانًا وعصيًّا وأعينًا؛ وإذا قُلنا إن السلعة إذا زاد المعروض منها في السوق على طلب الناس، مال سعرها نحو الانخفاض؛ فقد أسقطنا من الحساب ذكر تفصيلات الحدوث: أي سلعة؟ وأي ناس؟ وهكذا قُل في كل فكرةٍ علمية.
بل إن ذلك القول نفسه يصدق على أي حكم عام — حتى ولو لم يكن مأخوذًا من دنيا العلوم، وكان تكثيفًا لخبرة بشرية في شيءٍ مما يتَّصل بحياة الإنسان؛ وهو ما نُسميه «بالحكمة» فإذا قال المتنبي: «إذا رأيت نيوب الليث بارزة، فلا تظنَّن أن الليث يبتسِم» قاصدًا بذلك أن يقول إن المظاهر كثيرًا ما تخدع الناس عن الحقائق التي تكمُن وراءها، فهو إنما يقدم بذلك فكرة تدوم ما دامت حياة، لأنها استَخرَجت من تفصيلات الواقع العيني ما يُشبه أن يكون إطارًا مفرَّغًا، ليملأه كل إنسان بمادة من الحياة التي حوله.
هذا ما قصدت إليه حين قلتُ إن الأفكار الخالدة التي تحيا مع الناس على امتداد الزمن؛ هي «صور» أو «أُطر» مُفرغة من مادتها، وتفريغها هذا يتدرج مع درجات قابليتها للبقاء؛ فأكثرها تجريدًا وتفريغًا أكثرها بقاءً وأوسعها شمولًا؛ وكلما زادت فيها مقادير الحشو المادي الذي يربطها بمكانٍ معينٍ أو بزمانٍ معينٍ، كانت أسرع إلى الزوال سرعة تتناسب مع حشوها؛ فإذا قلت — مثلًا: «الناس يرتدون الثياب.» فقد قلتَ حقيقة إنسانية على كثيرٍ جدًّا من التجريد، ولذلك فهو قول يكاد يصدُق على كل مجموعات البشر أينما كانوا وأنى كانوا؛ لأنك تركت فكرة ارتداء الثياب مُطلقة من القيد الذي يُحدِّد صورتها؛ ولكن زد هذه الصورة بما يُقيدها، كأن تقول عن الناس إنهم يلبسون ثيابًا من صوف الغنم، فعندئذٍ ترى أن دائرة الصدق التطبيقي قد ضاقت؛ وبالتالي فلم يعُد للفكرة كلُّ ما كان لها من الدوام والشمول؛ وعلى الأساس نفسه، إذا قُلت بأن النساء يُراعِين الحشمة في ثيابهن، كانت الصورة أقدر على البقاء، مما لو قُلتَ إن النساء يُراعين في الثوب أن يكون على طولٍ مُعين وسعة مُعينة، لأن هذا التقييد في الوصف يُضيع على الفكرة بعض صلاحيتها للدوام، وهكذا.
على أن الفكرة التي يتوافر لها قدْر كافٍ من «الصورية» فيكون لها — بالتالي — قدرة على الصمود عبر الزمن، تتطلَّب شرطًا آخر كي تتمَّ لها هذه القُدرة على البقاء، وذلك أنها يجب أن تقع على تربةٍ اجتماعية تُمكنها من الوجود ومن النماء؛ ولنأخُذ مثلًا فكرة «الحُرية» فبادئ ذي بدء لا بدَّ من ملاحظة أن فكرة «الحرية» إنما هي فكرة إطارية — أو صورية — إلى حدٍّ كبير، وهي ذات مضمونٍ مُعين إلى حدٍّ صغير؛ فمهما بحثت عن تعريفٍ يُبين حقيقة «الحرية» فأنت مُضطر آخِر الأمر إلى الوقوف عند درجةٍ مُعينة من التجريد؛ فقد تقول — مثلًا — إن الحرية هي فكُّ القيود، فيبقى السؤال: أي قيود؟ وهنا ترى كيف أن الأمر قد تُرك لكلِّ موقف وظروفه، ولكل عصرٍ وقيوده؛ فقد يقف الأمر عند حدٍّ تُفَكُّ فيه الرقاب، بمعنى ألا يكون بين الناس رِقٌّ، بحيث لا يملك إنسان إنسانًا آخر مِلكيته للماشية والأثاث؛ لكن إلغاء الرِّق لا يتضمن بالضرورة إلغاء التفاوت الاقتصادي والاجتماعي — الذي يقسم الناس طبقات — ثم يَستتبع ذلك أن يكون إنسان في حاجة ماسَّة إلى إنسانٍ آخر يُمِدُّه بأسباب العمل والعيش، حتى لو أدى ذلك بالأعلى أن يستغل الأدنى وأن يَستذلَّه؛ وهكذا تبقى «الحرية» فكرةً مرهونة بظروف تطبيقها، يملؤها كل عصر — وكل مجتمع — بما عنده من تفصيلات الثقافة العامة التي يعيشها؛ ومن هنا رأينا شعوبًا كثيرة ترفع لواء الحرية في حياتها، ثم تنظر فإذا أنت أمام أنماطٍ من الحياة مُلئت بالقيود أشكالًا وألوانًا، وهكذا الحال في فكرة الديمقراطية وما إليها من أفكارٍ إطارية تتنوَّع فيها أنماط الحشو الفعلي الذي يملأ ما بين جدرانها من فراغ؛ لكن هذا التنوُّع الشديد في مضمونات الفكرة، لا يحجب الرؤية أمام البصائر القادرة؛ لأنه ما دام هنالك «تعريف» نموذجي للفكرة — كفكرة «الحرية» — وهو أن تفكَّ عن الإنسان قيوده، فيُصبح في حدود الإمكان النظري أن نُرتِّب التنويعات الكثيرة في أشكال التطبيق، ترتيبًا يُبين أي الشعوب اقتربت بحُريتها من التعريف، وأيها ابتعد، وذلك بالطبع بعد أن نُحلِّل «القيود» وأنواعها، إذ قد يكون القيد غلًّا من حديد في الأيدي والأقدام، وقد يكون فقرًا شديدًا بجماعة من الناس، يدفعهم إلى الحاجة، ومن ثم يدفعهم إلى الخضوع، وقد يكون جهلًا بما للإنسان من حقوق، وقد يكون مجموعةً من التقاليد الحديدية التي تكتم الأنفاس، وهكذا.
خذ فكرة «الديمقراطية» في معظم أقطار «العالَم الثالث»؛ فالديمقراطية — كالحرية — فكرة إطارية يختلف فيها الحشو المضموني، من بلد إلى بلد، ومن عصر إلى آخر، والذي أمدَّها بالدوام هو صوريتها هذه؛ إذ يكفي لتعريفها أن يُقال إن الأمر يكون شورى بين الناس، أو بعبارة أخرى تشيع اليوم، أن يكون صنع القرار متروكًا للشعب، ما دام القرار ماسًّا بجانب من جوانب الحياة المشتركة بين الناس؛ لكن هذه الصورة العامة المجردة، إذا لم تجد تربةً اجتماعية تخلو من التقاليد التي قد تحول دون أن تكون تلك الشورى على وجهها الصحيح مُمكنة الحدوث، وفي هذه الحالة يظلُّ الناس يقولون عن حياتهم إنها تجري تحت مظلة «الديمقراطية» بغض النظر عن تلك الحوائل التي تجعل لِزيَد من الناس رأيًا أرجح من رأي عمرو، لأنه أغنى، أو لأنه أقوى أسرة، أو أعلى منصبًا، أو غير ذلك؛ ولقد بلغ بنا خلط فكري كهذا إلى حدِّ أن نصيح بالديمقراطية ثم نقول في الوقت نفسه إننا نأخذ بتقليدٍ يجعل الأمة «أسرة» ويجعل رئيس الدولة أبًا لتلك الأسرة؛ وبهذا الخلط ضاعت من أبصارنا الحدود الفاصلة بين طبيعة الحياة الاجتماعية «داخل» الأسرة، وطبيعة تلك الحياة «خارج» الأسرة؛ فداخل البناء الأسري لا ديمقراطية في صنع القرار، وذلك بحكم طبيعة التركيب الأسري؛ ففي الأسرة والِدان وأبناء كبار وصغار، ولا ضَير في أن يؤخذ رأي الأعضاء جميعًا إزاء مشروع مُعين، حتى إذا ما جاءت لحظة «القرار» كان الأمر لواحد فقط، هو رب الأسرة كما اعتاد الناس أن يصفوا الوالد؛ تلك هي طبائع الأمور؛ وإنك لتجد هذه الصورة نفسها في الجيش وهو في ميدان القتال، أو في السفينة وهي في عرض البحار؛ كل هذه الحالات لا ديمقراطية فيها بحُكم طبيعة تكوينها، وإن تكن مما يلجأ صاحب الأمر فيها إلى «الشورى» فكما قد يلجأ الوالد في الأسرة إلى استطلاع آراء زوجته وأبنائه، كذلك قد يلجأ قائد الجيش في ميدان القتال إلى استطلاع ضباطه وجنوده، أو قد يلجأ ربَّان السفينة إلى استطلاع آراء مُعاونيه؛ أما «القرار» في هذه الحالات كلها، فمتروك لمسئول واحد؛ ومعنى هذا أن هذه كلها ضروب من النظم لا ديمقراطية فيها عند صُنع القرار.
وأما «خارج» الأسرة، عندما يكون الأمر أمر مواطنين ووطن، فلا بدَّ من ديمقراطية القرار؛ في كل هيئة تتولى شأنًا من الشئون العامة، فحتى لو فرضْنا أن والدًا وولدَه اجتمعا معًا عضوَين في مجلس الشعب، أو في مجلس إدارة إحدى المؤسَّسات، أو فيما يُشبه ذلك، فعندئذٍ لا تكون للوالد أبوة في الرأي على ابنه، لأنهما قد أصبحا «خارج» الأسرة، وإزاء موضوع وطني عام؛ وقد نذكر ونحن في هذا السياق من الحديث، أن القرآن الكريم، في تحديده للعلاقة بين الولد ووالده، قد بيَّن هذا الفرق بين أن يكون حيال مسألةٍ أسرية، وعندئذٍ تُصبح طاعة الولد لولده واجبة، وأن يكون الموقف متعلقًا بالدين وعقائده وفروضه، فها هنا ترتفع الطاعة عن الولد، وإن بقي عليه واجب الرعاية والعطف؛ فما بالك — إذن — أن يحدث خلط في حياتنا السياسية، يؤدي بنا إلى الجمع — عن غير وعي — بين أن يكون رئيس الدولة منتخبًا من الشعب (وانتخابه هذا نوع من «القرار») وأن يكون هذا الرئيس نفسه، وفي الوقت نفسه، على علاقة مع الشعب توازي علاقة رب الأسرة مع سائر أعضائها؟ لستُ أشك هنا في حسن النوايا، ولكنني أشك في وضوح المعنى عندما نستخدِم كلمة «ديمقراطية» وكلمة «أسرة» على النحو الذي يخلط بينهما في صورة أخذ القرار.
وإنما أردتُ بهذا الاستطراد أن أُوضح أمرَين: أولهما أن أفكارًا «كالحرية» و«الديمقراطية» هي من الأفكار المزوَّدة بما يُعين على دوام قيامها مثلًا عُليا في حياة الناس، لأنها — كما قلت — أقرب إلى «الإطار» منها إلى تعيين المضمون؟ وأما الأمر الثاني، فهو أن تلك الأفكار وأشباهها، لا تحيا وفق نموذجها الأسمى إلا في مجتمعات خلت من قيود أخرى قد تُعرقل تسامِيها.
وأريد أن أتوسَّع مع القارئ في الفكرة التي طرحتُها عن الأفكار الإطارية، التي حاولتُ أن أوضح بها الصفة التي يجب أن تتَّصف بها الأفكار التي تصمد على الزمن؛ أقول إني أريد الآن أن أتوسَّع قليلًا مع القارئ لعلَّنا نزداد إيضاحًا ووضوحًا؛ إذ قد تكون الإضافة، التي سأُضيفها، ذات نفعٍ كبير في إلقاء ضوء على مشكلة تراثنا وضرورة إحيائه، ليكون جزءًا لا يتجزأ من حياتنا الثقافية اليوم؛ وأما تلك الإضافة التي أردتها، فهي أن «إطارية» الفكرة التي يُراد لها أن تدوم، إنما هي صفة تمتدُّ حتى تشمل «الأسماء» التي يُطلقها الإنسان على مجموعات الأشياء المُتشابهة، كاسم «نبات» الذي يُطلَق على أسرة ضخمة من الكائنات، التي وإن اختلف بعضها عن بعض، إلا أنها جميعًا ترتبط بمِثل ما يرتبط به أفراد الأسرة الواحدة؛ واسم «حيوان» واسم «منزل» واسم «نهر» و«مدينة» و«نجم» و«إنسان» وسائر «الأسماء» التي تشتمِل عليها لُغة من اللغات؛ بل إن كل لفظٍ من ألفاظ اللغة قد يُعَد «اسمًا» بمعنًى من معاني هذه الكلمة؛ إذ ما يقول عنه علم النحو إنه «فعل» أو إنه «حرف» فهو إنما يُسمَّى شيئًا ما، ففعل «يمشي» مثلًا، يُشير إلى حركةٍ مُعينة نعرفها، ونعرف أنها هي التي يُشار إليها بذلك اللفظ؛ والحرف «في» وإن يكن حرفًا في عِلم النحو، إلا أنه أيضًا اسم نُشير به إلى «علاقة» مُعينة تربط شيئَين، كأن أقول إن القلم «في» جيبي، وإذا كان هكذا، جاز لنا أن نقول إن كل لفظةٍ من ألفاظ اللغة، هي — فوق صفتها الخصوصية — اسم نُسمِّي به شيئًا، أو حركة، أو علاقة.
والآن فلننظُر كيف تتم لأبناء اللغة الواحدة عملية التسمية هذه. هنالك إجابات كثيرة عن هذا السؤال، يكفينا منها الآن، بالنسبة لما نحن بصدد الحديث فيه، أن نقول: إن كل اسمٍ في اللغة إنما هو تلخيص لحياةٍ طويلة مارَس فيها أبناء اللغة خبرات كثيرة في تعامُلهم مع المحيط الذي يعيشون فيه. وهم إذ يُمارسون حياتهم العملية، إنما يُمارسونها مع أشياء مفردة، أو مواقف مُفردة؛ فكل ما هو موجود في دُنيا الواقع مفردات، لكنه يتعذَّر، بل يستحيل استحالة تامة، على أي إنسان أن يحتفظ في ذاكرته بمفردات الحياة العملية التي عاشها مُفردًا؛ فكم من مفردات النبات، وكم من مفردات الطير والحيوان، وكم من مفردات الجماد، وكم من أفراد الإنسان! فماذا هو صانع — إذن — إزاء هذا الخضمِّ الذي لا ينتهي عند حد؟ إنه بقدرة عقلية في فطرته، يجمع بفاعليةٍ ذهنية مُعينة، المفردات المُتشابهة، ويكَوِّن منها بخياله أسرةً واحدة، يُطلق عليها اسمًا واحدًا، فيتعارف الناس على هذا الاسم ليَستخدموه؛ إلا أنهم حين يُلخصون نوعًا بأُسرة من الكائنات في اسمٍ واحدٍ، يضطرُّون إلى تجاهُل الخصائص الكثيرة التي يختلف فيها أفراد النوع الواحد من الكائنات، فلكلِّ شجرة خصائصها دون سائر الشجر، ولكل نهرٍ، ولكل جبل، ولكل مدينة، فما الذي يبقى من الخصائص، لنضمَّه معًا بخيالنا في صورةٍ واحدة، ونُطلِق عليه اسمًا واحدًا نتعارَف عليه؟ إن الذي يبقى هو أقرب إلى «إطار» أجوف، أضلاعه تنمُّ عن الخصائص الجوهرية الهامة، وأما الحشو المضموني الذي يملأ ذلك الإطار، والذي لا يكون الكائن كائنًا بدونه، فيسقط من الحساب؛ ومعنى هذا كله أن أسماء اللغة الواحدة (وكل مُفردات اللغة هي بوجهٍ من الوجوه أسماء) إنما تستطيع البقاء على مرِّ القرون، تنتقل خلالها من جيلٍ إلى جيل، بفضل كونها إطارية البناء.
وتترتَّب على هذا التحليل نتيجة بالِغة الأهمية والخطورة، فيما يختصُّ بموقف أي إنسانٍ من التراث الثقافي الذي ورثه عن أسلافه، وتلك النتيجة هي أننا اليوم، وإن كنَّا نتكلَّم اللغة العربية التي تكلَّمها أسلافنا، ونستطيع قراءة ما كتبوه وخلَّفوه لنا ميراثًا من فكرٍ وأدب وغيرهما مما تحمله الصفحات المكتوبة؛ إلا أنه من المُرجَّح جدًّا أن تكون الدلالات اللفظية قد تغيَّرت مع تغيُّر العصور، فكلمة «منزل» — مثلًا — أو كلمة «مدينة»، أو أي كلمةٍ أخرى من ذوات الدلالة الحضارية، لا بد أن تكون قد تغيَّرت في معناها الحقيقي الذي ترمز إليه، لماذا؟ لأن أبناء كل عصر، يفهمون الاسم المُعين، على أساس مفرداته العينية الموجودة في الواقع الخارجي، فالقاهري يفهم كلمة «منزل» على صورةٍ تختلف عما يتصوَّره منها ساكن الريف، ودع عنك ما كان يتصوَّره منها عربي عاش منذ عشرة قرون؟ ولهذا وجب علينا — ونحن نقرأ لأسلافنا ما خلَّفوه لنا — أن نقف وقفاتٍ طويلة، خصوصًا إذا كنا إزاء فكرةٍ لها صداها في حياتنا العملية، لنتبيَّن ما الذي كانت تَعنيه لفظة مُعينة عند أبناء فترةٍ زمنية مُعينة؛ إذ المشترك بيننا وبينهم هو صورة «الاسم» وأما «المُسمَّى» بهذا الاسم فيتعرَّض لاختلافاتٍ هينة حينًا، شديدة حينًا. وإننا لنُلاحظ أن مخرجي الروايات في المسرح أو السينما، يُعنَون بهذا الجانب الاجتماعي المُتغير، حين يعدُّون ثياب المُمثلين، أو يعدُّون قطع الأثاث؛ فلا خلاف بيننا وبين السلف في أي عصرٍ من التاريخ العربي، على الاسم «كرسي» أو «منضدة» أو «جلباب»، ولكن يبدأ الخلاف والاختلاف بين أبناء العصور، حين ننتقل من الأسماء إلى مُسمَّياتها.
إن معاني الاسم الواحد في اللغة الواحدة، إذا كانت تبدو وكأنها مُشتركة بين أبناء تلك اللغة على تعاقُب عصورهم، إلا أن الأشكال التي تتجسَّد فيها تلك المعاني تختلف اختلافاتٍ بعيدة بين عصرٍ وعصر في كثيرٍ جدًّا من الأحيان؛ لقد شاء لي الحظ الحسَن ذات صيفٍ أن أشهد وأن أسمع على شاشة التلفزيون في إنجلترا، فنان النحت العظيم هنري مور، وكان ذلك في مناسبة عيد ميلاده الثمانين (سنة ١٩٧٨م) والذين يعرفون الطريقة التي يُقيم بها «مور» منحوتاته؛ يَعلمون كم هي تختلف عن فن النحت كما كان معروفًا من قبل؛ فلقد كان المألوف أن ينحت الفنان صورة إنسان، أو فارس على جواده والحربة في يدِه، وما شاكل ذلك؛ فجاء هنري مور ليقدِّم كومةً من «كراكيب» حجرية، مُستنِد بعضها إلى بعضٍ بصورةٍ ما في عملٍ نحتي مُعين، فهذه كرة ضخمة من حجر، يستند إليها حجر ضخم أسطواني الشكل، وأسفلها قرص من الحجر به ثُقب كبير، وهكذا؛ فسأله المذيع: بم تفسِّر الاختلاف البعيد في منحوتاتك عن فن النحت كما عرفه فنانو عصر النهضة الأوروبية؟ فجاء الجواب مُثيرًا للعجب، أذهل المذيع، وأذهلني، كما لا بد أن يكون قد أذهل سائر من يشهدون ويسمعون، إذ أجاب الرجل قائلًا: إنه لا اختلاف بيني وبين رجال النهضة؟ ولكن كيف ذلك وعين الرائي ترى بينكما بُعدًا بعيدًا؟ قال: إن المُعوَّل عليه في الفن هو «الشكل التكويني» (أي «الفورم») وأنا أراعي «الفورم» بنفس الدقة التي راعى بها رجال النهضة «الفورم» في منحوتاتهم؛ إذن فالمسألة هي «اسم» لُغوي ومعناه في عصرَين مُختلفَين، فلا اختلاف بينهما على الاسم «فورم» ولكن الاختلاف هو فيما يُشير إليه بهذا الاسم.
ولعل هذه أن تكون هي اللحظة المناسبة التي ننتقِل عندها بالحديث إلى الشعر العربي في بعض صوره الجديدة؛ إننا إذا كنَّا نُدير كلامنا حول «تحديث الثقافة العربية» فلا شكَّ في أن أولى الموضوعات باهتمامنا، يجب أن يكون «الأدب»؛ والشعر هو من الأدب بمثابة الزهرة من الشجرة. ولماذا الأدب؟ لأن جوهر النسيج الثقافي في كل زمانٍ وفي كل مكانٍ ليس هو «المعلومات» المُعينة التي يعرفها أفراد الأمة المُعينة، وإنما جوهر الثقافة هو ما بُثَّ في حياة الناس من قيمٍ تضبط لهم الفوارق بين الحسَن المقبول والقبيح المرفوض؛ ومصادر تلك القِيَم كثيرة، ولكن الأدب عمومًا والشعر خصوصًا هو مِن أهم تلك المصادر؟ وذلك لأن الموضوع الأساسي للأدب شعرًا ونثرًا، هو «الإنسان» فحتى إذا تحدَّث الأديب عن شيءٍ يبدو وكأنه يتحدَّث عن الطبيعة، إلا أن الجوهر الكامن لا بدَّ أن يكون في نهاية الأمر علاقة الإنسان بما هو موضوع للحديث؟ إنه إذا كان «العلم» يُطبعِن الإنسان (أعني يجعله كأي ظاهرة أخرى من ظواهر الطبيعة) فإن الأدب، والشعر منه بصفةٍ خاصة، يؤنس الطبيعة؛ أعني أنه يَبُثُّ فيها من حياته حياة، وكأن ما فيها هم مخلوقات بشرية يتبادل معهم الشاعر اللفتات والومضات والمشاعر.
والشاعر العربي المُعاصر يُشارك جدوده الشعراء كنيتهم، فهو «شاعر عربي» وهم «شعراء عرب». وبديهي — إذن — أن يكون في هذا النسب الثقافي بينه وبينهم رابطة تُشبه التي بين فردٍ من أسرة مُعينة مع بقية أفرادها؟ ولتختلف فردية كل فردٍ بطابعها المُميز عن بقية الأفراد في الأسرة الواحدة، إلا أنَّ ذلك لا ينفي أن تظل الرابطة التي تربطهم جميعًا في أسرةٍ واحدة، قائمة، وإلا انفرطت حبَّات العقد ولم تعُد عقدًا! فماذا عساها أن تكون تلك الرابطة؟ إننا لو عثرنا عليها كنا بمثابة من عثر — في الوقت نفسه — على مِعيارٍ نقدي فاصل بين من يجوز له الدخول في زمرة الشعراء العرب ومن لا يجوز له ذلك؟ وقد يسارع قارئ فيقول: لماذا لا تكون تلك الرابطة التي تبحث عنها هي «اللغة العربية» ولا شيء إلا هذا، بحيث يكون لأبناء كل عصرٍ في التاريخ العربي، أن يقول الشعر على أي نحوٍ أراد، وحسبه أن تكون اللغة العربية هي وسيلة الأداء. ونحن نُصحِّح هذا السائل، فنقول أولًا: إن هناك بيننا من يقول شعره في عامية مصرية، زاعمًا أن هذه عنده هي «اللغة العربية» إذن تكون عبارة «اللغة العربية» — كما استخدمها صاحب السؤال — بحاجة إلى تحديد. وثانيًا: إذا كان استخدام «اللغة العربية» وحدَه هو الفيصل، فلماذا لا يدعي المُتكلم باللغة العربية أي ضربٍ من ضروب الكلام أنه شاعر؟ فإذا احتجَّ علينا صاحب السؤال بقوله: كلَّا، بل نحن نتحدَّث عن الشعر، وللشعر شروطه في طريقة الكلام، أجبناه بأنه ما دام قد أدخل نفسه في «شروط» ينبغي لها أن تتحقَّق ليكون الكلام شعرًا، فقد عرَّض نفسه لسؤالٍ أهم، وهو: وماذا تكون تلك الشروط، التي تحت مظلَّتها يقف الشاعر العربي المعاصر مع سائر الشعراء العرب في مختلف العصور؟
أما أنا فالجواب عندي، عن سؤال يُسأل عن الرابطة التي تربط أسرة الشعراء العرب حديثهم مع قديمهم، برغم اختلافات العصور، واختلافات الشعراء الأفراد في كل عصر واحد، أقول: إن جوابي عن هذا السؤال، جواب يُثير الذعر في الكثرة الغالبة من المُعاصرين ومن الشعراء بين هؤلاء المعاصرين بصفة خاصة؟ وذلك لأن الجواب عندي هو أن يلتزم الشاعر العربي، كائنًا ما كان عصره، وكائنة ما كانت مميزاته الفردية، أن يلتزم «عمود الشعر» … ألم أقل لك أنه جواب يُثير الذعر، لكن ذلك الذعر يزول معظمه إذا تمهلنا بضع دقائق لنعرف ما هو «عمود الشعر» الذي دار حوله لغط كثير حتى بين القدماء أنفسهم: فلسوء حظنا نحن قراء الشعر ومتذوِّقيه، أن يُساء فهم هذه العبارة إساءةً أساءت إلى الشعر العربي لا سيما في عصرنا هذا؟ إذ يسبق ظن خاطئ إلى كثيرين بأن المقصود بعبارة «عمود الشعر» هو التزام الوزن والقافية. ولمَّا كان شعراؤنا الجدد لا يميل بعضهم إلى هذا الالتزام، فهو يرفضه، «ليُبرطع» بالألفاظ وسطورها كما شاء له هواه ثم يقول للناس هاكم شعرًا «عربيًّا»!
لكن عمود الشعر هو أساسٌ مُركَّب من سبع صفات، ذكرَها وشرحَها «المرزوقي» في مُقدمته التي قدَّم بها شرحه ﻟ «ديوان الحماسة» الذي هو مجموعة المُختارات التي اختارها أبو تمام مما عدَّه أجود الشعر؟ وسأنقل عبارة «المرزوقي» بنصِّها، لأختم بها حديثي، تاركًا للقارئ خصوصًا إذا كان شاعرًا، أو ناقدًا للشعر، أن يتدبَّرها جيدًا، وإنني لعلى يقينٍ بأنه واجد في هذه الصفات السبع مأخوذةً معًا، أفضل إطار ممكن، يستطيع كل فردٍ أن يتميز فيه بفرديته، لكنه إطار يضمن لفكرة «عمود الشعر» أن تدوم على امتداد الزمن، رباطًا أوثق رباط بين الأفراد في أُسرة الشعر العربي، وهذه هي عبارة «المرزوقي» في تحديد الصفات السبع:
«إنهم كانوا يُحاولون شرف المعنى، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة، كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات، ثم المُقاربة في التشبيه، والتِحام أجزاء النظم وتخيُّر الوزن، ومناسبة المُستعار منه للمستعار له، ومُشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائها للقافية، حتى لا منافرة.»
لكَم تمنَّيتُ أن يتَّسع المكان لأصبَّ على هذه العبارة المعيارية المكثفة تحليلًا شارحًا، كان من شأنه أن يطرد الفزَع عن نفوس الشعراء، ففي هذا المعيار ما يضمَن للشاعر العربي الجديد، أن يكون «شاعرًا عربيًّا» وأن يكون «جديدًا».