خصوصية الثقافة ما مداها؟
تعالوا نبدأ حديثنا من الصفر، لعلَّنا نستطيع السير معًا، خطوة بعد خطوة، حتى ننتهي إلى نتيجةٍ نلتقي عندها، وعندئذٍ يمكن النظر في القضية المعروضة على نحوٍ عملي مُفيد، والقضية هي — كما ترى — عن تحديث الثقافة العربية وكيف يكون؟
فهنالك شيءٌ اسمه «ثقافة عربية» كان قائمًا، ولم يزل قائمًا، وسيظلُّ أبد الدهر قائمًا! على أن هذا الاسم المُطلق العام، إنما هو اسم يُشير إلى مجموعة من ثقافاتٍ إقليمية، تشترك كلها في جوهرٍ مُشترك، ثم تعود فيتميَّز بعضها عن بعض بخصائص فارقة، فهناك ثقافة مصرية «أو قل وادي النيل» وثقافة تعمُّ الهلال الخصيب، وثالثة تضمُّ بلاد الخليج، ورابعة تشترك فيها بلاد المغرب العربي، وهكذا على سبيل التعميم والتقريب، لا على سبيل الحصر والتفصيل، فهذه كلها «تنويعات» في نغمة الثقافة العربية، كما تتعدَّد التنويعات على اللحن الواحد، فمثلًا: هنالك شعر عربي حديث، إلا أن هذه العبارة إنما تغير إلى مجموعات من شعر شعراء ينتمون إلى أقطار مختلفة من الوطن العربي الواحد، ومُحال ألا يجد الباحث المُدقق، فروقًا تُميز الشاعر في العراق من الشاعر في مصر، أو في لبنان، أو غيرهما من أجزاء الوطن العربي، وتستطيع أن تُعمم هذا المثَل حتى تصِل إلى نسيجٍ ثقافي كامل في كل قطر عربي، مجموعها هو ما نُسمِّيه بالثقافة العربية في يومِنا هذا.
وإنني لأزعُم أمرَين: أولهما أن النسيج الثقافي في بلدٍ ما، أو عند فردٍ مُعين، إنما هو «الأداة» التي بها يعيش الإنسان كيفما يعيش، فإذا رأيتَ صورة الحياة العملية قد اختلفت بين شعبَين، أو بين فردَين، فاعلم يقينًا أن ذلك الاختلاف مردُّه إلى اختلافٍ فيما نُطلق عليه اسم «الثقافة»، أيًّا ما كانت العناصر التي تتألَّف منها «الثقافة»، ذلك هو أحد الأمرَين، وأما الأمر الثاني فهو زعمي بأن الثقافة العربية كما هي قائمة اليوم، بينها وبين عصرها تنافُر، كما يكون التنافر بين قفل ومفتاح ليس مفتاحه، فالقفل قفل والمفتاح مفتاح، لكن هذا المفتاح لا يصلح لذلك القفل، ولا ينفعنا في شيء — والحالة هذه — أن نقول عن مفتاحِنا إنه من ذهب، أو مما هو أنفس من الذهب، اللهم إلا إذا أردنا لذلك المفتاح أن يُوضع في متحفٍ من متاحف الجواهر الكريمة والمعادن النفيسة، وما قد صُنع منها مما يُعَد في دُنيا الفن والصناعة روائع من الروائع، وكذلك لا ينفعنا شيئًا أن نقول عن القفل أنه قطعة من الحديد الخسيس الصدئ، لأن الأمر ليس هو أمر مقارنات ومنافسات بين نفيسٍ وخسيس في سوق المعادن، بل الأمر هو أمر باب للحياة مُغلق دوننا ونريد أن ينفتح لنا لنستطيع الدخول، فقيمة المفتاح الذي في أيدينا — وهذا هو الموقف وطبيعته — هي أن يكون قادرًا على فتح القفل الذي أغلق باب «العصر» في وجوهنا، ولو كنَّا في غِنى عما وراء الباب، لقُلنا نعم ونعام عين، فمفتاحنا الذهبي في أيدينا، ستبقى له نَفاسة معدنه ما بَقِيَت على الأرض حياة وأحياء، لكنَّنا لسنا في غِنى عما وراء الباب، وإلا لَما مَدَدْنا أيدينا إلى أصحاب الدار راجِين أن يفتحوا بابهم المُغلَق ولو بمقدار ما نشتري من مُنتجاتهم — ومن علومهم، ومن أفكارهم ونظمهم — ما يتصدَّقون علينا به في أسواق البيع والشراء.
بهذه الصورة تتَّضح عناصر المشكلة الحقيقية التي نُواجهها في حياتنا الثقافية العربية كما هي قائمة؛ فمَوضع الإحراج والحيرة هو: أنبقي على مفتاحنا الذهبي النفيس وإلى الجحيم بالعصر وأبوابه المُوصَدة؟ أم نُخزِّن هذا المفتاح في ذاكرة التاريخ، ونلتمِس لأنفسنا مفتاحًا يفتح لنا أبواب هذا العصر، حتى ولو كان مفتاحًا من أخس الحديد؟ فإذا كانت الأولى أبقَينا على حياتنا الثقافية كما هي في قصورها، وإذا كانت الثانية، أخذنا من ثقافة العصر ما نُطعِّم به ثقافتنا لنُجري في شرايينها دماء الحياة. إنه إذا لم يكن أمامنا إلا هذان البديلان، كان الموقف عصيًّا على من أراد اختيار بديلٍ منهما دون الآخر، فمن ذا الذي يريد أن يتشبث بمفتاحٍ لا يفتح له بابًا مُغلقًا، لمجرد كونه مفتاحًا من ذهب؟ ومن ذا الذي يُريد أن تنفتح له الأبواب بلا شرط ولا قَيد، حتى لو انفتحت تلك الأبواب على حياة تُلغي وجوده ليُصبح عدمًا من العدم؟ لقد صوَّر القدماء مثل هذا الموقف المُربك بثورٍ هائج جاء مهاجمًا بقرنَيه الفاتِكَين، فماذا يصنع من هو في خطر هذين القرنَين، إذا كان رجلًا قويًّا، إلا أن يمسك ذلك الثور الغاضب من قرنَيه، يمسكهما بقبضة يدَيه في ثبات، حتى يجد لنفسه منفذًا بين القرنَين فينجو. ولقد أطلق القدماء على قرنَي الثور في مثل هذه الحالة، اسم «قرني الإحراج»، وهو تصوير لموقف من وجد أمامه بديلَين وكلاهما مُر، وطريق النجاة عندئذٍ إنما يتحقق بالمرور الماهر بين القرنين.
فهل من طريقٍ أمامنا للنجاة من خطر البديلين اللذين ذكرناهما، فيما يتصل بحياتنا الثقافية، وهما: إما ثقافتنا التقليدية وحدها، برغم كونها لا تقوى على مواجهة العصر وقضاياه، وإما ثقافة الغرب العاهر وحدها برغم كونها تُضيِّع علينا خصائصنا وتاريخنا وكل ما يحقق لنا هوية وطنية وقومية متميزة؟ أقول: هل من طريق أمامنا للنجاة من هذا الإحراج؟ الجواب هو بالإيجاب؛ إذ كل ما نريده ليُسعفنا بالخلاص من الحرج والحيرة، هو أن نقف بالجانب التاريخي المعروف، الذي منه تتكوَّن الخصوصية الثقافية المُميزة لنا، أن نقف بذلك الجانب عند الحد الضروري، لا نزيد عليه، لنُفسح بقية المجال للجانب الآخر المُستعار من حياةٍ جديدة نشأت ونشأت معها حضارة جديدة تسرى في أصلابها روح ثقافية جديدة، وأن هذا الجمع بين الجانبَين في ساحةٍ واحدة، ليحمل معه بعض الضرر إذا كان جمعًا يُكتفى فيه بمجرد التجاور المكاني، فهذا إلى جوار ذاك، دون أن يندمجا معًا في نسيجٍ واحد، وإنه كذلك ليكون جمعًا فيه البعث والنهوض، إذا عرفنا كيف نضفر الخيطَين في حبلٍ واحد، والذي حدث في حياتنا بالفعل، هو أن جاورنا بين المصدرَين، ولم نستطع مزجهما معًا في حياةٍ طبيعية واحدة، ومن هنا كان الضعف والمرض — بل والموت أحيانًا — ومن هنا أيضًا يتبيَّن لنا طريق التحديث الثقافي؛ أين يكون وكيف يكون؟
إنك أينما وجَّهتَ النظر في جوانب حياتنا، عمليةً ونظرية، رأيتَ هذا التجاور بين أصيلٍ ووافد دخيل، فأما هذا الدخيل الوافد للمنفعة العملية، وأما ذلك الأصيل فللحياة الوجدانية ذات العُمق العميق في القلوب. وابدأ بمعاهد العلم والتعليم كالجامعات، فهناك مادة علمية في شتَّى ميادين التخصُّص، تؤخَذ من أحدث مصادرها في الغرب المُعاصر، هناك الأجهزة المُتطورة في معامل الكليات العلمية، وهنالك المراجع التي تُمثل آخِر ما وصل إليه الباحثون في الغرب، لكن هذا كله لا يزيد عند الدارس — كما هو لا يزيد عند الأستاذ — على قشرةٍ تكسو سطح الذاكرة، لتكون جاهزة للاستعمال إذا ما خرج ذلك الدارس إلى دُنيا العمل، فالطبيب في طبه، والمهندس في ميادينه، والحقوقي في مواضعه من المحاكم وغيرها من مجالات القضاء، وهكذا إلى آخر التخصُّصات العلمية، لكن حُكَّ جلود هؤلاء جميعًا، لا أقول إلى عُمقٍ عميق، بل يكفيك أن تُجاوز قشرة رقيقة على سطح الجلد، لتجد سذاجة التصديق لأي شيءٍ مما ينتقض العلم ويتناقض مع أحكام العقل، وهناك تحت ذلك السطح الرقيق، تذوب الفوارق حقًّا بين الطبقات والأفراد، ويكاد الجميع أن يتلاقَوا معًا على حالةٍ من سلبية القبول لِما يُعرَض عليهم، ما دام العارض رجلًا مؤهلًا في حفظ ما هو مخزون في صُحف الأوَّلين.
واترك معاهد العلم والتعليم إلى ميادين الإعلام والثقافة، فعندئذٍ ترى تجاوزًا آخر من صنفٍ فريد، فالمذيع على استعدادٍ نفسي بأن يَلعن حضارة الغرب وثقافته ألف لعنة، ويعوذ بالله منهما كما يعوذ بالله من شيطان رجيم، ومع ذلك فهو يفعل ذلك كله في مذياع أو في تلفاز صنعهما له ذلك الغرب الملعون، والطبيب والمريض كلاهما على استعدادٍ نفسي أن يستنزلا غضب السماء على حضارة الغرب وثقافته، ومع ذلك فكلاهما يستسلِم راضيًا، ولكنه غير شاكر، للأجهزة الطبية التي صنعها الغرب، وللعلم الطبي الذي أبدعه الغرب. وانتقِلْ إلى «المُبدعِين» في دُنيا الأدب والفن؛ تجِدْ ما هو أدهى وأمر، فالمُبدع في أدب الرواية — مثلًا — على أتمِّ استعدادٍ نفسي بأن يملأ وعاءه الروائي بالتمرُّد على حضارة الغرب وثقافته، وينسى أن أدب الرواية في ذاته — بالمعنى الخاص الجديد «للرواية» — مأخوذ من ثقافة الغرب، فأدبُنا العربي قد عرف «الحكايات» لكنه لم يعرِف أدب الرواية بالمعنى الذي يكون فيه تصوير النماذج البشرية تصويرًا تحليليًّا مُستفيضًا، يكشف عن حقيقة الإنسان في سِرِّ سرِّه المخبوء. والأمر واضح في الأدب المسرحي، فإنه لَمِمَّا يُثير العجب، أن نبذل جهدنا لنُثبت أن في تراثنا الشعبي مسرحًا، وبذلك فلا نكون مَدينين للغرب بشيءٍ في هذا الصدد، وفي هذا الوقت نفسه ترانا لا نُقيم مسرحًا له قيمة في عالم الأدب والفن، إلا إذا أجريناه على سُنَن الفن المسرحي كما عرفه الغرب، وكما نقلناه عنه.
وندير البصر إلى حياة الجمهور في شتَّى درجاته، فنرى ذلك التجاور بين الحياتَين ظاهرًا في وضوح: فالريفي في قريته، قد أدخل في بيته كثيرًا من أجهزة الحضارة العلمية الجديدة، لكنه مع ذلك لا يزال هو الريفي في رؤيته وفي أحكامه، لم يختلف عن أبيه وجدِّه، بل ربما ساء سبيلًا، لأنه فقد البساطة البريئة، ولم يُعوضها بمزيدٍ من معرفةٍ وعلم، وإننا لنبلغ ذروة المَلهاة في تجاوز المصدرين، إذا ما جلسنا أمام مِذياع أو تلفاز، لنستمِع إلى أحدٍ ممن اختاروا الحياة في صحف التراث موردًا للعيش، فهناك حقًّا ترى الزاوية قد انفرجت حتى بلغت مائةً وثمانين درجة، بين حياة فِعلية يعيشها الرجل في بيتٍ حديث العمارة، وطبٍّ حديث، ونظم حديثة في التعليم، وفي الحُكم، ووسائل نشر حديثة في الصحافة وغيرها مما تنشره مطابع حديثة جاوزت بما تصنعه شطحات الأحلام، إلى آخر الأعاجيب التي أنتجتها حضارة العِلم الجديد، ومع ذلك كله، فالرجل على استعدادٍ نفسي كامل، بأن يفتح نيران مدافعه على ذلك الغرب الخبيث الشيطاني الملعون.
وإنا لنلحظ مثل هذه الازدواجية الثقافية المريضة في معظم بلدان العالم الثالث التي تحرَّرت من مُستعمريها حديثًا، فقد دفعها الغيظ المكتوم إلى التمسُّك بكثيرٍ من ملامح حياته الوطنية، إذا ما كان المجال مجال لقاءاتٍ على المستوى الدولي، كاجتماعات هيئة الأمم المتحدة، حيث ترى المُمثلين لتلك البلدان وقد ارتدَوا ثيابهم الوطنية، وقدَّموا وجبات من طعامهم الوطني في حفلات العشاء التي يُقيمونها، وهكذا، وكل ذلك شيءٌ مُحبَّب إلى النفس ولا عيب فيه، لكن الأمر إذا ما جاوز تلك الظواهر، ليمسَّ نبض الحياة الحقيقي، كأن يُخلِص المواطنون لوطنهم بالأفعال لا بالأقوال، فيخلصون في العمل والإنتاج، ويخلصون في التفكير والتعبير، وجدتَ لديهم شيئًا آخر. ولستُ عالمًا من علماء الاقتصاد لأعرف لماذا يظلُّ هذا العالم الثالث في حالةٍ دائمة من الفقر والعوز، فإذا قيل إنه الغرب الشيطاني مرةً أخرى، هو الذي يَبتزُّ مواردنا الطبيعية بأبخس الأثمان، ليَبيعها لنا مصنوعةً بأغلى الأسعار، كان جوابي هنا: إن شيطنة الأبالسة لا تنال إلا غير المؤمنين؛ فلو آمنَّا حقًّا بواجبنا نحو أوطاننا وأقوامنا، لاختلفت معنا سُبل العمل وطرائق التفكير.
لقد قدَّمتُ ما قدمتُهُ مُجازفًا، لأنني على أيقن يقينٍ بأن القارئ المُتعجل — وقارئنا يغلب عليه أن يتعجل القراءة — سيقفز بأطراف البصر بين ملامح السطور، ليصرخ آخِر الأمر بأن هذا كاتب مُتعصب للغرب في صَممٍ وعمًى، فمِثل هذا القارئ المُتعجل لا يُريد أن يُنصف في أحكامه، وإلا فلا تعصُّب هنا ولا ما يُشبه التعصُّب، وإنما الذي بين أيدينا تحليل وتصوير: كيف تخلفنا عن ركب الحياة ولماذا؟ فإذا كان أمر ذلك مرهونًا دائمًا بالنسيج الثقافي الذي يكسو حياة الناس في عصرٍ مُعين، جاء سؤالنا الرئيسي: وما سبيلنا إلى تحديث حياتنا الثقافية تَلافيًا للنقص وعلاجًا للمرض، شريطة ألا يجيء شيء من ذلك ليُشوِّه ملامح كياننا أو ليمحوها، بل لنلتمِس الموضع الصحيح الذي نكتفي عنده بمقوماتنا التاريخية، لنُكمِل البناء بإضافاتٍ تُدخلنا في العصر الجديد، لا بشراء أجهزته وآلاته، وترديد أفكاره العلمية ترديد الببغاء، فنُفكِّر بآذاننا وليس بعقولنا، بل بالإيمان الحضاري الثقافي الذي لا يكذب ولا يُنافق، والذي يحقن ثقافة قومه التقليدية بما تزداد به قوةً وفاعلية وإبداعًا، فإذا كنتَ مُتعصبًا لشيء، فلِمثل هذا الخلق الثقافي الجديد، الذي يُقام على أسس الهوية القومية، ثم يُضيف إليها غذاء عصر لا يُشبِه ما قد سبقه من عصور.
ولكن كيف تتمُّ لنا هذه التغذية التي تُخرج من ثقافتنا خلقًا جديدًا، مع محافظته على جوهره؟ إن جواب هذا السؤال يُقدم نفسه بما يَصنعه علماء الزراعة وهم يُنتجون نوعًا جديدًا من ثمرة معروفة، فهم يُنتجون برتقالًا من طراز جديد، ولكنه برتقال، ويُنتجون قطنًا أو قمحًا أو ما شئت، من نوع جديد ولكنه قطن أو قمح أو ما شئت، وهكذا قُل في كثير جدًّا من أنواع الأحياء وكيف يُخرج منها علماؤها طرزًا جديدة، أقوى وأغنى بصفاتها مما كانت عليه أسلافها، دون أن يفقد النوع جوهره، فلا يُصبح الجواد الكريم قردًا ممسوخًا، كلَّا ولا يتحوَّل القرد ليُصبح جوادًا كريمًا.
ولا علينا مما يحدث في عالم النبات وعالم الحيوان، ولنعُد بحديثنا إلى الإنسان وثقافته، ونسأل مرة أخرى: كيف تتحوَّل ثقافة مُعينة إلى صورة أقدر وأقوى وأهدى سبيلًا، دون أن يُمسخ ملمح من جوهرها الأصيل؟ وأبدأ بأن أُطمئِنَ القارئ بأن هذا الذي تسعى إلى خلقه، قد تحقَّق بالفعل في كثيرين من أعلامنا، بحيث نجد الواحِد منهم عربيًّا ومسايرًا لعصره من عُمق أعماقه، وكل الذي بقي علينا أن نُحققه، هو أن يتسع بنا مجال التطبيق، حتى يُصبح هذا النموذج الثقافي مُتمثلًا في عامة الجمهور، بدل أن يظل مقصورًا على أفراد.
ثم أنتقل بعد هذا التنبيه، لأُبين كيف يتمُّ التحوُّل المطلوب على نطاقٍ أوسع ليشمل الجمهور في طريقة تفكيره وفي أسلوب عمله، فأقول: إنها «المعرفة» ثم مزيد من المعرفة، فهي الوسيلة التي لا تسبقها وسيلة أخرى، ليتحقَّق لأفراد الشعب اكتساب الشخصية الجديدة التي تصمد فيها خصائص الهوية المصرية، العربية، ويُضاف إليها بالدمج العضوي، خصائص تقتضيها الحياة الحديثة في عصر العلم … معرفة ماذا؟ معرفة الإنسان العادي لدقائق الأشياء التي حوله مما يقع في مجال عمله، ومعرفة «الآخرين» ممن يُواطنونه، ومن هم خارج حدود الوطن؛ فالعالَم تُستَمَد صِلاتُه بالوسائط المُستحدَثة حتى ليستحيل على إنسانٍ أن ينعزِل حتى إذا أراد. وأخيرًا معرفة الفرد لنفسه على نحوٍ موضوعي ولو إلى حدٍّ محدود. وإذا أردت أن تتبيَّن كم هي قليلة ومُهوَّشة وخاطئة، تلك الحصيلة المعرفية التي يُحصِّلها متوسط الفرد في شعبنا، فاستمِع إلى الكثرة الغالبة منهم، كيف يتحدَّث المُتحدِّث منهم عن أي موضوع يُطلَب إليه التحدُّث فيه، فعندئذٍ تسمع لعثمةً ولجلجلة وكلمات متقطعة، لينتهي الحديث آخر الأمر بمضمون ضَحْل قلَّما ينفع أحدًا أو يشفع لأحد. وقارن هذا الفقر الشديد في محصول المعرفة عند الفرد العادي — بل ومن هو فوق العادي — قارِنْه بما تَسمعه في إذاعاتٍ أجنبية حين يدور حوار بين مذيع وشخصٍ آخر — قد يكون عابر سبيل — لترى كيف ينطق الكلام، وكيف تَغزُر المعاني التي يحملها هذا الكلام، ويتم كل ذلك بغير لألأةٍ أو لجلجة أو لعثمةٍ إلا قليلًا، لماذا؟ لماذا نُعلل الفرق بين مُتحدثٍ هنا ومُتحدث هناك، سواء أكان موضوع الحديث متصلًا بتخصُّص المُتحدِّث، أم كان حديثًا عابرًا في موضوع عام؟ عِلة هذا الفرق الشاسع الذي لا يُدرِك مداه إلا من تعمد أن يُقارِن فتدقُّ ملاحظته، أقول إن عِلة ذلك الفرق هو أننا هنا لا نعرف، وأنهم هناك يعرفون؛ يعرفون «الأشياء» ويعرفون «الآخرين» ويعرفون «أنفسهم» ومصدر تلك المعرفة عندهم، ملاحظة واعية لِما حولهم من جهة، وقراءة لا تنقطع من جهةٍ أخرى. وإذا قُلنا «قراءة» فقد قُلنا اكتسابًا لمشاهدات القادرين على المشاهدة والتحليل والاستدلال، ليُضاف ذلك إلى ما قد حصَّله الفرد من واقع حياته تحصيلًا مباشرًا.
وربما كان القسم الثالث من أقسام «المعرفة» التي ذكرناها، وأعني معرفة الإنسان لنفسه معرفة موضوعية، لا يكتفي صاحبها بمجرد استبطان ذاته؛ ليرى ماذا يحدُث فيها من أفكارٍ ومشاعر ودفعات الغرائز، أقول: ربما كانت معرفة الإنسان لنفسه على هذا النحو الموضوعي، هي المجال الذي تنبُت فيه ما أسميناه «بالخصوصية الثقافية» فلِكُل إنسانٍ — كائنًا ما كان موطنه، وكائنًا ما كان عصره الذي يعيش فيه — تركيبة من معرفةٍ ومن عقيدة، يتجاوب بها مع مكانه وزمانه ومع من يتعامل معهم من سائر الناس، وتلك التركيبة الخاصة هي التي تحمل خصوصية موقفه، وهي التي تُحدِّد «رؤيته» إلى العالَم الخارجي، في ماضيه وفي حاضره وفيما يُرجى لمُستقبله، فللمصري هذه التركيبة الخاصة به، يُضاف إليها جانب يجعلها تركيبة أوسعَ نطاقًا تسلك المصري مع مواطنيه في الوطن العربي الكبير، ثم قد تتَّسع التركيبة لتشمل ما هو أوسع وهكذا. أريد أن أقول إن الخصوصية الثقافية لشعبٍ ما ليست شيئًا جامدًا يتساوى فيه يَومُه مع أمسه وغده، بل هي كيان تتسع فيه الدوائر ما اتسعت آفاق الحياة.
والسؤال الهام في هذا الصدد هو: أصحيح أن الخصوصية الثقافية لشعبٍ معين، قد تتعرَّض لخطر الانهيار إذا هي انفتحت أبوابها لتنفذ منها عوامل خارجية آتية من ثقافاتٍ أخرى؟ يبدو أن مثل هذا الظن هو السائد في مصر وسائر أقطار الأمة العربية اليوم، ولذلك يكثُر القول الدالُّ على فزع، عما يُسمُّونه «غزوًا» ثقافيًّا يُهدد خصوصية الثقافة العربية، إنه لو صدق هذا الظن لَما عرفت الدنيا شيئًا اسمه «لقاء الثقافات» وماذا يكون هذا اللقاء بين الثقافات إن لم يكن تأثيرًا وتأثُّرًا، يحدُث بها التبادل بين تلك الثقافات أخذًا وعطاءً، وانظر إلى شتَّى أنواع الفن في عصرنا هذا، لترى كم أخذ الفن في الغرب من شعوب إفريقيا: في التصوير، وفي النحت، وفي المُوسيقى والغناء، وانظر إلى أرجاء العالَم كله، لترى كيف أن فن العمارة في صورته الحديثة يكتسِح المدن والقرى، والأمثلة على ما قد شهده التاريخ من لقاءات بين ثقافاتٍ مختلفة، لا تكاد تُعد أو تحصى دون أن تُمحى بذلك خصوصيات الشعوب، مما يدل على أن تلك الخصوصية يكفي لصمودها أن يصمد فيها خصائص جوهرية قليلة، لا تتَّسع لتشمل كل أطراف الحياة.
لقد تعاقبَت في تاريخ علم الفلك نظرتان — أو نظريتان — عن الأرض وعلاقتها بسائر أجزاء الكون بصفةٍ عامة ومن بقية أجزاء المجموعة الشمسية بصفة خاصة، وكانت النظرة الأولى لبطليموس، وهو من علماء الإسكندرية في عهدها القديم، يقول فيها: إن الأرض ثابتة، وهي في مركز الكون، حولها تدور كل نجومه وكواكبه، وأما الثانية فكانت لكوبرنيق، وهو من علماء الفلك في عصر النهضة الأوروبية، وقد عكس بها الصورة التي تصوَّرها بطليموس، ولا تزال نظرة كوبرنيق هي المأخوذ بها إلى اليوم وخلاصتها؛ أن ليست الأرض إلا كوكبًا كسائر الكواكب في المجموعة الشمسية، وكلها على حدٍّ سواء يدور حول الشمس. وإنني لأذكر هاتَين النظرتَين، لا من حيث هما حقيقتان عن الأرض في تاريخ علم الفلك، بل لأنهما تدلان في الوقت نفسه على نموذجَين من التفكير البشري، فهنالك أقوام تأخذهم العزة بالأنانية وحُب النفس؛ فلا يتصوَّرون أنفسهم إلا كالقطب تدور حوله الرحى، فإن كان في الدنيا أقوام سواهم، فلا بدَّ أن يكونوا دونهم خلقًا ومجدًا وإنسانية، ولكن هنالك كذلك أقوام ينظرون إلى أنفسهم — لا على نظرة بطليموس، بل على نظرة كوبرنيق — فيرَون أنهم مع غيرهم من البشر سواء، ولا يكون فرق بين شعبَين إلا بالقُدرة وبالعلم اللذين يجعلان من شعبٍ يتحلَّى بهما معًا بين خصائص أوفر مالًا، وأشد قوةً وسلطانًا. وواضح بين هاتَين الوقفتَين أن أصحاب النظرة الأولى — التي تنطوي على ذاتها، وتنكفئ على ثقافتها الخاصة وتاريخها الخاص — هم الذين يخشَون على خصوصيتهم الثقافية أن تأتي إليها عوامل خارجية، فتَثقُب جدرانها، وتطير مع الهباء هباء. إنها أوهام الضعف والمرض، وتظاهُر بالثقة بالنفس، يُخفي وراءه شعورًا بالعجز والخواء.
ومعرفة الإنسان لنفسه معرفة «موضوعية»، تُبين له أين مواضع القوة وأين مواضع القصور، هي التي تُخرجه من أوهامه عن حقيقة ذاته، وقد تكون هذه فرصةً مناسبة ألاحظ عندها أن المُتعقب لما يُنشَر من نتاج ثقافي — شعرًا ونثرًا — في أرجاء الوطن العربي اليوم يَرى في وضوحٍ، كيف وإلى أي حدٍّ بعيد، نخدع أنفسنا عن أنفسنا، حتى لتجيء أفكارنا وأشعارنا أقرب إلى أحلام اليقظة منها إلى الرؤية إلى واقع الأمر من خارجه لكي نراه على حقيقته: علمًا وجهلًا، قوة وضعفًا، ويكفيك في ذلك أن تقرأ الشطر الأكبر من شعر شعرائنا المُعاصرين لتعلَم كم فيه من نظرة تتَّجه إلى باطن، وكم يتَّجه إلى خارجٍ بحجَّة أن الشعر تعبير عن «ذات» الشاعر، وهو قول إن يكن صحيحًا في بعض الشعر الجيد إلا أنه لا يصدُق على أجود ما أنتجه الإنسان من شعر، فعمالقة الشعر — والأدب كله — هم أولئك الذين عرفوا كيف تنصَّلوا من ذوات نفوسهم، ليُوجهوا بصائرهم نحو حقيقة «الإنسان».
تلك — إذن — هي معرفة الإنسان لحقيقة نفسه، وهي إحدى معرفات ثلاث ذكرناها فيما أسلفناه، لنقول إن تحديث الثقافة العربية مرهون بتحصيلها، وأما الضربان الآخران، فأحدهما هو معرفة الإنسان — ما وسعت قُدرته — لحقائق الأشياء من حوله، خصوصًا في المجال الذي تقع فيه حياة الفرد في عمله، وأما الضرب الآخر فهو معرفة الجمهور لما يجري في حياة الآخرين إننا في كل ذلك نجهل أكثر من كثير، ونعلم أقل من قليل وهو نقص مردُّه إلى التربية الأولى، وإلى التربية الثانية، وإلى التربية الثالثة، ففي الأولى؛ لا يجد الطفل في سِنيه الأولى أُسرة تُرهِف حواسَّه لترى ولتسمع، فمن ذا الذي يعرف أن عين الطفل يجب أن تُدرَّب على رؤية التفصيلات في كل شيء مما حوله، وأن أذنه يجب أن ترهف لتسمع تفصيلات الصوت المسموع؟ وأما التربية الثانية في المدارس فهي أضلُّ سبيلًا، لأن القائمين عليها لا يعرفون لأنفسهم مهمةً يؤدونها إلا أن يحفظ تلاميذهم مجموعة من مُلخَّصاتٍ مبتورة، وكان الله يُحب المحسنين، وتُركت تربية العين وتربية الأذن وغيرهما من حواس الإدراك، لعبث المصادفات! وأما التربية الثالثة وهي التي مصدرها أجهزة الإعلام، فأصحابها مشغولون عن تربية الأفراد في هذا الاتجاه، بمقطعات من المشاهد والمعلومات، لا يذهب نفعها في حياة الناس إلى أبعدَ من حركة الظل يظهر خافتًا ثم لا يلبث أن يزول.
لقد أُتيح لي ذات يومٍ بعيد، أن أقرأ الكلمات التي ألقاها أعضاء مؤتمر ثقافي دولي، ضمَّ بين أعضائه هؤلاء، نفرًا من أعلام الفكر في عددٍ كبير من أقطار الدنيا وفيهم بعض أعلام العرب، فكان أشدَّ ما استوقف نظري عند المقارنة، أنَّ علماء الغرب وأدباءهم، أقاموا نتائجهم على «تفصيلات» مدروسة، وأما نظراؤهم العرب فكانت كلماتهم أمْيلَ إلى التعميمات المجردة الباهتة. وأذكر أني همستُ لنفسي يومئذٍ قائلًا: إن أولئك «يعلمون» وهؤلاء «لا يعلمون».
إن أوعية رءوسنا هي كالخاوية من معرفة التفصيلات، وذلك بالنسبة إلى المجالات الثلاثة التي ذكرناها، فمُتوسط الفرد منا لا يعرف إلا النذر اليسير عن الأشياء التي في مُحيطه، وعن حقيقة الحياة عند الآخرين، وعن أنفسنا، ولذلك ترى كاتبًا يكتب ولا يقول شيئًا، ومُتحدثًا يتحدَّث ولا يترك عند سامعه أثرًا، فلو عملت قنوات التعليم والإعلام على تعبئة الأوعية الخاوية بما عساه أن يتبلور في «وجهة نظر» تعم أفراد الشعب برغم تفاوت درجاتهم بعد ذلك، فربما ارتفعنا ثقافة، وازدادت خصوصيتنا الثقافية — في الوقت نفسه — حرارةً وعمقًا.