وجدنا البضاعة، الأسعار مرتفعة!
في الخامسة صباحًا استيقظ الشياطينُ، وفي الدقائق التالية كانوا قد انتهوا من الاستعداد للرحلة. وجاءت لحظة فراقهم للصديقين «فيجو» العجوز و«موري» الجريح، وكان وداعًا مؤثِّرًا؛ فقد كان لهذين الرجلين فضلُ إنقاذهم من براثن «مارتينز»، ووضع «أحمد» في يد «فيجو» مظروفًا متخمًا بالمال، ثم نزل الشَّياطين عندما سمعوا صوت السَّيارة العجوز تقف بالباب، وقد ارتفع كالرعد صوت محركها القديم.
نزل الشَّياطين، وكانت القرية لا تزال نائمة، حتى «مانويل» اكتفى بوضع روب فوق ملابس النوم، ووقف فخورًا بجوار العربة الدائرة … وعندما وقعت عينا «أحمد» على السَّيارة الرمادية، أحس بنوع من الشَّفقة عليها، ففي الأغلب ستكون هذه آخر رحلاتها، فلن يستطيع محركها القديم، ولا هيكلها المتداعي احتمال مجهود آخر … وقالت «هدى»: لا أظن أن هذه السَّيارة يمكن أن تصل إلى «بيونس آيرس»!
رد «أحمد» مبتسمًا: من الذي قال لك إنها ستذهب إلى هناك؟ … إننا سوف نتركها في أقرب مدينة نجد فيها سيارة أقوى … إنها فقط ستخرجنا من قرية الأشرار هذه.
وضع الشَّياطين حاجياتهم في السَّيارة ثم قفز «عثمان» إلى عجلة القيادة، ووقف «أحمد» يضع بقية المال في يد «مانويل» الذي ابتسم في شراهة، ثم مدَّ يده في جيب الروب وقال: سأعطيك هدية مجانية!
ووضع في يد «أحمد» خريطة قديمة للطرق في الأرجنتين، ثم قال: بدون هذه لم تكن لتذهب بعيدًا! …
وشكره «أحمد»، ثم قفز إلى جانب «عثمان».
وانطلقت السَّيارة تكركر على الطريق نصف الممهد، ورفعوا أيديهم بالتحية ﻟ «مانويل» الذي وقف وحده في ساحة القرية يعد النقود دون أن يلتفت للتحية.
قال «عثمان» وهو يضغط على بدَّال البنزين: لا بأس بها. إن هذا النوع من السَّيارات يتحمل كثيرًا … وما زال المحرك قادرًا على العمل الشَّاق.
أحمد: ذكرتني هذه الليلة، بالأحداث التي تجري بأفلام رعاة البقر … وقد تمنيت حقيقةً أن أبقى فترة أخرى!
ساد الصَّمت، ثم قالت «إلهام»: هل سنشاهد الفيلم في المدينة القادمة، أم سننتظر حتى نصل إلى «بيونس آيرس»؟
ردَّ «أحمد»: ولماذا الانتظار؟ … إن كل ساعة تمضي تُقرِّبُنا من الفشل …
ومضت السَّيارة بسرعة متوسطة … وبدأ الصَّباح يغزو الأفق، وظهرت التلال الحمراء، بين الأعشاب الخضراء، وأحسَّ الجميع براحة النفس التي يشعر بها كل محب للطبيعة.
استمروا دون توقف، وعيْنُ «عثمان» على مؤشر البنزين … كانت كميته كافية لقطع نحو مائتي كيلومتر، وكانت أقرب مدينة على أبعد من هذه المسافة بقليل … وفكَّر «عثمان» أنه إذا فرغ البنزين فستصبح كارثة، ولكنَّه لم يرد أن ينقل شعوره بالقلق إلى الآخرين.
بعد حوالي ساعتين صعدوا تلًّا، وعندما هبطوا على الجانب الآخر ظهرت من بعيد ملامحُ مدينةٍ، وأحسَّ «عثمان» بالاطمئنان … وسرعان ما ضغط على بدَّال البنزين، انطلقت السَّيارة ترعد على الطريق، حتى دخلوا الطريق الرئيسي، وبدأت الحياة النشطة تحيط بهم … وعندما شاهد «أحمد» السَّيارات الحديثة تقطع الشَّوارع، أحسَّ بالراحة … وعند أول استراحة توقفوا وتناولوا بعض المشروبات، وتبادل «أحمد» مع البائع أطراف الحديث، وعرف منه طريق محل لبيع آلات العرض … ولم تمضِ ساعة، حتى كان الشَّياطين يجلسون في غرفة واسعة بأحد الفنادق، وقامت «هدى» بتجهيز آلة العرض.
جلس الشَّياطين، وقد بدا الاهتمام واضحًا على وجوههم جميعًا. فها هو أخيرًا الفيلم الذي فعلوا المستحيلات، وخاضوا المغامرات من أجله … ها هو أخيرًا مفتاح لغز العلماء المختطفين، والمركز الذري! …
وأطفأ «قيس» الأنوار، ودار الفيلم … وكانت الصُّور الأولى عليها بعض كلمات، ثم خريطة توضح مكان المركز. ثم بدأ الفيلم ذاته، فاستعرض المركز الذري، كان مشيدًا في شكل مبانٍ مستطيلة مجمعًا، وفي الوسط كان ثمة مبنًى ضخمٌ لا شك أنه المعمل، وكانت هناك بياناتٌ تظهر في شكل سطور وأرقام على بعض المباني، ثم دخلت الكاميرا المعمل ذاته، وظهر أحد العلماء أمام سبورة سوداء، وأخذ يشرح العمليات التي يقومون بها … ولاحظ الشَّياطين على الفور أن العالِم كان يلبس قناعًا، ومن الواضح أن العصابة كانت حريصة في هذا المركز السِّري، أن تخفي حقيقة العلماء الذين يعملون فيه. ظل العالِم يشرح بسرعة بعض النتائج التي حصلوا عليها … ثم اختفى، وحلت بعده مجموعة من الصُّور لانفجارات صغيرة صدرت من خلف طاقة زجاجية من نوع خاص … وانتهى الفيلم وقد بُهر الشَّياطين بالمعلومات الدقيقة التي حصلوا عليها … وقال «أحمد» معلقًا عند نهاية الفيلم: لم أكن أحلم بكل هذا! … سنحتاج إلى إعادة عرض الفيلم بضع مرات بالسُّرعة البطيئة، لنحدد مكان المركز بالضبط، ونوع الحراسة المقامة عليه.
وأعادت «هدى» عرض الفيلم بالسُّرعة البطيئة، وأخذ كل واحد من الشَّياطين يدوِّن المعلومات التي يراها، وأهمها خطوط الطول والعرض للمنطقة القطبية التي أقيم عليها المركز. وكانت الخريطة الرئيسية توضح دائرة القطب الجنوبي في شكل دائرة، تخرج منها خطوط الطول والعرض فتشبه بيت العنكبوت …
ورسمت «هدى» خريطة سريعة مثل التي على الشَّاشة. وكانت هناك ثلاثة خطوط توضح المسافة إلى نقطة إقامة المركز. خط رأسي من «هورن»، وخط «كيبتون» وخط من «ملبورن» – ثلاثة خطوط مستقيمة. ثم خط رابع متعرج من بحر «روسي» الثَّلجي، في الدائرة القطبية إلى جزر «فولك لاند»، وطوله ٣٠٠٠ كيلومتر تقريبًا.
قال «أحمد»: إن نقطة إقامة المركز على بحر «روسي» الثَّلجي، يعني أن بعض التجارب تتم في البحر!
هدى: إنه بحر متجمد طوال الشِّتاء فلا بد أن التجارب تتم في الصَّيف.
أحمد: إننا ما زلنا في بداية الشِّتاء …
هدى: إنَّ وصولنا إلى هذه النقطة التي أُقيم عندها المركز، ضَربٌ من المستحيل، فالقارة القطبية الجنوبية هي أقصى بقعة على وجه الأرض … وهي درع سميك محدب من الصَّخر والجليد، اتساعه ١٣ مليون كيلومتر مربع، وتنعدم الحياة في ٩٩٪ من مساحتها!
ونظر الجميع إلى «هدى» التي اشتُهرت بمعرفتها الفذة بالجغرافيا، فمضت تقول: في وسط القارة القطبية الجنوبية كما تحددها خرائط الجغرافيا، وهي الدائرة التي يحيط بها خط عرض ١٠٠، والمركز مقام على خط العرض ٨٠ …
أحمد: وما هي درجة الحرارة هناك؟
هدى: إنَّها تصل في الشِّتاء إلى ٨٥ درجة مئوية تحت الصَّفر. ولم يسبق لمخلوق حي أن عاش في هذا الجو!
أحمد: إذن فمن المؤكد أن المركز الذري مكيف الهواء. ولا بد من أنه يعمل بالطاقة النووية!
قالت «إلهام»: إن المسألة التي يجب دراستها الآن هي كيفية الوصول إلى هذا المكان.
قيس: ليس إلا بالطائرة … ولا بد أن تكون هذه الطائرة مزودة بزحافات يمكن أن تنزل بها على الثَّلج!
أحمد: مثل الطائرة التي تحطمت عند جزر «فولك لاند»؟!
قيس: بالضبط.
هدى: وكيف نحصل على مثل هذه الطائرة؟!
أحمد: بالطبع من الصَّعب الاعتماد على أنفسنا، لا بد من مساعدة رقم «صفر».
إلهام: لا بد أن يتم هذا بشكل عاجل، إن «مارتينز» لن يقف مكتوف اليدين، ولا بدَّ أنَّه تحرك الآن لمطاردتنا، وربما يسرع بإرسال حراسة مشددة إلى المركز الذري!
عثمان: إذن يجب ألا نضيع وقتًا أكثر، ولنبحث عن سيارة قوية تستطيع أن تحملنا إلى «بيونس آيرس»!
أحمد: فلتنزل «إلهام» و«قيس» للبحث عن سيارة.
قيس (مبتسمًا): وماذا سنفعل بالسَّيارة القديمة؟
أحمد: سنتركها هدية لمن يجدها!
وأسرعت «إلهام» و«قيس» بالنزول إلى الشَّارع، وسارا معًا وسألا عن أقرب معرض للسيارات في المدينة، وسرعان ما كانا يقفان أمام واجهة معرض حافل بمختلف أنواع السَّيارات الحديثة … وأشارت «إلهام» إلى سيارة «لنكولن» قوية وقالت ﻟ «قيس»: ما رأيك فيها؟ …
إنها ذات ستة سلندرات، وستحملنا كالريح إلى «بيونس آيرس».
أحنى «قيس» رأسه موافقًا، ودخلا معًا إلى المعرض، ولم تمضِ ساعة حتى كان «قيس» يقود «اللنكولن» الزرقاء إلى حيث كان بقية الشَّياطين في الانتظار، وفي اللحظات التالية تم نقل كل الأشياء التي كانت بالسَّيارة القديمة إلى السَّيارة الجديدة.
وتولى «قيس» قيادتها عبر شوارع المدينة الهادئة، حتى وصل إلى الطريق العام فأطلق لها العنان، وأدار الراديو فانطلقت موسيقى خفيفة استسلم لنغماتها الشَّياطين، بينما أخذ مؤشر السرعة يتزايد تدريجيًّا.
بعد ساعات، وعندما بدأ الظلام يغزو الأفق، كانت أضواء مدينة «بيونس آيرس» الضخمة تلمع من بعيد …
وبدد «أحمد» الصَّمت الذي ران طويلًا على راكبي السَّيارة، وقال: سنذهب إلى فندق «انتركنتننتال»، فنحن في حاجة إلى راحة طويلة، وإلى أجهزة اتصال قوية، لترسل برقية الشَّفرة إلى رقم «صفر»!
هدى: أي نوع من الشَّفرة سنستخدم؟
أحمد: بالطبع لن نستخدم شفرة بالأرقام أو الحروف، فيجب أن تكون شفرة على شكل برقية، كأننا نطلب إرسال بضاعة عادية، وسنرسل البرقية على عنوان مركز «القاهرة»؛ ليقوم بتحويلها إلى «ش. ك. س». دخلت السَّيارة إلى شوارع «بيونس آيرس» المزدحمة وقد أضاءت كل أنوارها، وبعد أن سأل «قيس» بعض الأشخاص، أخذ طريقه إلى فندق «انتركنتننتال». وسرعان ما كانوا يحتلون ثلاث غرف متجاورة في الفندق الكبير … وجلست «إلهام» و«أحمد» يكتبان البرقية لرقم «صفر»، وكانت تبدو فعلًا كأنها برقية رجل أعمال يطلب بضاعة، وكان نص البرقية: «عثرنا على البضاعة المطلوبة، وعرفنا أسعارها تمامًا، وهي أسعار عالية جدًّا … ولكننا نستطيع دفعها. لا يمكن نقل البضاعة إلا بطائرة مزودة بأجهزة خاصة بالمناطق القطبية … هل يمكن إرسال هذه الطائرة في وقت قريب؟»
أخذ «أحمد» البرقية إلى مكتب البريد الملحق بالفندق، وفي خلال السَّاعات التالية كانت أجهزة اللاسلكي تحمل البرقية الشَّفرية من «بيونس آيرس» إلى مركز القاهرة، ثم إلى رقم «صفر».