فرقعة في القطب الجنوبي!
قضى الشَّياطين الخمسة ليلة هادئة بعد أن أرسلوا البرقية الشَّفرية، وعندما أقبل الصَّباح لم يتحركوا من الفندق؛ فقد كان احتمال أن يراهم أحد أعوان «مارتينز» احتمالًا قويًّا … واكتفوا بالجلوس في شرفة الفندق الواسعة، والاستمتاع بالراحة، وفي المساء وردت برقية رقم «صفر» …
الثَّلاجة المطلوبة جاهزة … تصل في الصَّباح الباكر إلى مطار «بيونس آيرس» الدولي … ستحملها طائرة من طراز «دوجلاس» يمكن الاعتماد على الطيارين. إذا لزم الأمر؛ أرسلوا تأكيدًا قبل السَّفر. الطائرة مزودة بالأوراق اللازمة للسفر إلى أي مكان، مع أمنياتي بالتوفيق.
وكان للبرقية وقعها المثير على الشَّياطين الخمسة. وسرعان ما اجتمعوا لتقرير الموقف ووضع الخطط اللازمة، وسرعان ما اتفقوا على أن يقوموا هم بقيادة الطائرة، على أن يرسلوا مع الطيارين القادمين، رسالة مطولة إلى رقم «صفر»، والشَّريط المسجل عليه فيلم المركز الذري؛ فقد يحتاجه رقم «صفر». ومن المؤكد أنه سيحتاجه إذا شاء أن تتدخل الدول المعنية في الموضوع، وكذلك لتحديد مكانهم إذا حدث لهم مكروه … وقضى الشَّياطين ساعات طويلة في كتابة تقرير إلى رقم «صفر» شرحوا فيه كل ما حدث.
وفي الصَّباح الباكر دفعوا حسابات الفندق واستقلُّوا السَّيارة إلى المطار، وقد وصلوا في الوقت المناسب؛ فقد أشار «عثمان» إلى طائرة زرقاء صغيرة تدور لتقف على أرض المطار … كانت من طراز «دوجلاس».
نزل ثلاثة طيارين شبَّان، وقدَّموا الأوراق اللازمة إلى هيئة المطار، فتقدَّم الشَّياطين الخمسة وقدَّموا أنفسهم للطيارين الثَّلاثة، فأعطوهم الأوراق اللازمة بملكية الطائرة والسَّماح لها بالطيران فوق مختلف البلاد … وأعطاهم «أحمد» التقرير الذي أعدُّوه، والفيلم، ثم تبادلوا التحيات، وقفز الخمسة إلى الطائرة التي كانت تتزود بالوقود، وقام «أحمد» بالكشف على أجهزتها المختلفة، واطمأن على خزانات الوقود الإضافية، بينما قامت «إلهام» و«هدى» بالتأكد من كميات الطعام وأجهزة النزول على الجليد والزحافات وغيرها …
كان رقم «صفر» قد أعدَّ كل شيء ببراعة حقًّا، وفي سرعة مذهلة، ووجد الشَّياطين أكثر من عشرين صنفًا من الأدوات والمهمات لم يفكروا فيها … أجهزة تدفئة تعمل في الجو المثلج … ملابس مكيَّفة … نظارات ملونة حتى لا يُصابوا بعمى الجليد … أنواع من الأطعمة الدسمة تساعد على احتمال البرد!
ونزل الشَّياطين وذهبوا إلى «البوفيه»، وقضوا هناك ساعتين حتى تهدأ ماكينات الطائرة وتبرد … وحددوا ثلاثة مطارات يهبطون فيها ويتزودون بالوقود قبل القفزة الأخيرة إلى القطب.
في تمام السَّاعة العاشرة، كان «أحمد»، و«عثمان» يبدآن في إدارة المحركات النفاثة الأربعة في الطائرة الدوجلاس … كانت طائرة صغيرة، تتسع بالإضافة إلى طاقم الطائرة لتسعة أشخاص، وقد تم تركيب أجهزة انزلاق على الجليد بجوار العجلات تنزل أوتوماتيكيًّا عند الحاجة إلى استعمالها …
وبعد نحو عشرين دقيقة أخذت الطائرة الصَّغيرة القوية تجري فوق ممر المطار، وأخذ «أحمد» يتلقَّى التعليمات من البرج، وسرعان ما ارتفعت الطائرة في الجو، وأخذ «أحمد» اتجاهًا جنوبيًّا شرقيًّا … وأخذت الطائرة تصعد وتصعد، حتى وصلت إلى ارتفاع ١٨ ألف قدم، ثم مضت قُدمًا، وأدار «عثمان» جهاز الراديو فانطلقت موسيقى مرحة في قلب الطائرة!
مضت ساعة هادئة، قبل أن يعلن «أحمد» للركاب الثَّلاثة «قيس» و«إلهام» و«هدى» قرب نزولهم في أول مطار، بعد عشر دقائق. وفي الموعد بالضبط كانت الطائرة تدرج هابطة، وأمضوا ساعة في المطار تزودوا فيها بالوقود … ثم عادت الطائرة إلى الجو، وبعد ساعة أخرى نزلت. وتكرر ذلك للمرة الثَّالثة … ثم جاءت اللحظات التي تنتهي فيها علاقتهم بالأرض التي يعرفونها … فقد آن الأوان للقفزة الأخيرة إلى القطب … وقام الخمسة بمراقبة كل شيء قبل أن تجري الطائرة لآخر مرة على أسفلت المطار الأسود، ثم تمضي مسرعة إلى الفضاء.
وحدد «أحمد» الرحلة قائلًا: أمامنا نحو ثلاثة آلاف كيلومتر، ستقطعها الطائرة في نحو ساعتين، وسننزل في مطار أعدته بعثة أمريكية بقيادة «ماكمورو ساوند» عام ١٩٥٦، وأرجو أن تكون أرض المطار ما زالت صالحة للهبوط …
قالت «إلهام» معلقة: ما دام هو المطار الوحيد في القطب الجنوبي، فمن المؤكد أنه صالح للاستخدام؛ فإن جماعة «مارتينز» لا بد وأنها تعتمد عليه!
أحمد: ما لم يكونوا قد أعدوا مطارًا خاصًّا بهم!
وساد الصَّمت، ومضت الطائرة محلقةً فوق جنوب المحيط الأطلسي، وأخذ كل شيء يفقد لونه، ويزحف اللون الأبيض … ومضت الطائرة دون عوائق تقطع المسافة الهائلة بين الأرض المعمورة والصَّحراء الثَّلجية في القطب الجنوبي.
بعد نحو ساعة ونصف من الطيران الهادئ، بدأت الطائرة تفقد اتزانها؛ فقد دخلت في «مطب» هوائي، وأخذت تتأرجح يمينًا ويسارًا، وإلى فوق وتحت. و«أحمد» و«عثمان» يحاولان الخروج من المطب بسرعة، ونزلا بالطائرة إلى ارتفاع ١٠ آلاف قدم، وتخلصا من المطب، ومضت الطائرة، وسرعان ما أصبحوا فوق دائرة القطب تمامًا …
كانت السَّماء ملبدة بالغيوم البيضاء، وتحتهم الأرض الثَّلجية، وبدا كل شيء مغلفًا بالبياض، وقالت «إلهام»: هذه هي ظاهرة البياض الطامس. فكل شيء مغلف بغلاف سميك في قوام اللبن ومجرد من الملامح!
ردَّ «قيس»: سيكون من الصَّعب على «أحمد» الهبوط بالطائرة، فالرؤية متعذرة، ولن يجد إشارة واحدة تدله على مكان الهبوط …
وفعلًا كان «أحمد» في هذه اللحظات يحاول جاهدًا رؤية أي شيء يحدد مكان مطار «ماكمورو» لينزل فيه … وكان في إمكانه بالطبع أن يشغِّل جهاز النزول الأوتوماتيكي؛ ليهبط بالطائرة في أمان على الثَّلج، ولكن المشكلة كانت في احتمال نزولهم على منطقة هشَّة، فتتعثر الطائرة وتهبط داخل الفجوات الثَّلجية، فلا يمكن إخراجها … وكانت المشكلة الثَّانية أنه لن يستطيع أن يحلِّق طويلًا، فالوقود هو أثمن ما يملكون والكمية الباقية تكفي بالكاد للعودة … ولهذا فقد أمسك بالميكروفون، وتحدث إلى الشَّياطين الثَّلاثة: سأضطر للنزول الآن، رغم أنني لم أحدد مكان المطار … إن كمية الوقود كما توضح العدادات، تكفي بالكاد للعودة، وأي إضاعة لقطرة من الوقود تعني هلاكنا …
أنزل «أحمد» زحافات النزول الموجودة بجوار عجلات الطائرة، ثم أخذ يهبط تدريجيًّا، وسرعان ما كانت الطائرة تنزل على الجليد الناعم وتجري، وقطعت نحو ألف متر قبل أن يحسوا بصدمة قوية، ودارت الطائرة حول نفسها، وكادت تنقلب، ولكن «أحمد» و«عثمان» تمكنا من السَّيطرة عليها، ووقفت مكانها، ولكنها كانت مائلة … ومن المؤكد أن إحدى الزحافات قد وقعت في منطقة هشة من الجليد.
توقفت محركات الطائرة بعد لحظات، وأخذ الجميع يرتدون الثياب الجلدية الثَّقيلة المبطَّنة بالفرو، ثم فتحوا الباب … كان الجو ساكنًا تكسوه غلالة بيضاء. كانت أنفاسهم ثقيلة … وأنزلوا السُّلم وأخذوا ينزلون واحدًا وراء الآخر.
كان الجو ساكنًا، والصَّمت يلف المكان، والجليد هو الشَّيء الوحيد السَّائد إلى حيث يمتد البصر، وتحدث «أحمد» لأول مرة بعد أن وطئوا أرض القطب، وكانت أنفاسه تخرج في شكل شريط أبيض، ويمر الهواء المتجمد حول أذنيه، فيسمع صوته وقد تحول إلى عشرات من الأجراس تدق باستمرار … قال لهم: إننا نواجه ظروفًا لم نقابلها من قبل … يجب أن نكون قريبين أحدنا من الآخر، طول الوقت … إن اختفاء أو غياب أي واحد منا يعني هلاكنا …
سألت «هدى»: كيف نبدأ؟
أحمد: سننام في الطائرة ولكن قبل كل شيء، يجب أن نخرج الزحافة التي غاصت في الجليد؛ حتى لا تغوص أكثر مما غاصت.
واتجهوا جميعًا إلى حيث غاصت الزحافة في فتحة من الجليد، وأخذ «أحمد» يجس الجليد حولها حتى عرف أن أقوى منطقة فيه خلف الزحافات مباشرةً، وكان عليهم أن يدفعوا الطائرة إلى الخلف!
وأشار لهم بما استقرَّ رأيه عليه، فأخذوا يسيرون حتى مقدمة الطائرة … وأشار «عثمان» لهم أن ينقسموا قسمين، ثم أمسكوا جميعًا بالقضبين الحديدين اللذين يحملان الزحافتين، واستجمعوا قوتهم، ثم دفعوا الطائرة إلى الخلف مع رفعها قليلًا إلى فوق. ولحسن الحظ انزلقت الطائرة عائدة إلى الخلف، واستقرت الزحافة على الجليد الصُّلب.
قال «أحمد»: لقد وُفِّقنا في أول مهمة لنا في هذا المكان … والآن سننظر في الخرائط، التي نقلناها من الفيلم.
ابتسم «قيس»، وهو يقول: إن الخرائط تقوم على إشارات موجودة، فأين هذه الإشارات التي سنهتدي بها على الأرض؟! إننا مثل مجموعة من النمل سقطت في طبق من اللبن!
ردَّ «أحمد»: معك حق … ولكن بما أن البوصلة توضح أننا عند دائرة القطب، فإننا نستطيع تحديد مكان المركز الذري في دائرة قطرها ٥٠ كيلومترًا …
عثمان: إن خمسين كيلومترًا في هذا الجو مسافة كبيرة …
أحمد: رقم «صفر» لم ينسَ هذه الحقيقة … فمعنا زحافات سريعة، وسوف نستخدمها فورًا، فإن المؤنة التي معنا لا تكفي لأكثر من سبعة أيام.
ابتسمت «إلهام» قائلة: وهل سنبقى هنا سبعة أيام؟
قال «أحمد»: من يدري؟!
وفردوا الخرائط أمامهم، ومضوا يفحصونها بدقة، كانت هناك عشرات التفاصيل التي يجب أن يهتموا بها.
فقد أوضحت الخرائط بعض البحيرات الصَّغيرة التي تتجمد مياهها في أكثر شهور العام، بحيث تصبح فخًّا لمَن يمشي عليها، وقال «أحمد»: من حُسن الحظ أننا لم ننزل بالطائرة على إحدى هذه البحيرات، وإلا لغرقنا في لحظة!
لم يكد «أحمد» ينتهي من كلامه حتى حدث شيء خطير … فقد دوَّت فرقعة ضخمة هزَّت سكون القطب … والتفت الشَّياطين جميعًا في اتجاه الفرقعة … كانت هناك على مدى الأفق كرة برتقالية اللون من اللهب ترتفع تدريجيًّا إلى فوق حتى تجاوزت حد السَّحاب … ثم أخذت تتلاشى ببطء.
وقالت «إلهام»: انفجار ذري!
أحمد: انفجار ذري نظيف، فلم تنتشر السُّحب المدمرة منه كما هي العادة، وإلا لعصفت بنا!
قال «عثمان»: لقد حددوا مكانهم بأسرع مما توقعنا!
قيس: هل سنتجه إليهم الآن؟
أحمد: لا، بل عندما يهبط الليل … فنحن لا ندري نوع الحراسة التي هناك!