دكتور «جمال زهران»
عندما هبط المساء على الأصقاع المتجمدة، بدأت خمس زحافات تتجه إلى المكان الذي وقع فيه الانفجار في الصَّباح … كان «أحمد» يعتقد أن المركز الذري لا بد وأن يكون بعيدًا عن مكان الانفجار بمسافة كافية. ليست بعيدة جدًّا بالطبع؛ لأن الانفجار كان نظيفًا، وفي نفس الوقت يجب مراقبته ورصده، ولولا أنهم في مهمة من أخطر المهام التي قاموا بها في حياتهم؛ لأحسوا جميعًا بالسَّعادة في هذه اللحظات. والزحافات تنزلق في يسر وسهولة على البساط الأبيض الثَّلجي …
ومضت القافلة الصَّغيرة، وكان «عثمان» يجر خلف زحافته زحافة أصغر، وضعوا عليها ما قد يحتاجونه من أسلحة ومتفجرات وغيرها من الأدوات … ومضت نصف ساعة قبل أن يظهر في الأفق خط أحمر، بدا واضحًا وسط البياض الهائل الذي يحيط به … وعرفوا أنه لا بد وأن يكون خط مباني المركز الذري، فليس في المنطقة كلها مبانٍ أخرى، وأشار لهم «أحمد» فانتشروا مبتعدين أحدهم عن الآخر، حتى لا يكونوا هدفًا سهلًا إذا كانت هناك حراسة يقظة، وإن كان «أحمد» قد تصور أنهم لا يمكن أن يتوقعوا هجومًا في هذا الفراغ الهائل.
اقتربوا أكثر فأكثر في شكل قوس كبير، وأخذت تفاصيل المباني تظهر. كانت مجموعة المباني المستطيلة تشبه المعسكر وتحيط بمبنى كبير يشبه القلعة، كان هو بلا شك مركز الأبحاث الذري … وأحسَّ «أحمد» بضخامة المهمة، فكيف يمكنهم اقتحام هذا المكان بكل ما فيه من رجال وعلماء وأسلحة!
فأشار بيده عدة إشارات، وسرعان ما كان الجميع يجتمعون، وكان الظلام قد هبط فوق الأصقاع الواسعة وبدأت أنوار دقيقة كحبات اللؤلؤ تلمع على أسوار المكان … واجتمع الخمسة، وقال «أحمد»: إن مهمتنا الأساسية الآن هي الإفراج عن العلماء المخطوفين، خاصةً العالم المصري الدكتور «جمال زهران». وفي إمكاننا إذا نجحت المهمة الأولى أن ننسف المركز، ولكن النتائج التي ستترتب على هذا النسف لا يمكن حسابها؛ لهذا فإنني أرى الإبقاء على المركز كما هو … على أننا سوف نبلغ رقم «صفر» بكل شيء، وسنترك له حرية التصرف …
والآن سننقسم إلى ثلاث مجموعات: «عثمان» مع «هدى»، و«إلهام» مع «قيس»، وسأكون وحدي … وسندور حول المركز للبحث عن أماكن نوم العلماء، ومحاولة الاتصال بهم، وسنجتمع بعد ساعة عند البوابة الرئيسية وهي واضحة من نوع الأنوار التي عليها.
وسكت «أحمد» لحظات، ثم قال: هذه أول مهمة من نوعها في تاريخ الشَّياطين اﻟ ١٣. ويجب ملاحظة أن درجة الحرارة ستهبط باستمرار في الليل، ومن الضروري ألا نبقى طويلًا في الخارج … إننا يمكن أن نتجمد!
وسكت لحظات ثم أشار بيده، فانطلق الجميع في شكل ثلاثة أضلاع مثلث … اقترب «أحمد» من سور المركز وأخذ يدور حوله في هدوء. لم يكن هناك أي نوع من الحراسة، وبالطبع لم يكن أحد من سكان هذا المكان النائي يتوقع أن يأتي إنسان إلى هذه الأصقاع المتجمدة.
ووصل «أحمد» إلى سور منخفض حوله بضعة مخازن ودار حوله، ووجد نفسه مباشرةً أمام أحد الأبواب، وبسرعة أخرج بعض أدواته الدقيقة، وعلى ضوء البطارية المثبتة في حزامه، استطاع أن يفتح الباب بسرعة … ولم يكد يخطو خطوة إلى الداخل حتى فوجئ برجل يقف أمامه … وبالتأكيد لم يكن الرجل يتوقع مطلقًا أن يرى أي شخص يدخل من الباب، لهذا فقد وقف في مكانه مذهولًا وقد اتسعت عيناه … وكانت فرصة مواتية؛ فقد رفع «أحمد» يده وصوب له ضربة ساحقة، سقط على أثرها … ولكن «أحمد» لم يدعه يقع حتى لا يحدث صوتًا، فقد مدَّ ذراعيه وأخذه بين يديه، ووجد باب غرفة مفتوحًا فجرَّه إلى الداخل، وأغلق خلفه الباب.
وقف «أحمد» يلتقط أنفاسه ورأى ما حوله … كانت غرفة صغيرة للنوم عُلقت على جدرانها بعض أنواع الأسلحة والمهمات، وعرف على الفور أنها غرفة أحد الحراس، وليس من المستبعد أن تكون غرفة هذا الحارس نفسه.
جلس «أحمد» لحظات يتأمل تجهيزات الغرفة ويحدد مكانها من المبنى، ثم فتح بابًا ونظر إلى الدهليز. كان هادئًا، والإضاءة خافتة والجو دافئ، وسار «أحمد» على أطراف أصابعه … كانت الغرف على الجانبين مغلقة الأبواب، ووصل إلى قاعة كبيرة في نهاية الدهليز وسمع أصوات أحاديث … وانحرف جانبًا ووقف ينظر من خلال نصف الباب الزجاجي، ووجد مجموعة من الرجال يجلسون في منتصف الغرفة حول مائدة كبيرة مستديرة يتحدثون ويتناقشون، وقد وضعوا أمامهم عشرات من الخرائط والأجهزة … وأدرك أنهم العلماء الذين يعملون في المركز الذري، ولاحظ على الفور وجهًا أسمر بين المجموعة … ومن الصُّورة التي رآها في المقر السِّري للشياطين اﻟ ١٣، عرف أنه الدكتور «جمال زهران»، كان يجلس هادئًا، وقد وضع يده على جهاز صغير وأخذ يحركه …
ولاحظ «أحمد» أن هناك رسمًا بيانيًّا ضخمًا معلقًا على الحائط، تبدو عليه عشرات من الرسومات الصَّغيرة والبيانات، وواضح أنه رسمٌ إحصائي لسلسلة التجارب التي أجراها هؤلاء العلماء، كما لاحظ عدم وجود أية حراسة من أي نوع في داخل القاعة، ومن المؤكد أن «مارتينز» لم يكن في حاجة إلى وضع حراس، فلن يفكر أحد هؤلاء العلماء في الهرب، فإلى أي مكان سيذهب؟ إنه سيموت بردًا في خلال ساعات قلائل … وأراحته هذه الفكرة، فلا بد أن عدد الحراس في المبنى قليل جدًّا.
وقبل أن يسترسل «أحمد» في أفكاره، قام الدكتور «جمال زهران» من مكانه متجهًا إلى الباب الذي كان «أحمد» يقف خلفه … ونظر «أحمد» حوله يبحث عن مكان قريب يختفي فيه، ولكن فكرة أخرى طرأت على ذهنه. جعلته يقف مكانه، وانفتح الباب، وخرج الدكتور المصري، وأسرع «أحمد» يضع يده على فم الدكتور «زهران» … وهو يقول له بصوت خفيض وبسرعة: دكتور «زهران» … إنني صديق.
أدار الدكتور وجهه إلى «أحمد»، وقد اكتست ملامحه بالدهشة … وعاد «أحمد» يقول: إننا مجموعة من الزملاء نقوم بمهمة إنقاذك، ومن يشاء من زملائك العلماء.
ورفع «أحمد» يده ليترك للدكتور فرصة الرد … ومضت لحظات خفق لها قلب «أحمد» ولكن جاء الرد: وأين بقية زملائك؟
أحمد: إنهم في مكان ما من هذا المبنى … فقد توزعنا حتى تُتاح لنا فرصة أكبر.
أشار الدكتور بيده قائلًا: تعالَ معي …
وسارا معًا عبر دهليز جانبي، ثم دفع الدكتور أحد الأبواب، ودخل ومعه «أحمد»، وقال الدكتور: هذه غرفتي.
أحمد: وكم يلزمك من الوقت لتستعد للقدوم معي؟
الدكتور: فورًا …
ونظر «أحمد» حوله في الغرفة، بينما كان الدكتور يقوم بتغيير ثيابه … كانت غرفة صغيرة، ولكن مفروشة بعناية … وقال «أحمد»: هل تعتقد أن بين زملائك من يحب القدوم معنا؟
الدكتور: ثلاثة من هؤلاء العلماء مخطوفون مثلي … والباقي يعملون مع المنظمة الإجرامية بالأجر، وهؤلاء لا قيمة لهم علميًّا!
أحمد: هل تستطيع الاتصال بالعلماء الثَّلاثة وإقناعهم بالحضور معك؟
الدكتور: أعتقد أن الخروج من المبنى في هذه السَّاعات صعب … فهناك حراسة!
أحمد: الباب الذي دخلت منه ليس عليه الآن حرَّاس … فالحارس الذي كان يقوم عليه يغطُّ في نوم عميق …
الدكتور: وكيف سنهرب؟
أحمد: هناك طائرة على بعد بضعة كيلومترات …
الدكتور: وأين الباب الذي دخلت منه؟!
أحمد: إنه في نهاية الدهليز الذي يؤدي إلى غرفة الاجتماعات!
الدكتور: إذن انتظرني هناك …
وأسرع «أحمد» إلى باب الغرفة ليخرج، وهو لا يصدق أن مهمتهم ستنتهي بهذه السُّهولة … ولكنه لم يكد يفتح الباب، حتى فوجئ برجلين يقفان أمامه … وأدرك على الفور أن هناك أجهزة تنصت في الغرفة لم يتبينها الدكتور «زهران»، ولم يكن في إمكان «أحمد» أن يفعل شيئًا؛ فقد كان هناك مسدسان ضخمان موجهان إلى صدره … ولو حاول أن يتحرك حركة واحدة لانطلق بضع رصاصات إلى صدره في ثانية واحدة!
وفتح أحد الرجلين الباب وقال للدكتور: تعالَ معنا.
وخرج الدكتور وقد بدت عليه علامات الضيق، ولكنه لم ينطق بكلمة واحدة … وسار الأربعة في الدهليز الضيق، حتى وصلوا إلى نهايته، ثم انحرفوا يمينًا ووجد «أحمد» أنهم أمام سلَّم تنزل درجاته إلى أسفل فيما يشبه النفق، ونزلوا جميعًا حتى وصلوا إلى دهليز تحت الأرض … ودهش «أحمد» لضخامة الاستعدادات التي أقامها «مارتينز» في هذا العالم النائي …
ووصلوا إلى باب غرفة من الحديد، وضغط أحد الرجلين على زرٍّ على الباب، وبعد لحظات انفتح، ودخلوا. كانت ثمة قاعة مضاءة قد فُرشت كمكتب وقاعة اجتماعات، وقد عُلقت على جدرانها العشرات من الرسوم البيانية والتصميمات مثل التي شاهدها «أحمد» في غرفة العلماء.
كان رجلًا ضئيل الحجم يجلس إلى مكتب ضخم، وأمامه رجل آخر ضئيل خُيل ﻟ «أحمد» أنه رآه من قبل. وأشار الرجل الضئيل لهما بالجلوس، وانصرف الحارسان … وتحدث الرجل بلغة إنجليزية سليمة: لقد استمعنا إلى المحادثة التي دارت بينكما، وقد أرسلنا بعض الرجال للاستيلاء على الطائرة ونسفها.
وسقط قلب «أحمد» في قدميه … فقد وقعوا في مصيدة لا مثيل لها، وقُدِّر لهم أن ينتهوا إلى الأبد … فلن يستطيعوا مغادرة هذا العالم الثَّلجي دون طائرة …
وسوف يصل «مارتينز» سريعًا، ولن تكون هناك أية رحمة في معاملتهم!
ومضى الرجل يقول: إن الطائرة التي تُحضر المؤن ستصل في الصَّباح … وفي الأغلب سيكون عليها بعض زعماء المنظمة، وسوف يتصرفون معكم!
فكَّر «أحمد» في الشَّياطين الأربعة … وكان يتمنى أن يسأل أين هم؟ هل قُبض عليهم، أم ما زالوا أحرارًا؟ وكأنما استجاب الرجل الضئيل لهذا السُّؤال الذي لم ينطق به «أحمد» فقد قال: ونحن الآن نبحث عن بقية هؤلاء الأولاد، وسوف نقبض عليهم خلال دقائق قليلة …
وأشار الرجل الضئيل إلى الرجل الجالس أمامه، فأشار الرجل إلى «أحمد» بالوقوف، فوقف، وسار أمام الرجل الذي أخرج مسدسًا أوتوماتيكيًّا، ووضعه في ظهر «أحمد» منذرًا له بألا يحاول خداعه.