الزفاف
دخل حمام الأنفوشي، للمرة الأولى منذ زواجه. توقع الإيماءات والمعايرة. حشد نفسه، وقرر الإجابة بما يؤذي. فاجأه ترحيب الجميع وكلماتهم المعجبة. لم يتحدثوا عنها باسمها. هي الست والبيت الجماعة. حتى محمود الخوالقة، لم يحاول فضح سيرتها، ولا مجرد ذكر. الباب المفتوح أغلقه زواجها من سيد. لم يسألها عن أهلها، ولا حاول أن يتعرف إلى ماضيها. هي التي روت له عن أمها وأبيها وإخوتها وقرية سحالي القريبة من دمنهور. أهداهما صابر الشبلنجي هدية أرسلتها له أمه من رشيد. فسيخ وسردين وليمون وبلح زغلول. ضوع عم. ب داخل الحمام — للتبرك — بخور المستكة، ورفض تقاضي المقابل صابونة لم يسبق استعمالها. وحلق سيد شعر رأسه، وإن ظلت الخصلة على تهدلها، وقلَّم أظافره، ونتف تحت الإبطين، وأزال العانة.
هتف فؤاد أبو شنب للنبأ: هل خلت الدنيا من النساء؟!
قال سيد في هدوء: أنسية لا يعيبها شيء.
تحسس أبو شنب طرف شاربه، وغمز بعينه: لكنها مومس!
داخل صوته تهدج: لا داعي للغلط يا ريس … البنت ستصبح زوجتي.
أطلق ضحكة من أنفه: بنت؟!
وعلا صوته: ماذا تقول يا مغفل؟! … إنها عشيقة كل رجال بحري!
قذفه سيد بمقص، وتهيا للعراك.
قال له قاسم الغرياني: كان اسمك سيد الفران … فماذا أسميك الآن؟
قال سيد: قل لي يا سيد كما كنت تدعوني.
قال حمودة هلول: فلنسمه سيد الكشك. هذه هي التسمية الأنسب!
قال خميس شعبان: هو سيد الفران … الخبازون أصل الإسكندرية!
فاجأه حمادة بك بحضور عقد القران. تبعه فؤاد أبو شنب. هنأه حمادة بك، وأعطاه نقودًا، ووقع شاهدًا على العقد. وقع أبو شنب — بالحرج — شاهدًا ثانيًا.
لما مد سيدي ياقوت العرش يده من داخل المقام، وأخذ العهد عليها، ونصحها بالذهاب إلى كمال مصباح تاجر المنيفاتورة بشارع الميدان، همست بالقول: حمادة بك أهمل طلب سيدي السلطان … لماذا لم يعاقبه؟
قال سيد: ألم يتركك الرجل في البيت المهجور … فهل يطالبه السلطان ببيت جديد تتزوجين فيه؟!
ثم وهو يغتصب ابتسامة: فلنكفِ على كل ما مضى ماجورًا، وننساه.
حين أعد نفسه لترك قهوة كشك إلى بيت البلقطرية، أشفق رواد ليل القهوة من أن تتم الدخلة بلا فرح. أذن المعلم كشك، فسهروا، ورقصوا، وغنوا. بيومي جلال يقذف بالطبلة إلى أعلى، ويتلقفها. صابر الشبلنجي يساعد بالنقر على الطاولة. مصطفى حجازي يغني، وهم يرددون:
شارك المعلم كشك بدعابات، وأوصى سيد بأنسية، فأظهرت تأثرها وامتنانها. وفاجأ هشام كشك الجميع بحضوره. في يده هدية مغلفة للعروسين. زجر صابر الشبلنجي لما حاول فتحها. قال: كنت أسبق الكل إلى معرفة زواج سيد وأنسية.
أضاف لنظرات الدهشة المتسائلة: رأيتهما يتنزهان على الكورنيش.
دارت أنسية وجهها براحتها.
تعدد سيرهما على الكورنيش، وفي حدائق الشلالات. ألفت الأشجار والنخيل وسحن دائمي التردد وهدير الأمواج المترامي من ناحية البحر وانحدار المياه من مرتفع عالٍ إلى مجرى منخفض. وألفت وابور المياه ومدرسة محمد علي الصناعية والمستشفى الأميري والاستاد والنادي الأولمبي.
رفت ابتسامة على شفتي هشام: عرفت يومها أن سيد أفلح في الصيد.
فاجأ حمادة بك «هشام» بالسؤال: هل أنت مقيد في جداول الانتخاب؟
ارتعشت رموش هشام بالارتباك: لا أعرف!
قال حمادة بك: كيف؟ … ألم تقيد اسمك؟
قال المعلم كشك: هشام لم يبلغ العشرين.
قال حمادة بك: من حقه القيد في جداول الانتخاب.
أردف بلهجة آمرة: يهمني هشام والشبان من أصدقائه وزملائه.
تظاهر سيد بالإنصات لنصائح قاسم الغرياني، وكتم السؤال: هل غابت عنه علاقته القديمة بأنسية؟
فاجأ نفسه حين فاجأها بالسؤال: هل أحببت أحدًا من قبل؟ …
إذا كان ما تشعر به نحو سيد هو الحب، فإنها أحبت سيد. كان يشغل بالها، وصورته دائمًا أمام عينيها. يضايقها غيابه، وتفرح لقدومه. تشفق للخجل الذي يتملكه وهو يحني رأسه إلى أسفل، وهو يزيح خصلة الشعر من جبهته، وهو يضغط على شفته السفلى بسنتيه الأماميتين. تسترجع — في جلوسها مع نفسها — تصرفاته، وقفاته وسكناته وكلماته. حتى الملاحظات التي يؤكد بها فحولته، لم تعد تضايقها.
وهي تخفض رأسها: أنا أحبك.
– قبلي … وغير …
لجأ إلى يديه، يحاول التوضيح. ثم سكت.
احمرت أذناها: أنا لم أعرف هذا الأمر.
ودع أصدقاءه قرب الفجر إلى حانطور، قاده صابر الشبلنجي إلى البلقطرية بيت سيدي داود.
كانت أنسية تنتظر.
صعدت وراء الكبود. وانتقل سيد جوارها، ومضى الحانطور إلى البلقطرية.
قال صابر: لو أن الظروف ساعدتني … كنت زينت الحانطور بالشيلان الكشميري والورود.
سارت وراء جهازها من العطارين إلى البلقطرية.
نقل صابر الجهاز على عربة كارو من الإسطبل. سرير وبوريه وصندوق وترابيزة وستة كراسي ومرتبة ولحاف ومخدتان ومرأة في إطار ووابور بريموس ومطبقية وأربع حلل وإبريق وطشت وستة أطباق وطبلية وستة أكواب للشاي. لم تهمل حتى كرسي الحمام وصفيحة الماء والكوز والقبقاب. وأهداها التاجر كمال مصباح ثلاث فوط.
حلمت بحفل كالذي أقامه الحاج قنديل لابنته، أو الذي أقامه المعلم عباس الخوالقة لمهجة؛ ليلة الحنة وثوب الزفاف والصهبة والزغاريد وبدرة الملح والعوالم والنقوط والأعمدة الخشبية والرايات الحمراء ذات الهلال واللمبات الكهربائية الملونة.
البيت من ثلاثة طوابق. أسقفه خشبية، وجدرانه متآكلة، وإن بدا سكانه في حالهم، فلا زعيق ولا نداءات، والنوافذ مواربة، أو مغلقة. الشقة في الطابق الأرضي، إلى يسار السلم، تطل على الشارع من نافذة عالية، ذات ضلفتين.
أصر أن يحملها بين ذراعيه، ويتخطى بها عتبة الشقة.
– ماذا يقول صاحبك … والجيران؟
اهتز جسمه بالانفعال: طظ في الكل! … أنت الآن زوجتي بالورقة والقلم!
لم تطل تأمل معنى العبارة. قالت: هذا تصرف العرسان للتغلب على سحر يوضع في عتبة الباب.
وتنهدت: من يفكر في السحر لنا؟!
احتواها بعينيه: أنت سحرتني … وسأحملك لأقضي على سحرك!
شغله السؤال، وإن كتمه، حتى طردت أنسية القلق من نفسه: أصحابك طيبون.
ثم وهي تضغط على الكلمات: هذه أول مرة أراهم.
قال في صوته المتهلل: إنهم زملاء القهوة.
استطرد متذكرًا: صابر الشبلنجي وحده يعمل في إسطبل السيالة.
قالت: لم آخذ بالي منه.
وهزت رأسها: أرى أنهم جميعًا طيبون.