النوة
سحب الجد السخاوي كرسيًّا، وجلس في مواجهة الشمس. كان يتحرك بكرسيه مع أشعة الشمس، لا يتركه إلا بعد أن تمتد الظلال.
أخرج من جيب الصديري علبة سجاير. سحب منها سيجارتين، قدم واحدة إلى شحاتة سليط، ووضع الأخرى بين شفتيه. حك عود الكبريت في القداحة، ودارى عليه حتى أشعل سيجارة شحاتة سليط، ثم أشعل سيجارته، ونفض المتبقي من عود الكبريت حتى انطفأ، ثم طوح به.
قال محيي قبطان: الشمس حامية.
قال في تهوين وثقة: إنها تنشط الدورة الدموية، وتغذي الأعصاب، وتحيي الأنسجة.
استطرد وهو يهز أصبعه: شريطة أن تتجنب حرارتها الزائدة.
ثم وهو يعتدل في مواجهة محيي قبطان: الشمس تفيد في أمراض الكبد والضغط المرتفع والقلب وتصلب الشرايين … والمشي حافيًا على الرمال الساخنة، علاج للأعصاب والصداع.
شكا شحاتة سليط إلى الجد السخاوي من آلام في الرأس، بعد أن غاص إلى عمق أربعة أمتار.
قال الجد السخاوي: أنت تعاني نزلة برد … أو أن أسنانك تتطلب حشوًا.
قال شحاتة سليط: اللؤلؤة التي أثنيت عليها … ذهب لمعانها.
صرخ الجد السخاوي: غبي! … دائما توقد نارك في الناحية البحرية.
ثم وهو يعيد إليه اللؤلؤة: اللؤلؤ يغسل بالماء فقط، ثم يلمع بقطعة جلد ناعمة.
بحلقت عيناه: تقصد أني أتلفت اللؤلؤة.
– طبعًا.
قال شحاتة سليط: وهذه؟
وأخرج من جيب السيالة لؤلؤة في حجم البيضة الصغيرة.
قربها الجد السخاوي من عينيه: ينقصها الاستدارة، ومليئة بالبقع اللونية والحفر.
– لكنها عالية الشفافية.
أعادها الجد السخاوي إلى الطاولة: اللؤلؤة الجيدة شفافيتها قليلة.
قال شحاتة سليط في أسف: هل أعيدها إلى البحر؟
قال الجد السخاوي: بل اطلب فيها سعرًا مناسبًا.
ارتفع حاجبا عم محجوب بالدهشة: تطلب سلفة في عز الصيف؟!
قال محيي قبطان: أصر الخوالقة وقنديل وكل المعلمين على أن ندفع ما اقترضناه في الشتاء.
هز عم محجوب رأسه: هذا حقهم … ادفعوا مبلغًا من السلفة في كل طلعة.
قال محيي قبطان: إنهم يأخذون الإيراد بعد كل رحلة … يريدون الكراسة بيضاء، دون أن يشغلهم تأثير ذلك على بيوتنا.
اتجه الجد السخاوي إلى خميس شعبان بنظرة مشفقة: لا تحزن يا خميس … فلو أنك فتشت وراء هؤلاء الغجر، فستجد في بيت كل منهم فضيحة!
روى ما حدث لقاسم الغرياني، وطالبه بألا يفشيه … لكن الغرياني فاجأه — وفاجأ الجالسين — بإعادة الحكي. أضاف ألوانًا وظلالًا وتفصيلات. اشتكى للحاج محمد صبرة من سرعة القذف. هل هي الشيخوخة؟ … طمأنه الحاج محمد. أعد له دهانًا يستعمله قبل النوم. تثاءبت المرأة، فأسرع إلى الحمام. طال قعود المرأة. دعاها إلى النوم. اعتذرت بانشغالها في رفو ملابس الأولاد. لزم مكانه، يعاني فلا يستطيع التكتم. يتكلم، ويتقلقل، ويحاول المداراة. طلب من المرأة شايًا. دخلت المطبخ، فارتفع صوته، يطلب الشاي في حجرة النوم.
قال حمودة هلول: ما أبدع العادة السرية لشيخ في الستين!
قال محيي قبطان: هل أفادك علاج الحاج محمد؟
قال خميس شعبان: لست مريضًا لأعالج.
قال محيي قبطان: لماذا الدهان إذن؟
قال الغرياني: هددته المرأة، فخشي الفضيحة!
وشي صوت إسماعيل سعفان بالضيق: وطوا أصواتكم!
تغيرت طباعه منذ موت وحيده البهاء. دخل الغميق في الأنفوشي فغرق، اجتذبته الأمواج. غيبت جسمه وصرخاته. ظهرت الجثة تحت قلعة قايتباي. دفعتها الأمواج أسفل الكتلة الخرسانية، منتفخة، مشوهة، نهش فيها السمك. يعاني — من يومها — مطاردة الضوضاء. ضوضاء هائلة، عنيفة. زعيق وصراخ وشتائم. أسوأها الميكروفونات التي لا يدري مصدرها. تحاصره في كل مكان: في الطريق، في بئر السلم، في حجرة النوم، في دورة المياه. ينتفض لها، يتألم، يتكور على نفسه. يصر على أسنانه، فلا يتعالى الأنين.
هؤلاء الذين لا يعرفهم، يتآمرون عليه، يحاصرونه، يخنقونه بصراخهم وزعيقهم وصخبهم الذي لا ينتهي.
نذر للمرسي أبو العباس إن رُزق بولد، بعد عقم خمسة عشر عامًا. ألف التردد على مقام السلطان بعد أن حقق له المدد. يقرأ الفاتحة، ويوزع الفول النابت، وشطائر اللحم.
لما ابتلع الهدم زوجته بسقوط البيت، ترك الفدادين الستة في عهدة شقيقه الأصغر. وسافر إلى الإسكندرية، ليحيا بالقرب من أولياء الله.
اختطف البحر وحيده البهاء، فعزاه الناس بمصاب المؤمن.
أكد محمد علي الراكشي أنه رأى عروس البحر تختطف الصغير لتجعله ابنًا لها في مدائن الأعماق. كان محمد يسبح بالقرب منه. وكانا يعبثان، ويضحكان، ويصرخان في نشوة، عندما أتت الموجة، فأبعدت بينهما. غطس البهاء، وقب، وغطس، وقب، وصرخ، واستغاث بيديه اجتذبته من داخل الموجة يد امرأة، تيقن محمد أنها عروس البحر. أطلق البهاء ثلاث صرخات، وصخب الموج من حوله. ثم اتسعت الدوائر الضيقة، حتى اختفت. وهدأ الموج، وحل الصمت. كأن الموج علا ليبتلع الولد، لتنفذ يد عروس البحر من داخله فتأخذه إلى دنيا الأعماق.
هل هي عروس البحر كما قال محمد الراكشي؟ اختطفت الولد كما اختطفت سواه من قبل. أو أن ساعديه خذلاه؟ أو دفعه ولد من أصدقائه؟ … أو أن الأقدار ابتلته بما لم يقوَ على رده؟
قيل إن الرجل عدل عما اعتزمه من أمر خطير حين ظهر له السلطان في المقام، وأخبره أن الله أخذ الولد ليمتحن صبره، وبشر الصابرين.
حل على الرجل — من يومها — هدوء وسكينة. يقضي يومه في التنقل بين أضرحة الأولياء، والجلوس على قهوة الزردوني — يخفض الجرسون ياقوت صوت الراديو عند اقترابه من القهوة، يتوقع ضيقه من ارتفاع الصوت — والخلو إلى المصحف ودلائل الخيرات، في شقته الصغيرة — حجرة واحدة وصالة — المطلة على شارع سيدي كظمان. وكان يحب المشي لمسافات طويلة، وتناول الشاي بكثرة، وسماع تلاوة الشيخ محمد رفعت، والجلوس على سور الكورنيش، يتأمل ما لا يراه أحد. حتى ظروف غرق البهاء لم يعد يشير إليها، ولا إلى حزنه على الولد، وإن تيقظ في داخله قلق للأصوات المرتفعة. تصاعدت، وتلاحقت، حتى حاصرته تمامًا. وكان يشغله السؤال: لماذا تعلو أصوات العصافير في الصباح الباكر، وعند الغروب؟ لماذا تصخب في هذه الأوقات بصورة لافتة؟ … وصدمه مولد أبو العباس — في اقترابه من ميدان المساجد — بتضخم الأصوات، فعاد إلى السيالة.
كان يجلس على سور الكورنيش، أو على هيكل فلوكة قديمة. يتطلع إلى الأفق، كمن يتوقع شيئًا. لا يتكلم عن ترقب عودة الولد، ولا ما إذا كان مات ميتة ربه، أم أن عروس البحر اختطفته بالفعل. إذا سمع تحية، رد بهزة من رأسه، وعيناه تتجهان إلى الأفق. يسلم نفسه لشرود حزين وينصرف تمامًا عن كل ما حوله.
همس محيي قبطان: الرجل معذور، فالولد وحيده.
قال عباس الخوالقة: من كان يتصور أن يترك عبد الرحمن الصاوي الإسكندرية ليقيم في القاهرة مع أبنائه؟!
تعددت زيارات سلامة في الأشهر الأخيرة. يئس من إقناعه بالذهاب إلى القاهرة، فانقطعت زياراته. تردد بالشيخوخة والقرف وتوالي الأيام، وعدم رغبته في فتح جراح جديدة، في الذهاب إلى القاهرة. ترك للأيام فرصة إنهاء كل شيء، ثم فاجأ الجميع باعتزامه تصفية عمله، والسفر إلى القاهرة.
ملأ السلطان حجرة نومه. لاحظ خوفه، فقال في صوته الهادئ: إنما أتيت للنصيحة.
ثم وهو يهز أصبعه: لا يكفي أن يُرضي المرء نفسه … عليه أن يُرضي الآخرين.
ثم وهو يذوب في الجدار: جريمتك قديمة، وتصر على الفرار منها!
تباعدت أوقات جلسة العصر. توالى الغياب والاعتذارات. ووجد الحاج محمد صبرة نفسه — ذات أصيل — بلا جليس يحادثه.
قال ياقوت وهو ينثر نشارة الخشب في أرضية القهوة: أهلا بالبطل الصغير!
كان قد نسي الصفة. لم يعد أحد يناديه بها. عاش أيامًا من الاهتمام والإكبار. في القهوة، وفي الحلقة، وفي المدرسة. حتى نظرات أبيه. كان يفجؤها وهي تتسلل ناحيته بالإعجاب الصامت. أم محمود — وحدها — اعتبرت ما حدث مصيبة، ودعت على الملك والحكومة، وعلى مصطفى لأنه كاد يحرق قلبها.
نُسبت إليه أفعال كثيرة.
قيل إنه أشعل النار في سيارة بوليس، فاضطر من بداخلها إلى الفرار. وقيل إنه تصدى لضابط أراد أن يضرب بنتًا، لم يتركه حتى أعلن أنه امرأة. وقيل إنه أعاد القنابل المسيلة للدموع، فآذت العساكر، واضطرتهم للفرار.
ثم نسوا ما حدث، وانشغلوا بشئونهم.
شارك — بالإنصات — في أحاديث عن الإضرابات والمظاهرات التي لم تشهدها الإسكندرية من قبل. انضم إليها ضباط بوليس وكونستبلات وصولات وجنود. كانوا يواجهون مظاهرات الطلبة والعمال … من يواجههم؟ … حتى الضابط نبيل قرة مأمور نقطة الأنفوشي، تغيب منذ يومين عن مكتبه، وإن أكد عبد الوهاب مرزوق أن الجيش سينزل إلى الشوارع غدًا لفرض النظام.
قال الغرياني: إذا جاء الخير … فسيجني ثماره الجميع!
قال الجد السخاوي: ماذا جرى للبلد؟ … الإضرابات والمظاهرات تتوالى … حتى ضباط البوليس شاركوا في الإضرابات.
قال الغرياني: ما يعنينا إلا أن يضرب السمك عن الدخول في الشباك!