زنقة الستات
لسنا نذكر متى تنبهنا إلى البيت، ولا إلى الحكايات التي تروى عنه. وكنا نتهامس بحكايات العفاريت والأرواح الشريرة، والأولاد الذين فُتح الباب واجتذبتهم يد إلى الداخل، ثم أغلقت الباب.
قال محمد علي الراكشي: عرفت أن هذا البيت يسكنه عفاريت.
قال عادل عبد الوهاب مرزوق: من قال لك؟
قال محمد: سمعت أمي تكلم جارة الطابق الأرضي.
شطحنا في تصور العفاريت: ما شكلها؟ … كيف تحيا؟ … ماذا تفعل إن وجدت أحدًا في طريقها؟
قال محمد: تأكله!
قال علال: كذب! … إنها تسخط الإنسان فيصبح مثلها!
تأمل مصطفى عباس الخوالقة نفسه، وهمس: هل أصبح عفريتًا؟!
كانت أجسامنا تتقارب، ونهمل ارتعاشاتها، ونحن ننصت إلى حكايات عم محجوب عن أفعال الجان في البشر.
أصبحنا نخاف الوقوف — منفردين — أمام باب البيت. نتخيل ما يضمه من عفاريت وجان ومخلوقات تنتمي إلى عالم غير عالمنا. كل منا يعيد ما سمعه على الآخرين، فيزداد خوفنا مما بداخل البيت، وإن لم نتردد في شتم أنسية، حين أطلت من الباب الموارب، وامتدت أيدينا إلى قطع الحجارة، قذفناها بها، حتى أغلقت الباب.
كنا نقضي أوقات الفسح حول المقام الذي يتوسط واجهة مدرسة البوصيري. لم نعد نثير الأسئلة حول الشيخ صاحب المقام: هل هو سيدي البوصيري، وأن المدرسة — كما قال عادل — بُنيت على قبره … أو هو — كما قال عم جابر برغوت — سيدي الأنفوشي، أصل الإسكندرية وأسبق أولياء الله في تعطير بحري ببركاته … أو هو ولي مقطوع نذره، فلا أحد يدري اسمه، ولا طريقته، ولا بركاته ومكاشفاته، فلا يقام له مولد، ولا يطلب شفاعته مريدون وزائرون. كررنا الأسئلة والأجوبة، فلم تعد تثيرنا أو تشغلنا. نتكئ بمرافقنا على المقام، ذي القماش الأخضر الباهت. نحدد مواعيد لقاءاتنا بعد العودة إلى البيوت.
نلعب — حتى العصر — أبونا ضربونا، البحر المالح، القط والفار، عسكر وحرامية، كيكا ع العالي، يا عم يا جمال، برلا برلا، المساكة، ونلعب البلي والدوم والطيارات الورقية وأولها إسكندراني، وتلعب الكرة في الساحة المجاورة لحلقة السمك، ونتردد على حمام البلدية، ونتسلى بمراقبة الصيادين في الميناء الشرقية. وننصب الفخاخ، وشكل للبيع. وكان مصطفى الخوالقة يجيد تقليد أصوات الحيوان والطير، وحركات وطريقة كلام آبائنا، والمعروفين في السيالة.
نهمل التحذيرات، والأوامر، وعبارات التهديد والشتم. نخترق الشوارع الضيقة إلى شاطئ الأنفوشي، نجمع القواقع والأصداف. تغوص أقدامنا الحافية في الرمال. نبني البيوت، ونهلل حين يجرفها المد. نحفر حتى تظهر رغاوى الماء المالح. نلعب نطة الإنجليز. ننزع ملابسنا، ونجري نحو البحر، لا نتوقف إلا عندما تلامس الأمواج رءوسنا. تطول لعداتنا في ظل هياكل المراكب. نطارد طيور النورس، أو السمان مسافات قصيرة، ثم يحل بنا التعب، فنتوقف.
إذا مالت الشمس في الأفق، أسرعنا بترك الشاطئ، فلا تفاجئنا — أو أحدنا — عروس البحر. تطلع من داخل الماء. تمارس عادتها في اصطحاب الرجال إلى الأعماق التي لا عودة منها. رويت حكايات عن الذين اجتذبتهم العروس إلى قاع البحر، فلم يعودوا: البهاء إسماعيل سعفان، وسباعي سويلم، وحودة التيتي، والمليجي عطية، وجمعة العدوي. اجتذبتهم عروس البحر، فلم يعودوا أبدًا. وقال مصطفى الخوالقة إنه رأى عروس البحر تمشي على سور الكورنيش، تقفز فوق السور، رأسها لامرأة، وذيلها لسمكة.
نتجه — قبل أذان المغرب — في أيام كثيرة، إلى سوق الخيط.
يمسح مصطفى بوز حذائه بأصابعه، ويسبقنا: تعالوا نحب!
نتبعه.
في أعماقنا مشاعر يصعب تحديدها. تدفعنا الرغبة في ملامسة البنات. نهمل تصور ما يلي الاحتكاك بالذراع أو الساعد. حين امتدت أصابع مصطفى إلى ثدي بنت، لم نصدقه في البداية، ثم توالت الأسئلة، ترافقها، وتلاحقها، صور غير واضحة الملامح، وإن تيقنا من جمالها المؤكد.
نحاذر السير أمام زاوية خطاب. نهاب الشيخ أمين عزب. لا يرتدي الجبة والكاكولا والعمامة، لكنه يؤم المصلين في الزاوية، ويلقي الدروس، ويلجأ إليه الناس لحل مشكلاتهم. إذا مر بنا في طريقه بين البيت والزاوية، وكنا جلوسًا، وقفنا. وإذا كنا نلعب، توقفنا عن اللعب. وإذا كنا نتحدث، خفتت أصواتنا. له مهابة تفوق ما عند إمام أبو العباس، أو عند آبائنا. لم ينظر إلينا بغضب، ولا عاب علينا تصرفًا، ولا شخط، أو نطر. يمضي في طريقه، لا يلتفت، لكن الحكايات التي استمعنا إليها، رسمت له في أذهاننا صورة نهابها.
نخترق الحواري والأزقة إلى الحجاري، ومنه إلى شارع رأس التين، فشارع فرنسا. بعد مسجد ترانديل نميل إلى سوق الترك. تأخذنا روائح العطارة: الفلفل الأسود والشطة والحبهان والشيح والفلفل الأحمر. تتآلف الروائح، فتصنع مزيجًا ثابتًا لا يتغير. تتعالى ضربات الدقاقين.
نخترق أسواقًا تالية، صغيرة: العقادين والخراطين والصيارفة والمغاربة، حتى نصل إلى سوق الخيط. الدكاكين الصغيرة، المتلاصقة، والممر الضيق، والأسقف الخشبية، اقتربت فكادت تتماس. تحمي المارة وأهل السوق من حرارة الشمس والأمطار، وإن أذنت بدخول الضوء.
البنات يمشين، أو يتوقفن، فلا تأذن المسافة إلا بأن يحتك الكل في الكل.
نمضي في السوق إلى أوله وآخره، ونعود. لا يشغلنا النظر إلى ما بداخل الدكاكين، ولا إلى ما في الممر نفسه، ولا إن كانت البنت التي نحتك بها سمينة أو نحيفة، صغيرة أو كبيرة. مجرد أن تحتك أجسامنا بالأجسام الواقفة والماشية. يتباهى كل منا — في طريق العودة إلى السيالة – بما حققته الأجسام التي احتك بها — في نفسه — من نشوة. ربما لمس كوع أحدنا نهدًا منتصبًا لفتاة، تشتم أو تصرخ أو تتأوه، أو يدفعها الحياء للإسراع في خطواتها. إذا لامه تاجر، أو عابر سبيل، فإن الزحام وضيق المكان عذر من السهل تأكيده … وحلف لنا مصطفى الخوالقة — مرة — إن ساعده العاري احتك بالثدي العاري لفتاة. لا يدري كيف فز الثدي، ولا كيف حدث ما حدث، لكنه أحس بملمس الثدي العاري، في ساعده العاري.
كان مصطفى الخوالقة أكبرنا، وأكثرنا معرفة بالبنات. يترددن على حلقة السمك، يلاغيهن، يأخذ ويعطي، ويفهم ما لا نفهمه. ودخل — بمفرده — عوالم من السحر، نكتفي بما يرويه عن غوامضها وما نخفيه. وكان يروي لنا حكاياته مع بنات المدارس في شارع حسن باشا عاصم. له طريقة في تحوير الحكاية. يثير فينا مشاعر الفضول والمتابعة. يحذف، ويضيف، ويختصر، ويتوقف، ويستطرد — ربما — إلى حكايات أخرى. يرفق سكناته بالقول: واخد لي بالك؟ وعرفنا منه ما لم نكن نعرفه. نصنع مما يرويه قصصًا لنا، نتخيل أننا نحياها. وكنا ننصت إلى أحاديثه عن بنت يحبها، ويؤكد أنها تحبه. ينوي التقدم لخطبتها.
سأله عادل عبد الوهاب: ما اسمها؟
احمرت أذنا مصطفى، وشاب لهجته ارتباك: سر بيني وبينها.
قال عادل: تلميذة؟
رماه بنظرة مؤنبة: طبعًا … هل أحب لمامة سبارس؟!
قال محمد: حلوة؟
قبل أصابعه المضمومة: فلقة قمر!
قال عادل: هل تصرف عليها من جيب أبيك؟
قال مصطفى: بل من جيبي … فأنا أساعد أبي في عمله.
قال محمد: تلميذ في البوصيري الأولية يتزوج؟!
قال مصطفى: وما له؟ … لما تزوج أبي كان أصغر مني.
قال محمد: زمانهم غير زماننا … ولم يكن تلميذًا.
قال مصطفى: إذا كنت تعجز عن الإنفاق على نفسك، فهذه مشكلتك!
نجلس — قبل العودة إلى بيوتنا — في قهوة النجعاوي. السلمات الثلاث تصعد إلى المصطبة الواسعة، المفروشة بالسجاد. تناثر فيها مقاعد مستديرة من الجلد المنقوش. النصبة في نهاية المكان. فوقها الرمالة وأكواب الشاي وفناجين القهوة والنراجيل الملونة، وعلى الجدران رسوم وزخارف ونقوش خزفية ومعلقات سجاد وآيات من القرآن. وثمة مبخرة — أوسط المكان — يتصاعد منها بخور اللبان والمستكة والجاوى والفاسوخ.
نتأمل مصطفى وهو يأخذ النرجيلة من الجرسون. يضعها أمامه. يجذب اللي ناحيته. يمسح المبسم بباطن يده. يضعه في فمه. يسحب أنفاسًا متلاحقة. ينفث الدخان من أنفه. نثق أن ما يفعله لا نستطيع فعله. حاول عادل تقليده. أصابته نوبة سعال، نفضت جسمه، وكورت وجهه ودفعت الحمرة إلى عينيه. خفنا على أنفسنا، فاكتفينا بالمراقبة.
يمضي بنا مصطفى بعيدًا عن بحري. نتفرج على إعلانات الأفلام والدكاكين والقهاوي والكازينوهات في منطقة الرمل. نركب الطابق الثاني في الترام. يقلنا إلى نهاية الخط، ويعود.
استوقفنا — ذات مساء — بائع في ناصية السوق، وقال: أنتم لا تشترون!
كيف لاحظ في الزحام الخانق؟
قال مصطفى الخوالقة: نحن نشتري من الداخل ونعود.
قال البائع: فماذا اشتريتم؟
قال مصطفى في تحدٍّ: هذا شأننا.
قال الرجل: معاكسة بنات الناس ليست من شأنكم!
وخالط لهجته وعيد: إذا عدتم إلى هنا، اتهمتكم بالسرقة.
قال مصطفى: نحن لا نسرق.
– تحتكون بالنسوان وتقاوحون؟!
قال مصطفى في مكابرة: نحن لا نعرف ما تتحدث عنه.
قال البائع: إذا عدت ثانية، لن أتركك إلا في القسم!
وفاجأ مصطفى أباه — ذات صباح — في مجلسه بحلقة السمك. من حوله الطبالي والمشترين والمساومات والنداءات والصياح وتقافز القطط.
أطال الوقوف حتى تنبه.
حدجه عم عباس الخوالقة بنظرة متسائلة.
انتزع مصطفى الكلمات: أريد أن أتزوج.
أسند عم عباس الخوالقة مبسم الشيشة على المقعد أمامه: ماذا؟!
قال مصطفى: أريد أن أتزوج.
وشت نظرته بسخرية: لأنك يا دوب بلغت … تحسب نفسك رجلًا؟!
قال مصطفى: أريد أن أتزوج.
– هل ستأخذها معك إلى المدرسة؟!
– أنا أعمل معك في الحلقة … فلماذا أذهب إلى المدرسة؟!
ارتفع صوت الخوالقة بالأسى: أولاد الحاج قنديل تخرجوا في الكليات … وأنتم ترفضون حتى الحصول على الابتدائية.
ثم بنبرة ساخطة: الله يلعنكم!
وزفر في نفاد صبر: ماذا أفعل لك؟
– أريد موافقتك.
تحشرج صوت الخوالقة بالغضب: وهل هذا وقته؟!
قال مصطفى وهو يمضي خارج الحلقة: أريد موافقتك أولًا!
