جزيرة السحر تبوح بسرها
اقتحمت أنفه رائحة الدخان والأنفاس، ولاحقته الأصوات المنادية، والمتسائلة، والداعية.
كان يغالب الارتباك، وهو يتلفت حوله. ربما فاجأه صديق لأبيه، أو أحد الجيران.
لجأ إلى خياله. اختلق الروايات. ضمنها حكايات للرجال في الزردوني والبحر ومخيمخ، أنصت إليها. نقلها للأولاد بإضافة وحذف، وجعل نفسه فيها. بدا له كوم بكير دنيا غريبة، ساحرة، تاق لرؤيتها.
واجه محمود همسه بغضب لم يعهده فيه: لكنك تذهب إلى هناك.
قال بصوت متوجس: من قال لك؟
واجه عينيه: أنت قلت في القهوة.
هز محمود قبضته: أنا أكبر منك.
داخل صوته ارتعاش، كمن يهم بالبكاء: لم أعد صغيرًا.
هتف محمود في لهجة باترة: لو ذهبت إلى هناك … سأريك شغلك!
سكت، وإن ظلت الفكرة في داخله. تلبسته، فلم تعد تفارقه. هو لا يفترق عن الأولاد إلا بالروايات المختلفة. الذهاب إلى كوم بكير يعود بحكايات حقيقية لا تنتهي.
احتفظ بخمسين قرشًا من إيراد شروات الصباح في الحلقة. استقل الترام إلى ميدان المنشية. مضى في شارع السبع بنات. بوصلته حكايات الرجال، والأخيلة المجنونة تناوش ذهنه، وتدفعه: لما ذهبت إلى كوم بكير … رأيت في كوم بكير … لي صديقة أتردد عليها، كل مساء، في كوم بكير … لن ألعب معكم، وقتي — بعد الحلقة — أقضيه في كوم بكير … نصف نساء كوم بكير يحببنني … كوم بكير دنياي المفضلة … يصعب أن أصحب أحدكم إلى كوم بكير، فلا يتردد عليه إلا الرجال.
لم يكن يخشى إلا أن تلمحه عين من السيالة: قاسم الغرياني أو المعلم التميمي، وغيرهما، ممن يداومون التردد على كوم بكير. سكت أبوه عن الكثير من تصرفاته، لكنه — بالتأكيد — سيجد في فعلته الجديدة، ما يدعو إلى المؤاخذة القاسية. قد يضربه، أو يطرده من البيت.
طالعه الحي بما لم يتصور أنه يراه. ما يختلف تمامًا عن كل الحكايات والروايات التي أصاخ إليها سمعه، ودفعته إلى محاولة التعرف. الأغنيات تتصاعد من كل مكان، تختلط فلا تبين كلماتها ولا ألحانها ولا مصدرها. الأعين المتسائلة، والمتوجسة، والداعية، ورائحة الطعام، والحشيش، والخمر، والوجوه المصبوغة، والنبرة المتكلفة، والعرق، والنداءات، والضحكات، والآهات، والغمزات، والأنفاس اللاهثة.
مع أنه كان قد أعد نفسه لما رآه، فقد أذهلته نساء اكتفين بوضع غلالات شفافة على أجسادهن. يبدو الصدر والبطن والصرة وما تحت البطن. حتى الحسنات والوحمات يبين لونها الداكن من وراء الغلالة.
واجهه رجل مجدور الوجه، يحيط برأسه شعر مشعث منكوش. في حوالي الخامسة والأربعين. يرتدى جلبابًا مقلمًا من الكستور، ويضع فوق رأسه طاقية من نفس قماش الجلباب، ويحرك بيده عصا معقوفة، لامعة.
– ماذا تريد؟
غالب ارتباكه: أتمشى.
في لهجة مرغبة: هل تريد شيئًا محددًا؟
– لا … أنا أتمشى.
فاجأته المرأة بالقول، وهي تشير إلى قامته الممتلئة: أنا التي تتحمل عافيتك … تعال!
في حوالي الخامسة والعشرين. ذات وجه قاتم السمرة، وشعر أسود أكرت. ترتدي قميصًا من الساتان الأحمر، يطل نهداها من فتحة الصدر الواسعة، المشغولة بالترتر.
أذهلته الكلمات، وأرضته.
ترك ساعده ليد المرأة، تقوده إلى داخل الحجرة.
في الركن سرير نحاسي مرتفع، مفروش بملاءة متسخة، وإن بدا لونها أقرب إلى الزرقة. تحته كرسي حمام ليتيح الصعود عليه. وفي الجانب كومودينو صغير، وحامل خشبي، عليه فوطة متداخلة الألوان، وفي الركن المقابل تسريحة بمرآة، صُفَّ عليها زجاجات عطر، وكيس قطن، ومشط متآكل الأسنان، وقطعة من الجلد، أشبه بعصا رفيعة سوداء. وعُلِّقت — على الجدران — صورة من مجلة لتحية كاريوكا ببدلة الرقص، وصور صغيرة لبحارة ذوي سحن أجنبية، بينما تدلت من السقف مروحة ساكنة، وفُرشت الأرض بسجادة مضفرة من أقمشة قديمة.
– هل أنت خائف؟
التفت إلى المرآة وراءه. راعه الشحوب الذي كسا وجهه.
وهو يبتلع ريقه: لا.
نطت على السرير. عادت أصابعها — من تحت المخدة — بعلبة سجائر. أخذت أنفاسًا متوالية. أطفأت السيجارة في الطبق الخالي على الكومودينو المجاور.
– ما اسمك؟
– مصطفى.
– من الإسكندرية؟
– من بحري.
– أول مرة؟
هز رأسه: نعم.
أعادت السؤال، وهي تواجهه بنظرة مشفقة: خائف؟
اهتز بالانفعال: لا … لست خائفًا.
أطلقت ضحكة عابثة: من له جثتك لا يخاف إبليس!
ثم وهي تنزل من السرير، وتمضي وراء الستارة المسدلة: استرح حتى أعد نفسي.
ظل في وقفته وسط الحجرة، يتأمل ما حوله. وثمة راديو قريب يتناهى منه صوت منيرة المهدية:
علا صوت المرأة من وراء الستارة: اخلع ملابسك!
تبينت عيناه خطًّا طوليًّا ضيقًا، يفصل بين الستارة والمكان الذي دخلت إليه المرأة.
مد رأسه بعفوية.
غمض ما تفعله المرأة، وإن فاجأته بما لم يتوقعه. ما تصور أنه يعرفه اختلف عما رآه خلف الستارة المسدلة، وصدمه. كل ما رواه للأولاد صنعه خياله، غذته الصور التي تشكلت من حكايات قهاوي الزردوني ومخيمخ والبحر، ومن الصيادين والسماكين في الحلقة.
صعد القرف بالغثيان في حلقه. وضع يده على فمه — بتلقائية — يمنع انفلات القيء.
اهتزت الستارة الخشبية، الملونة، في اندفاعه إلى الطريق.
وكان نداء المرأة يلاحقه.