غجرية
نبين زين!
استوقفه النداء. تصور المرأة ذات الفستان الأسود، المكشكش والطرحة، والقفة فوق رأسها، وحلقة الذهب الفالصو مغروسة في الأنف، والوشم الأخضر أعلى الصدغ.
كان يتمدد في استرخاء القيلولة. اعتذر للرجل الذي أطال وقفته أمام الإسطبل بأن الكرابيج سليمة. المعلم التميمي يرفض أن ينزل الكرباج من اليد على جسم الحصان.
قال الرجل: أنا أفتل الكرباج لزوم قيادة الحانطور.
أشاح صابر بيده: عد مرة ثانية … قد يوافق صاحب الإسطبل.
تنبهت لإشارته في وقفتها القصيرة أمام الإسطبل. همت بالقعود على الباب، ثم فطنت لما في باله.
النافذة المطلة على الإسطبل مغلقة، وشارع السيالة يخلو من المارة.
مضت — مبتسمة — إلى الداخل: ارم بياضك.
دس يده في جيب البنطلون، وأخرج تعريفة.
دفعت بالصدَفة: هذه ملكة البحر … وشوشها.
قال صابر: أريد أن أوشوشك أنت.
تظاهرت بعدم الفهم: أشوف بختك.
غمز بعينه: أعرفه.
حبكت الطرحة حول رأسها: فماذا تريد؟
وهو يتأمل الخال الصغير، رسمته بالكحل على خدها: أريدك أنت!
ثنت جسمها، لتتفادى مداعبات يده في صدرها: أنا لا أريد.
اهتاجت أعصابه: سأدفع ما تطلبين.
لعقت شفتيها بطرف لسانها: هل تقوى على مهري؟!
ضربته على فخذه معابثة: فتهيأ لدخول الجحيم.
قدَّم عرضه، وقدَّمت عرضها. سبقها إلى المخزن. سوَّى المرتبة. نزعت الشبشب — بتلقائية — وتمددت إلى جانبه. أهمل رائحة عرقها، وأهملت رائحة الإسطبل العالقة بجسمه، ومزق البرسيم، وروث الخيل، والمياه العطنة.
استسلمت لقبلته، انتقلت من شفتَيها إلى عنقها، فصدرها. وغادر النورس تحليقه فوق الشاطئ.
– يا كلب!
انتتر مذعورًا، وفزت المرأة تنفض العليق عن فستانها الأسود، وتغالب الارتباك.
لم يعد المعلم التميمي. صار شيئًا زاعقًا، صاخبًا، مخيفًا. يهوي بالكرباج في تلاحق، على صابر المتكوم حول نفسه، يتقي وصول اللسعات إلى وجهه بدفسه في التبن.
كان الرجل يصيح بآخر ما عنده: هذا مكان أكل عيش!
نزلت الست جمالات بقميص النوم، وحافية. خافت أن يموت صابر في يد المعلم: تروح فيه؟!
وهو ينتفض من الغضب: أنت لا تعرفين ماذا فعل!
قالت في هدوء: أعرف.
أردفت لنظرة الدهشة المتسائلة: رأيته وهو يتسحب بالمرأة إلى داخل الإسطبل.
بصق الفص من فمه: وتسكتين؟!
دون أن تجاوز هدوءها: هل ألم الناس؟! … انتظرت حتى تأتي … لكنك سبقت.
ثم وهي تربت صدره: لا تفعل هذا ثانية … اطرده ولا تقتله!
لم يكن الاستغناء عن صابر مما يدور له ببال. منذ أوصى حمادة بك على صابر، وهو يعتبره جزءًا من الإسطبل. تركه لعم شفيق عبد السيد يعلمه. ثم تركه. يحاسبه في عودته إلى البيت كل مساء، أو — إذا تأخر — ظهر اليوم التالي، لا يسأله.
هل فتحت القطة المغمضة عينيها.
أعلن الرجل غضبه لأن الغجرية أسلمت نفسها له داخل الإسطبل، فهل يعرف أنه — صابر — يصحب امرأته إلى بيت الأسطى فتحي الخياط؟!
طلبت أن يعد لها حانطورًا، ويأخذها في مشوار إلى شارع قبو الملاح.
أمام بيت يعرفه، قالت: قف. فوقف …
قالت في لهجة معتذرة، وهي تصعد الحانطور: تأخرت عليك؟
ثم أومأت برأسها ناحية البيت: في هذا البيت أقارب يرفض المعلم زيارتي لهم.
جذب لجام الحصان. لم يحاول الرد عليها، أو حتى النظر نحوها. البيت للأسطى فتحي. التقى به وهو يحمل شعرات حصان، عالج بها سكان الطابق العلوي زوائد سنط. عرفه، وسلم عليه، ودعاه للدخول.
ظل دكان العلافة مغلقًا لأشهر طويلة، منذ وفاة صاحبه. ثم ظهر على بابه المفتوح، يشرف على تجهيز الدكان، ونقل ماكينة الخياطة وترابيزة التفصيل والكراسي. عرف أن الدكان تحول إلى ترزي عربي، يحيك الجبب والقفاطين والأحزمة الشاهي، معظم زبائنه من مشايخ الحي، الأئمة والقراء وطلبة المعهد الديني.
الأسطى فتحي يقف وراء الترابيزة. المازورة على كتفه، والمقص في يده. يعتز بأنه يجري بالمقص في القماش دون «باترون». طلب منه — فيما بعد — أن يأخذ باله من الدكان، حتى يقضي حاجته في ميضة سيدي نصر الدين. وتبادلا كلمات سريعة، حول الجو ومعارك البوليس والمتظاهرين في ميدان المساجد.
لم يكن يبدو أن ساقه المهيضة تضايقه. يتساند على العكاز ليعوضها، وإن كان يظلع في مشيته، رغم العصا التي تسبق خطواته.
لما تعددت المشاوير، صار — دون أخذ ورد — أمينًا على سرها. ينقل إليها مواعيد الأسطى فتحي. ينقل إليه قبولها، أو اعتذارها. يطمئن التميمي إلى خروجها مع صابر، فلا ينشغل إن تأخرت.
حمل إلى الأسطى فتحي — في الدكان أو في الشقة — طعام الغداء: عمود من ثلاثة طوابق. عرف — دون أن تحذره جمالات — أن معرفة المعلم التميمي بالأمر تعني طرده من الإسطبل. يأخذ الرجل العمود. يفرغه في أوانٍ، ويعيده. لا يحمل صابر رسائل إليه منها، ولا يحمل رسائل منها إليه. يكتفي بالسلام، ورده، ويعود.
لم تحدثه عن العلاقة بينها وبين الأسطى فتحي. هل هو قريبها أو مجرد عشيق؟ … ولم تأتمنه على سر العلاقة باعتبارها كذلك.
افتر فم الست جمالات عن ابتسامة واسعة، فبدت أسنانها غير المتسقة: هل جننت؟! … امرأة داخل الإسطبل؟!
وقلبت شفتها السفلى: وفوق عليق الخيل؟!
واكتسى وجهها جدية: لن أستطيع إقناع المعلم ثانية أن يعفو عنك.
ثم وهي تصعد الدرجات إلى داخل البيت: غجرية؟!