ذبالة
قال عباس الخوالقة: إذا لم تكن مهجة قد أكملت فرحتها، فلا بد أن أعيد ليالي الفرح من أولها.
ليلة الحنة تسبق ليلة الفرح. تعلق الزينات، وتغني العوالم، وتُزف الصينية في شوارع السيالة.
ظلت مهجة على صمتها. تتابع الكلمات والتصرفات بعينين تائهتين.
صحبتها أمها — والشمس في الأفق الشرقي — إلى الشيخ عبد الحفيظ، إمام سيدي علي تمراز. تلا فوق رأسها آيات من القرآن، وردد أدعية، وتمنى لها الفلاح. ثم كنست أم محمود بيت العروسين في شارع سيدي كظمان. من الباب الخارجي إلى داخل الشقة. حتى بلكونة المنور المطلة على خرابة، جمعت ما كان فيها من أوراق صغيرة، وحرقته. وقرأت آية الكرسي، وحوقلت، واستعانت من الشيطان، ودعت للعروسين، وهي ترش الشقة بالملح.
أسلمت مهجة جسمها ليد زمزم الداية، تنزع الشعر عن الوجه، وتحت الإبطين، والساقين، والعانة. ثم تجري بالجلسرين والليمون والكريم. لم يكن في بال مهجة شيء. كأن الأمر لا يعنيها. كأنها ليست هنا، أو أن الجسد ليس جسدها.
شدد الخوالقة على صبيانه في شرائهم للحنة من سوق الدقاقين. أن تكون بلدية. لونها فاتح، وخواصها معروفة، بعكس الحنة الإفرنجي أو البغدادلي. أزهارها باهتة اللون، ولا تستخرج من شجرة الحنة. خليط نباتات يصيب الشعر بالجفاف والتقصف.
أصر الحاج محمد صبرة أن يتولى بنفسه تحنية يدي وقدمي العريس، وحلاقة شعره، وإعداده للزفاف.
– أعود لما نسيته من أجل عيني الخوالقة.
زادت أم محمود من نثر أوراق الحنة الجافة على العتبات، وداخل البيت. تلحقها بأدعية تطلب البركة والخير. وتضوع البخور. اختلطت روائح المستكة وعين العفريت والحنتيت والكسبرة وعرق الحلاوة والشبَّة وكناسة العطار.
ضايقها أن الحاج قنديل لم يأذن لأم أولاده بحضور ليلة الحنة. لما وجَّه عباس الخوالقة دعوته، اعتذر الحاج قنديل بأن المرض أقعد المرأة، فهي لا تغادر البيت إلا للطبيب.
قال مصطفى: العريس أهدانا حنة ممتازة.
وضِعت الصينية داخل فانوس كبير من الأوراق الملونة. غُرست فيها أكواب زجاجية مملوءة بالرمل، بكل منها شمعة.
مضت الزفة في شوارع الحي. تتوقف أول كل شارع أو حارة. تحصل على التحية من الواقفين على الأبواب، وفي النوافذ، وداخل الدكاكين. يوضع الفانوس فوق كرسي مرتفع. يرقص الأولاد والبنات حولها، ويغنون:
قال عباس الخوالقة: هذه حنة فلاحين … غنوا حنة الصيادين.
قالت أم محمود: لا يوجد حنة فلاحي وصيادي … أغنيات الحنة للجميع!
وتعالت أصوات الأولاد والبنات:
مضى الموكب من ميدان أبو العباس إلى حارة أبو يوسف. قبل أن يميل إلى السيالة، أوقفته صيحة مفاجئة: انتظر!
توقف الموكب عن الغناء.
اتجهت الأعين المشدوهة، المتسائلة، الخائفة، إلى المنظر الذي حمله الرجل: كرسي صغير، عليه صينية مستديرة، فوقها شموع مضاءة، وحنة معجونة، ورُصت في جوانبها ورود.
قال وهو يضع المنظر على الترابيزة: هذه الحنة هدية المعلم حنفي قابيل.
قال مصطفى الخوالقة: معنا الحنة.
قال الرجل: النبي قبل الهدية.
قال مصطفى: الحنة معنا تكفي وتزيد.
قال الرجل بلهجة ذات مغزًى: هل أعود إلى المعلم بهديته؟
همس محمود الخوالقة: ألم ينتهِ عهد الفتوات؟
قال مصطفى الخوالقة: أستطيع أن أخطف رجلي إلى نقطة الأنفوشي.
أدرك عباس الخوالقة ما يعنيه الرجل. قال لتفوت الليلة على خير: هدية المعلم حنفي قابيل مقبولة. جميل أن يضع العروسان نوعين من الحنة!