الخوالقة يطلب الطلاق
خلا شارع السيالة من المارة. الأضواء الباهتة، المنبعثة من أخصة النوافذ تريق تكوينات متداخلة على الجدران وأرض الطريق. لا صوت سوى وقع قدميه في الأرض الموحلة. لمح مطعم النبلاء مواربًا. خلا من الزبائن، والكراسي مقلوبة فوق الطاولات، وسلامة مشغول بتقطيع الخضار. وثمة قطان علا مواؤهما، وهما ينبشان بقايا سمك، وعربات يد، صُفَّت في جانب الشارع، لُفَّت بمشمع وحبال تصعِّب التعرف إلى ما بها.
كانت قهوة الزردوني قد أغلقت ثلاث ضلف، بينما فتحت الرابعة، المواجهة للنصبة.
جلس في الركن أربعة، اثنان يلعبان الكوتشينة، واثنان مشغولان بالحديث. تبين خميس شعبان بشعره المنكوش ورقبته المندفسة في ياقة الجلابية. وثمة تكوينات، في السقف والجدران، تشكلها اهتزازات الضوء المرتعش للمبة المتدلية من السقف.
اقترب، فتعرف إلى الثلاثة الآخرين.
ألقي تحية المساء، وقال: أريدك يا حمادة بك في كلمة.
سأل عنه في الأماكن التي يتردد عليها: جامع أبو العباس وقهوة فاروق ووكالة درويش بشارع الميدان.
قال الحاج محمد صبرة: اسأل عنه في الزردوني.
ثم في صوت متعجب: أعلن اعتزامه دخول الانتخابات ولم يدخلها … وها هو ذا يعد للانتخابات قبل أن يُحَل البرلمان القائم!
بدا عباس الخوالقة مهمومًا بما لم يعهده من قبل. العصبية واضحة في ارتعاشة أصابعه، وبربشة عينيه.
تعالت — وراء الباب المغلق — دقات الطبول والدفوف وأصوات الطاسات والصاجات والأغاني والصيحات والنداءات والزغاريد.
نزع فؤاد أبو شنب الطربوش. قذف به في فراغ الحجرة، ثم بدأ في فك أزرار الجلابية. تجرد من ملابسه. دعا مهجة للتخلص من ملابسها. ظلت قاعدة على طرف السرير. لامس صدره ظهرها، ولثم كتفَيها بقبلة طويلة.
أعدت نفسها لخطوات رتبتها أمها. أغلقت باب حجرة نومها من الداخل. جلست على كرسي التسريحة، وأشارت إلى مهجة، فجلست على طرف السرير.
– الليلة تبدأ مسئوليتك في تكوين أسرة جديدة.
ولامست صدرها بأصابعها: من ناحيتي، أنا لم أقصر معك في شيء … تستطيعين القيام بأعباء بيتك بمفردك.
ثم كأنها تطمئن: أليس كذلك؟
هزت مهجة رأسها مؤمِّنة.
قالت أم محمود: مسئولية البيت ليست طبخًا وكنسًا فقط … فللرجل حقوقه.
واحتضنت شرود البنت: المرأة في شرع الله مجعولة لزوجها.
وداخل صوتها ارتباك: عليك أن تعطى لزوجك من نفسك كل ما يطلبه.
وحدقت فيما لا يرى: هذه هي سنة الحياة، وهي الطريقة التي أنجبتك بها، أنت وإخوتك.
وربتت فخذ مهجة برفق: أثق أنك ستحسنين التصرف.
ثم وهي تغالب — للمرة الأولى — غيمة دمع في عينيها: دعواتي — يا غالية — أن يحفظك الله في نفسك وزوجك وأبنائك بإذنه تعالى.
باخت مشاعر فؤاد أبو شنب حين أجابت في ندائه عليها: يا هشام. ثم التمس لها العذر في خطبتها الطويلة لابن المعلم كشك.
وضع ذراعه حول وسطها، فانتفضت. جذبها — بعنف — نحوه. شهقت — للمفاجأة — وتملصت إلى أسفل.
اندفع نحوها.
مد يديه، يحاول أن ينزع ثيابها. قاومته بيديها، وبالصرخات المكتومة.
همست لأمها: أنا لا أحبه.
قالت أم محمود بلهجة باترة: هو يحبك … وهذا يكفي.
– لكنني لا أحبه … أنا لا أعرفه!
– ومنذ متى تعرف الفتاة زوجها قبل الزواج؟
ثم وهي تربت كتف مهجة: بعد الزواج تأتي المعاشرة … والحب.
التف ذراعه حول خصرها، واجتذبها نحوه بقوة. مالت برأسها وأعلى صدرها إلى الخلف. لحق رأسها براحة يده اليسرى. فحت أنفاسه اللاهثة في فمها المفتوح.
هوى على شفتَيها. قبَّل شعرها، ووجهها، ورقبتها. بحثت أصابعه عن أصابعها، تداخلت فيها. زاد من ضغطه على صدرها. ابتلع شفتَيها في فمه. ظلت شفتاها مضمومتين، وهي تحاول التملص. ثم استطاعت دفعه بآخر قوتها.
تناثرت النصائح والهمسات من أفواه النساء والبنات، منذ بدأت التزين في ليلة الحنة. أعدها الكلام — بين الجد والدعابة — لمواجهة ليلتها الأولى. تبدل المشهد بما لم تكن تتوقعه. غابت التصورات في الوجه المتقلص الملامح، والعينين المحتقنتين، والشارب المرتعش فوق شفتين ممتلئتين.
همست في صوت متحشرج: إذا اقتربت … سأقتل نفسي!
في هدوء مخيف: هذا شأنك!
حاول — ثانية — أن يجذبها إليه، لكنها انتزعت ساعدها من يده. أطارت — في اندفاعها — طبق الفاكهة على الترابيزة المجاورة.
اندفعت نحو الباب.
مد قدمه، فتعثرت. لحقها وهي تسقط. رفعها من كتفَيها، وأدارها ناحيته بقسوة.
تراجعت حتى تساندت على الباب، وتكوَّرت على نفسها.
اقترب بجسده العاري، ولهاثه: مكسوفة من زوجك؟!
احتواها بين ذراعيه. مال بوجهه عليها، يريد تقبيلها. ضربته بقبضتيها ضربات متلاحقة. علا برأسه، فتملصت ثانية، ودفعته بقدمها. تعثر، وسقط. تساند على أصابع يديه، وهو يرميها بغضب مشتعل: من تظنينني؟!
قفز بحضنه. خربشت بأظافرها وجهه وعنقه. عضته، فلم ترفع أسنانها حتى تأوَّه.
انطلقت الصرخة من حلقها، قبل أن يكتم فمها براحة عريضة، متقلصة.
لوى شعرها في قبضته. دفع برأسها في الحائط. فاجأها بما لم تكن أعدت نفسها له، وآلمها. تحملت وهي تبكي. كزت على أسنانها وتأوهت، وصرخت، وحاولت التملص … لكن أصابع يديه كانت قد تشابكت حول صدرها من تحت إبطيها.
تذوقت شفتاه الطعم الملحي لدموعها. قال في ضيق: هل هو فرح أو مأتم؟
ثم وهو يرتدي ثيابه: أنت حلالي … من حقي أن أفعل بك ما أشاء!
تركت البيت فور خروجه.
حمدت الله أن أباها نزل الحلقة، فروت لأمها.
هتف عباس الخوالقة — بعد عودته — لكلمات المرأة الهامسة: لا بد من تطليق البنت!
ثم قال لنظرة عتاب صامتة، حدجته بها المرأة: أخطأت لما قبلت تزويجها له … والخطأ مردود.
قال حمادة بك: أنت لم تسألني قبل أن توافق على زواج ابنتك من فؤاد أبو شنب.
نفخ الخوالقة في ضيق: ذلك موضوع انتهى!
قال حمادة بك: امنحني فرصة لحل المشكلة بالود.
غالب التردد. فتش عن الكلمات التي تشير إلى فعلة الرجل. هز رأسه في حسم: لا فرصة!
هل أقطع ذراعي من أجل امرأة؟! … أصوات الصيادين تهمني، وفؤاد أبو شنب هو المسئول عن الفرن قبل وفاة أبي.
فوِّت هذه المرة يا عباس. الطلاق أبغض الحلال.
رماه الخوالقة بنظرة لم يعهدها في عينيه.
قال لينهي الموقف: أعدك بدفعه إلى تطليق البنت.
قال الخوالقة: هذا كل ما أريده.
ثم وهو يتهيأ للقيام: لا أريد إلا ابنتي!