الشوطة
قال الحاج قنديل، وهو يجيل نظرته في أرجاء الحلقة: اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه!
خلت من الحركة. لا أحد، إلا أربعة رجال انشغلوا بصف الطبالي القليلة، المتناثرة، وهواء الصباح الخريفي، أثقلته رطوبة خانقة. اختفت القطط. كانت تصطدم — أيام العمل — في الأرجل والطوالي والمشنات والطاولات والكراسي. وثمة كلب أقعى في المدخل، تدلى لسانه، ولهاثه مرتفع.
قال في نبرة متصعبة: من أين جاءتنا هذه الشوطة؟
قال خميس شعبان: يقال إن السبب أغذية ملوثة في معسكرات الإنجليز بالتل الكبير.
وهو يهز رأسه: المسافة بعيدة.
قال خميس شعبان: لهذا قيدوا حركة المواصلات.
استغنى — لضعف السوق — عن ثلاثة من موظفيه، كانوا يسجلون حصيلة بيع كل يوم في الحلقة. لاحظ حملات مفتشي الصحة، يصادرون الغذاء المكشوف — الخبز والخضار والفاكهة والمشروبات غير المعبأة — يقذفه العمال في عربات البلدية. أنصت — مذهولًا — إلى ما روته الصحف عن دفن الموتى في الجير، والجنازات الجماعية في المناطق التي دخلتها الشوطة، وإشعال النيران في الأماكن الملوثة. حتى البيوت حُرقت بعد أن دُفن أصحابها في الجير.
ألف الناس رؤية عمال الصحة، يأتون بعرباتهم، أو على الأقدام، يحملون أنابيب ضخمة، ويمسكون بأطراف الخراطيم المتدلية منها، يرشون الشوارع، وداخل البيوت والدكاكين والقهاوي، لا تشغلهم تأففات الناس ولا اعتراضاتهم، يعفرون كل شيء بلون رمادي ذي رائحة مميزة.
شكا المعلم أحمد الزردوني من أن البواخر تدخل الميناء، فتظل أيامًا دون أن تحصل إلا على حاجتها من الوقود. أما الماء والطعام، فالخوف من الشوطة يمنع شراءهما. حتى البحارة والركاب يظلون في البواخر، لا ينزلون منها.
داوم عباس الخوالقة على شرب الليمونادة، ونصح بها أم محمود والأولاد.
لحقه محمود بعمود الطعام. حذرته أم محمود من تناول أكل السوق، أو الأكل مع الرجال، وحذرته من العدوى في الحلقة والقهوة والطريق.
تناقلت جلسات القهاوي ما نشرته الصحف عن القيء والإسهال وعنابر المستشفيات، وابتلاع الجير الحي جثث الموتى، والعلامات على أبواب البيوت التي دخلتها الشوطة. وروى خميس شعبان أن الحكومة استولت على مجيرة عم سعد بشارع إسماعيل صبري، تحسبًا للخطر.
غالبت خطوات محيي قبطان الارتباك، وهو يقترب من قهوة الزردوني: الموت وصل بحري!
أردف للنظرات المتسائلة، الخائفة: ظهرت حالات كوليرا في رأس التين.
قال عبد الوهاب مرزوق: لكن مكتب الصحة لم يبلغ بحالة واحدة.
قال محيي قبطان: هذا ما عرفته الآن من صابر الشبلنجي.
قال الجد السخاوي: جاءت الهيضة في القرن الماضي، فلم تقتل أحدًا.
سأل حمودة هلول: ما الهيضة؟
قال عبد الوهاب مرزوق: الكوليرا … الشوطة … الهيضة … كلها مسميات لمرض واحد.
لم تعد سيرة كوم بكير تأتي على لسان. قيد الخوف تصرفات الرجال. من البحر إلى الحلقة، وإلى البيوت. قلت أعداد المترددين على قهوة الزردوني، لزم الرجال — معظم الأوقات — بيوتهم. وعلا صوت المعلم أحمد الزردوني بالضيق من الخوف والبطالة. وقال في نبرة حزينة: حتى العمل في الجمرك والميناء، قل تمامًا … وقلت حركة المغادرين والوافدين.
قال حمادة بك لفؤاد أبو شنب: غطِّ العجين يا فؤاد.
ثم وهو يمسح الفرن بنظرة قلقة: غطِّ الخبز أيضًا.
لم يعد رجال التموين يكتفون بوزن الخبز، وتحليل العجين. يصادرون الأرغفة لأنها مكشوفة، يقذفون بها في عربات البلدية؛ لإعدامها.
قال أبو شنب لطاطا الفران: غطِّ العجين.
تساءل طاطا مازحًا: ليسلم من العين؟!
قال أبو شنب: بل ليسلم من أذى مفتشي الصحة.
ثم في نبرة ساخطة: كل أكل ظاهر يعدمه أولاد الحلال!
تنفس الجميع الخطر. اتقوه في المصافحة والطعام والماء، وفي قتل الذباب. يشكون في أي قيء أو إسهال. ولما شكا قاسم الغرياني من صداع، حدجه عبد الوهاب مرزوق بنظرة توجس، وغادر قهوة الزردوني.
وضع حمادة بك — في مدخل البيت — صينية ديتول مذاب في الماء، يغسل فيها الجميع أيديهم عند عودتهم من الخارج، ومنع ولديه من الذهاب إلى المدرسة، ولزم بيته إلا لمشاوير قصيرة. لم يعد يتردد على أبو العباس، وجلسة الحاج محمد صبرة، والقهاوي. وامتنع عن مصافحة الأيدي في الطريق. قرر أن ينتظر حتى تزول الغمة. حتى الأصوات الصاخبة في داخله، أفلح في كتمها.
أغمضت هنية، بنت هريدي بائع الفاكهة أول شارع الأباصيري، عينيها، وضمت شفتيها، فقال لها عادل عبد الوهاب مرزوق: أنا أحبك.
ووشى صوته بخوف: أخشى من عدوى الكوليرا!
تحركت أنفاس الوباء الغامض، الغريب، في الشوارع والميادين والحواري والبيوت والدكاكين، وفي جلسات القهاوي، وعلى الشاطئ. وخلا شارع الميدان من الباعة، وملأت عربة المبيدات الجو بغلالات بيضاء، متوالية.
تحدث إمام أبو العباس في درس المغرب، عن فوائد الليمون في الوقاية من المرض. وقال الشيخ عبد الحفيظ إمام جامع علي تمراز في خطبة الجمعة، إن ما يحدث سببه نسيان الله والدين والشرع، والإقبال على الدنيا بالحق والباطل. وقال: لقد أصبحنا محاصرين بالموت، ولا نجاة سوى بالإخلاص في التوجه إلى الله، إن لم يأتنا فضل من اللطيف الرحيم، فإن تحلل الجسد في الجير الملتهب نهاية تنتظر أجسامنا.
وحذر من أن الشوطة ربما تأخذ الناس كلها، وتقوم القيامة!
تعالت التحذيرات من أكل الجندوفلي وأم الخلول والجمبري، وعانى عم محمد الطوشي كساد بضاعته، فلزم قهوة كشك، لا يغادرها.
لم يعد عبد الوهاب مرزوق يطيق رؤية الذباب. ذبابة واحدة قد تنقل الوباء إلى أسرته كلها، ووزع أقراص الدواء على جلساء قهوة الزردوني.
تلاحقت أمواج التنبيهات والترقب والخوف والتدافع. تصاعد البخور، يخفي البنايات والناس والأشياء.
قال قاسم الغرياني: حتى الرجل الطيب الحاج محمد صبرة، أخذته لوثة، فراح يعمل بمقصه في الهواء أمام الدكان.
وداخل صوته إشفاق: المسكين! … يريد أن يقص الميكروبات قبل أن تدخل دكانه!
تزاحم الناس — طلبًا للمصل الواقي — على مستشفى الملكة نازلي، ومكتب الصحة بشارع فرنسا، ومستشفى رأس التين. تزايد الضغط، فانفرطت الصفوف. علت الصيحات والصرخات أمام الباب المغلق، لا يفتح إلا لاستقبال خمسة أشخاص، يظل مغلقًا حتى يحصلوا على الطعم، فيفتح الباب لخمسة آخرين.
قال صابر الشبلنجي: أنا لم آخذ الطعم، ولا زلت حيًّا، مع أني لا أغسل حتى يدي.
بصق حمودة هلول ناحيته: الله يقرفك!
قال صابر في دهشة: ولماذا الطعم؟ … المرض إذا دخل الجسم لن يستطيع الأطباء فعل أي شيء!
منع حمام الأنفوشي تردد الصيادين عليه. قصر دخوله على الموظفين وتلاميذ المدارس للاستحمام، ولتطهير ملابسهم اتقاءً للوباء. يصرفون لكل مستحم صابونة، لا يعيدها. اكتفى الرجال بالنزول إلى البحر.
ضربت أم عادل صدرها بيدها: ابني لا يذهب إلى حمام الحكومة.
قال عبد الوهاب مرزوق: كل الأولاد يذهبون.
وهي تنفض الفراغ: إلا ابني!
تغيرت سحنته بضيق: على رأسه ريشة؟!
– إنه ليس وسخًا لينظفوه.
قال الحاج محمد صبرة: هذه أفاعيل الإنجليز … وإلا لماذا ظهرت في القرين أولًا؟!
قال المعلم أحمد الزردوني: قيل إن متعهدي نقل الزبالة باعوها للناس.
قال الحاج محمد صبرة: الإنجليز يعرفون ذلك … وقد دسُّوا المرض في الزبالة.
ثم بلهجة ناصحة: أنا أغسل كل شيء بالبرمنجانات.
قال المعلم أحمد الزردوني: والماء؟ … قيل إن التلوث أصابه.
قال الحاج محمد صبرة: أنا أغلي للماء أولًا … ثم أتركه يبرد.
قال الجد السخاوي: بركة الأولياء ستنقذنا من هذه الشوطة، مثلما أنقذتنا من حرب هتلر.
تسللت رائحة البخور، قوية، نفاذة، من تحت الأبواب، وأخصة النوافذ، وشقوق الجدران، تملأ الجو والفراغات المغلقة، تتسلل داخل الأجسام المتعبة، الخائفة. تزايدت، واتسعت، حلقات الذكر. علت الأصوات بالوجد والخوف والأدعية. ضاقت ساحات الجوامع بالمصلين. فُرشت الحصر في الميادين والشوارع الجانبية.
صعد الشيخ قرشي قارئ جامع سيدي علي تمراز إلى أعلى المئذنة، وأذن في غير وقت. ثم دعا الله برفع الوباء. قلَّده — في اليوم نفسه، وفي الأيام التالية — قارئو جوامع الحي. حتى الزوايا، صعد إلى أسطحها من أذن، ودعا إلى رفع المقت والغضب عن عباد الله الصالحين.
فرد جابر برغوت ورقة أمامه. كتب عليها أدعية وإشارات وأسماء الله الحسنى وأسماء بعض الملائكة وآيات من القرآن الكريم. ورسم أشكالًا للإنس والجان والحيوان ومربعات سحرية.
رأى جابر برغوت سلطان الإسكندرية يقف أعلى المئذنة، يطل — بنظرة مشفقة — على بحري الساكن، المضطرم، من تحته. راح يهز راحتيه إلى أسفل، ويرفعهما، وهو يتمتم بدعوات غابت في الفضاء الممتد. ثم مسح على جبهته، ودخل إلى المئذنة، فلم يظهر بعدها.
أيدَّ رواية جابر برغوت رجال ونساء، تصادف مرورهم في الميدان، أو كانوا جالسين في الحديقة المقابلة للجامع، أو في القهوة على ناصية شارع التتويج.
قيل إن الشوطة ابتلعت المئات في المدن والقرى البعيدة. منع بركات السلطان دخول الشوطة من مديرية البحيرة. ظلت الإسكندرية آمنة، حتى زالت الشوطة من البلاد كلها.
•••
لحقه صوت صابر الشبلنجي وهو يتجه إلى قلب السيالة: البقية في حياتك!
– من؟
قال الشبلنجي في نبرة متصعبة: مصطفى عباس الخوالقة.
هتف قاسم الغرياني: معقول؟!
في تصعبه: مات عند أخواله في دمنهور.
وأغمض عينيه: الشوطة!
نطق الألم في وجه الغرياني: ماذا كان يفعل هناك؟
قال الشبلنجي: ضايقته قلة الشغل في الحلقة … فسافر إلى أخواله …
وتنهد: ليموت عندهم.
ثم وهو يغالب التأثر: عمره!