الخدمة في ساحة الطهر
«لو كشف عن نور المؤمن العاصي لطبق ما بين السماء والأرض. وأما الأنوار التي أذن لها في الدخول، فهي خاصة بالخواص أهل التفرغ من الأغيار … فأما من كان قلبه محشوًّا بصور آثارها، فلا يطمع في نيل أسرارها.»
ميَّزته — في غبشة الظلام — وهو يميل من ميدان الأئمة إلى شارع ابن وقيع. تبعته — كما ألفت في الأشهر الأخيرة — لاحقته — في مشاويره القليلة — بين البيت وزاوية الأعرج وأبو العباس. تتوقف إذا توقف لشراء ما يحتاجه من الباعة في ميدان الأئمة. فطن إلى خطواتها المتمسحة في الأرض. اتجه ناحيتها بنظرة مشفقة: سيكون خيرًا يا تفاحة.
تهدج صوتها باللهفة: هل وافق سيدي؟
أعاد القول: سيكون خيرًا.
عملت — لأعوام — رداحة. تتقاضى المعلوم، وتقف أمام البيوت، أو تحت النوافذ والبلكونات. ترفع صوتها على آخره — مع إشارات وحركات بأصابعها ويديها وساقيها وكل جسمها — بعبارات متلاحقة من الشتم والسب والمعايرة. حفظت الكثير من التعبيرات القاسية، والفجة، والبذيئة، لا يشغلها من توجِّه إليه سبابها. تواجهه بما لا يقوى على رده. تطلق السباب أو الشتائم. تسجع العبارات، تنغمها، تمطها. تردح بمفردها. لا يعاونها أحد. ربما استعانت بطبالة ترافق ردحها بإيقاع منتظم. وقيل إن حمادة بك لجأ إليها للصوات في مأتم أمه. كانت تدرك أنها ربما تتجاوز الردح إلى للدخول في خناقة. تعتمد على قوتها في رد المفاجأة. تحرص فلا تجاوز إحداث سحجات وكدمات وجروح سطحية وتورم. لم تكن تزيد عن الردح إلا إذا انفتح باب البيت، وواجهت من يريد إسكاتها. تتهمه بخدش عفتها إن كان رجلًا. فإن خافت قوته، قبضت على خصيته بيدها، تعتصرها، فتدفعه إلى التهاوي على ركبتيه. حين لا تكون في قوة المرأة التي تردح لها، تمد أصبعيها في فمها. تسحب من تحت لسانها شفرة حلاقة. تلوح بها في وجه المرأة. تفاجئها — ثانية — عندما تجري بالشفرة على خدها، فينتتر الدم. قد تلجأ إلى الخفة: تفاجئ المرأة بشد شعرها، تقع المرأة على الأرض، فتبرك فوقها، تخمشها وتعضها وتضربها بآخر ما عندها. أخفى الناس عنها خصوصياتهم، فلا تحصل على ما قد تستخدمه ضدهم.
أخطأت لما وقفت أمام بيت حسن درويش، صاحب وكالة الاستيراد والتصدير بشارع الميدان. خرج لها نساؤه. أحطن بها، ولوين ذراعها، قبل أن تفعل ما تتهمهن به. لم يتركنها إلا بعد أن أقسمت على الشمس الحرة إنها ستهجر الردح!
جلست — أشهر الدراسة — أمام مدرسة البوصيري الأولية، تبيع للأولاد العسلية والنبق والدوم. ثم لفت جسمها برداء أسود، والتفت بشال أسود، وجلست في ميدان المساجد. لا تستقر في مكان بالذات، لصق جدار المرسي، أو أمام باب ياقوت العرش، أو على سلالم البوصيري المفضية إلى شارع التتويج.
لا يذكر الناس كيف بدأ سعيها وراء الشيخ يوسف بدوي. اعتادوا — وإن غابت البداية — سيرها وراءه من البيت في شارع ابن وقيع، إلى ياقوت العرش، ورجوعه إلى البيت عقب صلاة العشاء. تلزم الرصيف بالقرب من باب الجامع. تسند ذقنها على يدها، لا ترفض الإحسان، وإن حرصت ألا تسأل.
ألف مريدو الشيخ ترددها عليه. تسأله في أمور دينها ودنياها. تظل واقفة بجوار الضريح حتى يراها. يستأذن من جلسائه ويتجه إليها. تسأله ويجيب. لا تطيل سؤالها، ولا يطيل جوابه. يعود إلى جلسائه، فيثني على إيمانها وذكاء أسئلتها، ويتمنى أن يكون هذا هو حال نساء المسلمين. صلاحها أكسبها حريتها، بعد أن كانت تبيع قوتها وجرأتها لمن يدفع الثمن. صدفت عن فكرة الزواج، وانقطعت عن أسباب الحياة الدنيا. راقبت حياة الشيخ، فأزمعت أن تظل بالقرب منه. لم تسأل نفسها: ماذا بعد؟
تملكها بقوة غيبية، عجزت عن مغالبتها. أظهرت الخدمة والملازمة، فلم تتحول عن باب بيته. لازمته ملازمة المريد الصادق لشيخه العارف، يسير في ضوء تربيته، وينهج طريقه لا يحيد عنه.
عرف عنها صدها لمن طلبوا الزواج منها. ترفض دون أن تسأل عن الاسم ولا المظهر ولا المكانة الاجتماعية، كأنها مشغولة بمن لا يعرفه أحد. حين ألح عليها بصري حميدة، الفاكهاني بأول شارع الموازيني للزواج منه، وافقت. بدا لها الزواج من يوسف بدوي أملًا مستحيلًا، لما دخل عليها بصري، جاءها الحيض. انتظر أسبوعًا وهمَّ بها، فجاءها الحيض. تكرر الأمر حتى أدركت أنها مكتوبة للشيخ يوسف بدوي، فطلبت الطلاق من زوجها، وعادت إلى ملازمة الشيخ. ثم فاجأت الجميع بزواجها من الشيخ. انتظرته على درجات أبو العباس المفضية إلى ميدان المساجد.
لحقته بالهمس: سيدي.
تنبه لثالث نداء: هل تقصدينني؟
قطر صوتها بالمسكنة: تحتاج لمن يخدمك.
حدجها بنظرة متوجسة: هل أرسلك أحد؟
ربتت صدرها براحتها: بل أتيت من نفسي.
وهمست: خادمتك تفاحة.
وهو يحك ذقنه بأظافره: بيتي صغير … ولا مكان فيه للنساء!
رفت على شفتيها ابتسامة متذللة: أريد دخول بيتك بالحلال.
أطال النظر في ملامحها، تحت النور الذي تريقه اللمبة الهائلة في مدخل الباب. بدت في حوالي الثلاثين. حبكت الملاءة حول جسمها، وإن ناقضت حمرة صبغة شعرها بشرتها السمراء. عيناها سوداوان، تطلان من رموش طويلة، يعلوهما حاجبان أجادت رسمهما، وجسمها أقرب إلى الامتلاء، يتسق مع طولها البادي.
قال: ربما لا أتفرغ لحياتي كزوج كما ينبغي.
همست باللهفة: وأنا أريد أن أتبعك في تفرغك لعبادة الله!
لم يرد على قول المرأة، ولا أخذ منها أو أعطى. اكتفى بالقول: فعل الله الخير!
وهبط الدرجات إلى الميدان الواسع.
أخذ عليها العهد، لا تفارقه أينما حل وذهب. تنصرف إلى عبادة الله وخدمة الطريقة. تصبح واحدة من أهل الطريق، يجري عليها ما يجري على مريديه، فلا تسأل ولا تعترض، وتحيا معه كأنها ميتة. أذن لها في صلاة استخارة، لا خيار لها بعدها. تنذر نفسها لله، يتصرف فيها على النحو الذي تقضي به مشيئته.
قبلت الحياة في بيت الشيخ دون زواج. تخدمه، وتخدم مريديه، لا تحصل إلا على طعامها. تأكل بعد أن يفرغ الشيخ من الأكل. تسأله ويجيب، يشرح ما قد يغمض عنها من حقائق. يرقى بتصورها درجات التصوف، ولا ترى فيه ما تشتهيه امرأة من رجل. غاب التفسير المحدد لهجر المرأة حياتها. التصاقها بالشيخ كالظل بزواج أو بدونه. حتى نبرة صوتها المرتفعة — ألفها أبناء بحري — خفتت، فصارت كالهمس. تنفذ ما تطلبه عيناه، أو إشارة يده. فنيت في الوصال، فصارت مقبولة منه. خمن أنها لم تكن عابثة ولا ماجنة، ثم مالت — من بعد — إلى حياة الزهد. هي — في الأصل — طيبة، لم تمارس الردح إلا كمهنة تتكسب منها، كسبيل لتحياه. ألم تكن رابعة العدوية بائعة هوى؟
لما آن أوان التوبة، أنابت، وأصلحت، وعاشت متبتلة. عرفت الطريق إلى احتمال العبادات، وملازمة الأذكار، والسلوك بأسرار الحروف. وكانت تنخرط في صلاتها بالكلية، فتستغرقها. صار لها أوراد وسياحات وكشف، وغيرها من الخصوصيات.
ما يمنع أن تصدق المرأة في توبتها، وتطهر روحها من العذابات؟
قالت في لهجة مستغيثة: هل يتوب الله عليَّ؟
قال يوسف بدوي: أنت لم ترتكبي كبيرة … إنما هي وسيلة عيش اضطررت إليها.
وهي تغطي وجهها براحتها: آذيت ناسًا كثيرين.
ضحك، وقال: إنها أذية إنسان … تضيع إذا تلقفها الهواء!
أسقط من أذنيه الهمسات: إن المرأة مضت في طريق الشهوات إلى غير نهاية، واقتاتت بأذية الناس، وتطرفت في حبها للدنيا. غاب في أقوالها ما يشي باتصال حكاياتها المشهورة بما تشعر به، فهي قد استظلت تحت رواق الندم، وأفلحت في قتل الأغيار: الوجود والنفس والشيطان. أيقن أن العدوانية التي امتلكتها المرأة لم تكن وليدة ذاتها. ولَّدتها، ودفعتها، ظروف لا حيلة لها فيها.
ضايقه — في لحظات كالومضة — تبدل نظرته للمرأة، وتغير تصرفاته نحوها. يعروه ارتباك لاقترابها ولأسئلتها. يخمن انعكاس نظرات الرجال من حوله. هو لم يسعَ إلى الجمال. الجمال أتى إليه. وقف عند بابه. لم يقدم نفسه بالإغراء ولا الفحش. عرض الخضوع والمسكنة والخدمة في ساحة الطهر. ربما الجمال الحسي — كما ذهب أوائل الطريق — باب الدخول إلى الجمال المطلق. التجليات مقيدة في الصور المحسوسة. تنطلق إلى عالم الملكوت بفيوضه، ووجده، ومدده. ترتقي من درجة الحسن المحسوس إلى مرتبة الجمال المطلق.
افتر فمه عن ابتسامة ودود، مشفقة: لا يريد الله إلا الخير!