صلاة الجنازة
دعا إمام أبو العباس، في خطبة الجمعة، لخوض الحرب. تلا آية القرآن: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ. وتلا: ووَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ.
بعد أن أتم المصلون قراءة التحيات، وتهيَّئُوا للانصراف، لحقهم صوت الإمام: خمس دقائق.
أضاف للتساؤل في الأعين: سنصلي صلاة الجنازة على الشهيد عبد القادر الحسيني.
تبادل المصلون النظرات. أقلهم كان يعرف الحسيني. معظمهم لم يكن يعرف من هو. كانت الأحاديث تتناثر عن قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين، وما تلاه من معارك بين الفلسطينيين واليهود. وانضمام عبد العال، ابن صياد الجرافة نصر الساعاتي، إلى قوات الإخوان المسلمين التي ذهبت للوقوف إلى جانب الفلسطينيين.
قال عبد الوهاب مرزوق — في قهوة الزردوني — لتساؤل محيي قبطان: إنه قائد فلسطيني قتله اليهود.
قال محيي قبطان: وهل هو أول قائد فلسطيني يُقتل؟
قال عبد الوهاب مرزوق: الحسيني ليس قائدًا عاديًّا … كان اليهود يضعون له ألف حساب.
– لماذا لم يأخذ حذره؟
– دافع عن مدينة اسمها القسطل بمئات من العرب في مواجهة الآلاف من اليهود.
لمح الجد السخاوي صابر الشبلنجي قادمًا من شارع السيالة. اتجه إليه بنظرة غاضبة: هل أصبح البحر حمامًا للخيل؟
قال صابر للنظرات المتسائلة: عفَّر التراب جسم الحصان، فغسلته في البحر.
قال محيي قبطان: المياه طاهرة … حرام أن توسِّخها بحصانك.
قال صابر: لكن الناس يستحمون.
قال محيي: هل تساوي الخيل بالناس؟!
قال صابر: حصاني أنظف من أي بني آدم!
قال الجد السخاوي: أنت قليل الأدب!
وجرى بيده على وجهه، فبدا كفاه المعروقان: ميمون فرس الرسول ﷺ هي وحدها التي لا تلوث البحر إن نزلته … فهي من المسك الأبيض والأذفر، وجناحاها من الدرر والمرجان.
خالط صوت الغرياني نبرة مؤنبة: لماذا فعلت ذلك؟ … نحن نحيا على رزق الماء!
قال الجد السخاوي: وماذا كنت تفعل لو ظل قرار منع النزول إلى الأنفوشي ساريًا بعد انتهاء الحرب؟!
قال في استهانة: لو من عمل الشيطان.
قال الجد السخاوي: المكابرة هي ما تعرفه.
وعلا صوته في غضب: الماء طاهر … والطهارة لا تقبل إلا النفوس الطاهرة!
وقطَّب حاجبيه، فتكرمشت جبهته: من يعصي الله في البحر، فهو يعصاه على أجنحة الملائكة؟
ثم وهو يشيح بوجهه بعيدًا: جزاء المعصية في البحر أضعاف جزائها في البر!
علا صوت إسماعيل سعفان كالمفاجأة: البحر طاهر؟ … كيف؟! … إنه غول مفترس!
وتداخلت في صوته بحة غريبة: بحركم لا قلب له! … ابتلع البهاء فقتلني!
قال المعلم أحمد الزردوني: المؤمن مصاب!
كان البهاء قد أحكم تقييده في الأيام الأخيرة. بدأت الكلمات هامسة. تأتي من المطبخ، أو من الحمام. ربما استمع إليها في داخل الشقة، وهو يضع المفتاح في الباب. جاوزت الهمس فيما بعد. علت بما لا يقوى على سماعه. كأنها الزعيق الصاخب. القهقهات العالية، المتوالية، تخترق أذنه، فتربكه. قال له الولد سمير بن خميس شعبان إن البهاء كان يجاهد حتى لا يغرق، ويصيح بصوت سمعه الجميع: الحقني يابا!
ظل الصوت يطارده. لو أنه كان واقفًا، ماذا كان يفعل؟ هو لا يحسن العوم، لكنه كان سينزل إلى الماء، وكان لا بد أن ينقذ البهاء. وظل الصوت يطارده.
عوده الفاره زاد نحافة، وبرزت عظام وجهه، وانسدل شعره المهوش على جبهته وقفاه، وانطفأ التماع عينيه، وغابت نظرته عما حوله، وأهمل شاربه فتدلى على فمه، وثمة رعدة خفيفة تسري في وجهه من العين إلى الذقن، تمتد إلى العنق فيبدو كمن يهم بالالتفات. وكان يرتدي جلبابًا حائل اللون، له فتحة في الصدر، تبرز منه فانلة متآكلة الأطراف، ويدس قدميه في قبقاب خشبي، يصدر — إذا سار — صوتًا ذا إيقاع.
انتفض خميس شعبان لمفاجأة لسان اللهب، أطلقه الحاوي الواقف أمام القهوة، من فمه.
هتف محيي قبطان: كدت تقتل الرجل بنارك الملعونة.
واتجه إلى خميس شعبان بنظرة مشفقة: وماذا ستفعل في نار الآخرة؟
قال خميس شعبان: نار الآخرة أعدها الله لأمثالك!
قال عبد الوهاب مرزوق: قلبي يحدثني أن الإخوان المسلمين ذهبوا إلى فلسطين للاستيلاء على القاهرة.
علا حاجبا عباس الخوالقة بالدهشة: فزورة؟!
– الحرب فرصة لتحويل المتطوعين إلى جيش مزود بالأسلحة، يدخلون به القاهرة.
هز الخوالقة رأسه، وأشاح بيده: ياه … أنت تذهب إلى بعيد!