بركة …
١
صعد حمودة هلول البلانس بالقطة ذات صباح.
كنا نتهيأ للإقلاع. ملاحظة الجد السخاوي في رحلة العودة، أن الفئران زادت في البلانس. أتلفت الحبال والشباك وهيكل البلانس نفسه. تعلمنا ألا ننطق اسمها فهو شؤم. نكنيها بالملعونة والمصيبة واللي ما تتسماش.
بدت القطة في حضن حمودة هادئة، مستكينة.
أطلقها.
جرت — بحيرة الغربة — عن المكان. ثم لانت بأسفل الدفة.
لم يثر الجد السخاوي — كما توقعنا — لم يعلُ صوته بالغضب، وهو يرى القطة تندفع من يد هلول إلى حيث اختفت.
قال هلول: نغلق الثلاجة على السمك.
علا صوت الجد السخاوي: كيف أضع البنزين بجانب النار؟
قال هلول: أنا أشعل سيجارتي في محطة البنزين ما دام التنك مغلقًا.
قال الجد السخاوي: هذا كلام لا أفهمه … أنبوبة سم فئران تكفي لحل المشكلة.
قال قاسم الغرياني مهونًا: القطة في المركب … إذا فعلت ما لا نتوقعه، أغلقنا عليها حتى نعود.
نسيناها — لساعات — قبل أن تظهر. تحاول التثبت من نيات الأعين والأقدام، ثم تجري إلى الركن الذي اختارته. وضع لها حمودة هلول قطعًا من الخبز في طبق لبن، ونادى عليها: بسسسس. أطلت من ركنها في حذر. ليطمئنها، وضع الطبق على مسافة منها، وانصرف. تكرر خروجها من الركن، ثم لم تعد تجري من أمامنا. فاجأت قاسم الغرياني — وفاجأتنا — لما تمسحت به وهو يتمدد على سطح البلانس. ربت الغرياني شعرها. رفعت ذيلها، هزته، ماءت، استكانت في مكانها. انشغلنا برعايتها، وأحببناها. أبدى الغرياني قرفه حين رآها تلاعب فأرًا بفمها.
قال حمودة هلول: لهذا أتيت بها.
ثم قال مستغربًا: إنها لن تشاركك طعامك!
قال قاسم الغرياني لحمودة هلول: ما اسم القطة؟
أردف للدهشة المتسائلة في عيني هلول: أليس لها اسم؟
قال محيي قبطان: فلنسمها بركة … لتبارك البلانس.
۲
ألفنا رؤيتها وهي تصيد الفئران؛ تلاعب الفأر، تجتذبه بنظراتها، فلا يقاوم، تضعه في فمها، تقذفه، تناوشه بقدمها، تعيده إلى فمها. نتوهم أنها ستأكله، لكنها تسقطه، وتلحقه بيديها. ترفع يديها، فيتوهم النجاة ويجري. تطوله بقفزة واحدة، تدحرجه أمامها وهو يصوصو، ثم تمسكه بأسنانها. تجري به إلى دروة. لا نراها وهي تأكله.
٣
في ثالث يوم اختفت الفئران. لم نعد نراها على سطح البلانس، ولا في الكابينة، أو البريدج، ولا في المخزن. لم تعد قطة حمودة هلول، لكنها صارت قطة البلانس، قطتنا كلنا، تلبي من يعلو فمه بالنداء بسسسس، لا تتلفت حولها — كما كان من قبل — خائفة، وتظل نائمة في الموضع الذي تختاره، لا يشغلها صوت الأقدام المارة جانبها.
خالف الجد السخاوي توقعات الرجال. جعل القطة اهتمامه: مواء بركة نذير شؤم … القطة تموء «نو»، والنو هي النوة، والنوة شر … بركة مريضة، فهذا يعني أن الخطر يتهدد السفينة كلها … بركة تمر من يمينه، فهذا دليل خطر قادم … بركة تمر من يساره، فهذا نذير شؤم … بركة تواصل القرقرة، فهو بشير بصيد ثمين … بركة تلحس شفتيها في الحائط فهي تنبئ بالطقس المعتدل. وإذا كان الحائط قبالة الشرق، فإن الطقس سيكون رديئًا. وإذا كان قبالة الغرب، فإن الشمس الساطعة ستظل مشرقة. حتى الشكل الذي تتخذه القطة في نومها، يشي بالمجهول والمتوقع. إذا كانت دورة جسمها مطابقة لاتجاه عقارب الساعة، فهذا نذير شؤم. إذا اتخذت الاتجاه المقابل، فهذا بشير خير. القرقرة التي تصدر منها وهي نائمة، بسملة وتشهد وأدعية.
لما جمعنا أول سرحة، تقافزت القطة حول الشبكة. التقطت بفمها سمكة بوري كبيرة، وجرت. اختفت وراء البريدج.
قال الجد السخاوي: هل نصطاد السمك لتأكله القطة؟
قال حمودة هلول: نلقي لها سمكة أو اثنتين … ثم نضع السرحة في الطبالي ونودعها المخزن.
حرصنا — فور لم السرحة — على وضعها في الطبالي. نضع الثلج على السمك، نرص الطبالي في المخزن، نتأكد من إغلاق الباب.
٤
صرخ حمودة هلول في قاسم الغرياني، لما رآه يسلط خرطوم الماء على القطة: حرام عليك!
قال الغرياني: أنا أنظفها.
وهو يجز أسنانه: الماء يقتلها يا غبي.
قال الغرياني: وكيف تستحم؟
قال هلول: ألا تعرف أن القطة تنظف جسمها بلسانها؟!
٥
في رحلة تالية، صعد محيي قبطان البلانس وعلى صدره قط غير: حرام أن تظل بركة بلا زوج!
امتلأ البلانس بالكثير من القطط. جرت، ونطت، وتقافزت وخربشت الجدران، واسترخت في الشمس، وحاولت اللعب بكل ما يتحرك. اعتدنا مواءها، وقرقرتها، وتمسحها بسيقاننا، ونومها على أغطيتنا أيام البرد.
٦
أسرعنا — ذات صباح — على نداء قاسم الغرياني.
كان يمسك بذيل بركة الساكنة، يقلبها أمام عينيه: لا يبدو أنها أصيبت بمرض.
سأل حمودة هلول متوجسًا: ماذا بها؟
قال الغرياني: كما ترى … ماتت! رأيتها ساكنة أسفل الصاري.
قال الجد السخاوي: السرحة أُلغيت.
سأل حمودة هلول: لماذا؟
قال الجد السخاوي: كنا نعود لصعود قطة على البلانس … فهل نظل في البحر مع قطة ميتة؟!
قذف الغرياني بالقطة الميتة في الماء: لم تعد بركة معنا.
قال الجد السخاوي وهو يتجه ناحية الكابينة: فلنعد إلى الإسكندرية.
أهمل الأسئلة، وشخط ونطر. خالط صوته حشرجة غريبة، كأنه يعاني. زاغت عيناه كمن ينتظر مجهولًا يغيب مصدره. لم يعد الجد السخاوي الذي نعرفه. لم يعد الطيبة والمودة والمؤانسة. تغيرت ملامحه، وتحركت يداه في غير موضع. الدفة والصاري والقلوع والأشرعة والبوصلة وقوارب الإنقاذ التي كانت معدة لحملنا — إذا غرق البلانس — إلى الشاطئ.
حل في نفوسنا الخوف بالعدوى. توقعنا شرًّا لا نقوى على مغالبته: نجمًا بذيل يصعق البلانس، فيحرقه عن آخره. عاصفة مفاجئة تغرقه بمن فيه.
هتف قاسم الغرياني: هل يعيدنا إلى البر موت قطة؟!
علا صوت الجد السخاوي: اعدل الدفة يا هلول.
قال الغرياني: بعدنا عن الإسكندرية بزمن.
وهو يلوح بسبابته: ولو!
حدجه بنظرة مستغربة: هل نعود بلا صيد؟!
قال السخاوي: يكفي أن نعود بأرواحنا.
وما يمنعنا من مواصلة الرحلة؟
أطل في عيني السخاوي خوف واضح: إذا ماتت قطة في مركب، فهذا نذير شؤم.
هز الغرياني كتفيه: خرافات لا معنى لها.
قال السخاوي: معتقدات نشأنا على احترامها.
في صوت يرعشه الغضب: هل نطعم أولادنا من معتقداتك؟!
نقر السخاوي على حاجز البلانس بأصابع متوترة: أفضل من ألا تعود إليهم.
صرخ الغرياني: أنت مجنون!
وشت بربشة عينيه بانفعاله. ضغط بالمتبقي من أسنانه على شفته السفلى، وحوَّل وجهه إلى الناحية الأخرى. غاب — في اللحظة التالية — عن السماع، وعن كل ما حوله.
ارتفق جانب البلانس، يتطلع إلى نهاية الأفق، يتعجل الخط الرمادي الشاحب. تتصاعد تفصيلاته: الشاطئ، والرمال، وورش المراكب والبيوت المطلة على الكورنيش، ومئذنة أبو العباس في مدى الرؤية.
انتقل الخوف في ملامحه إلى نفوسنا. نتوقع خطرًا لا ندري مصدره. حتى قاسم الغرياني أسكت ملاحظاته. بدا الخطر احتمالًا وحيدًا، قادمًا أهملنا الاعتراض، وإلقاء الأسئلة. تركنا للجد السخاوي التصرف، بصمتنا وتنفيذ أوامره.