الغابة في الإسطبل
ضوء اللمبة نمرة خمسة، يتراقص من هبات الريح، يصنع على الجدار ظلالًا وتكوينات. يصنع لها صابر الشبلنجي — بإطالة التأمل — ملامح لبشر وحيوان وأشجار.
كان مستلقيًا على ظهره، مفرجًا ما بين ساقيه. عيناه مفتوحتان ترنوان إلى سقف الإسطبل. يرفض — حتى في عز الشتاء — أن يرتدي ثوبًا بأكمام. ربما اكتفى بالصديري، وإن ارتدى تحته فانلة من الصوف. يصعب عليه الحركة وهو مقيد الذراعين.
هل مات التميمي؟
لاحظ أن الحصان كان يكثر من هز رأسه، وهو مربوط. تذكر أن ما حدث كان علامة على قرب موت الرجل.
أمرت الست جمالات، فقص صابر ذيل المهلب، ووضع الشعر على السرج، وتقدمت الفرس الجنازة بهذه الصورة. شيَّعه القلة ممن تصادف وجودهم في قهوة مخيمخ — ساعة الظهيرة — إلى مقابر العامود.
عاب الشيخ عوض مفتاح على التميمي، أنه أطلق العنان لشهواته، وانصرف إلى الاغتراف من معين اللذة، دون أن يردعه خوف من عقاب. قيل إن وفاته كانت لإفراطه في الجماع. أصرت المرأة أن تأخذ حقها — في ليالٍ متوالية — حتى تسلمته الأمراض، ومات. وقيل إنه دخل جامع ياقوت العرش وهو مسطول، فأغصب ولي الله عليه. صلى عليه صلاة الجنازة. مات لتوه. وحين روى للشيخ صلاح البوشي، قارئ سيدي نصر الدين، أنه رأى في المنام، أنه يخرج من بيته بعافيته، ولا يخاطب أحدًا، أدرك الشيخ البوشي — وإن لم يصارحه — أنه سيموت.
داخله هدوء لا يدري بواعثه. لم تعد تشغله توقعات المستقبل، ولا إن كان سيظل في الإسطبل، أم تسرحه المرأة؟ اطمأن إلى طلب جمالات بأن يظل في عمله.
قالت: فليظل العمل في الإسطبل كما هو … أنت أدرى به مني!
رفع رأسه، واتجه بعينيه إلى داخل البيت، يحاول أن يتلصص: ماذا تفعل المرأة الآن؟
أغلق التميمي باب البيت المطل على شارع سيدي كظمان، وفتح بابًا ونوافذ خلف البيت، تطل على داخل الإسطبل.
واجهة البيت سلم حجري، بدرابزين. يفضي إلى صالة مستطيلة تتوسط أربع حجرات، والمطبخ، والحمام، ودورة المياه على الإسطبل. وتطل الحجرتان الأخريان على شارع سيدي كظمان. مغلقتان دائمًا، فهو لا يدري ما بهما. أما الحجرتان اللتان تطلان على داخل الإسطبل، فإحداهما للنوم. بها سرير نحاسي بأعمدة، وناموسية تمنع الحشرات الطائرة، في المقابل دولاب كبير بمرآتين في ضلفتيه. والثانية للقعاد، يقضي فيها المنزلاوي وجمالات يومهما. بها كنبة استامبولي. وعلى الأرض كليم أسيوطي. تتوسط السقف نافذة مفتوحة، استجلابًا للهواء النقي. رصت على حافتها أصص العتر والريحان والقرنفل، تلاصقها صينية القلل. على الجدران ساعة ببندول، وصور لنجوم التمثيل والغناء، ورسوم مستوحاة من السير الشعبية: عنترة يمضي بالنوق البيض إلى ديار عبلة، والهلالي يصارع الزناتي، وسيف بن ذي يزن يشهر سيفه. في المنتصف ترابيزة يحيط بها ثمانية مقاعد، جميعها مشغولة بالأرابيسك.
حدج النافذة المفتوحة بنظرة متأملة: كنت أداري على التميمي تصرفات المرأة، فعلى من أداري بعد الآن؟
وتنهد: هذه امرأة خلقت للمضاجعة!
لم يتصور أنها — مثل بقية النساء — تطبخ وتكنس وتمسح وترعى الأطفال. تصورها في خياله وهي نائمة، وهي تتعرى، وهي تستعد للعناق، وهي تخلي ساقيها، وهي تقضي الأوقات في الاستحمام والتزين.
هل أُخلصت للجنس وحده، دون تبعات تتصل به؟
كانت في حوالي الخامسة والثلاثين. ذات جسم رجراج، قسماته مؤكدة. فالبروز واضح في الصدر والبطن والردفين، والشفتان ممتلئتان. والعينان سوداوان مكحولتان، والبشرة سمراء صافية، والشعر أسود ناعم طويل، تركت خصلات منه تنسدل على جبهتها، ولها حسنة أشبه بالخال على وجنتها.
يثيره نزولها من الحانطور، وصعودها سلم البيت. الخلخال الذهبي يحيط بساقيها الممتلئتين، والكعب الوردي يلتصق بالشبشب ذي الكعب العالي، وينفرج بآلية رتيبة، منغمة.
كانت تنام إلى الضحى. تفتح النافذة المطلة على الإسطبل، تجفف شعرها المبلول، تتأمل الإسطبل بعينين تغالبان النعاس. يزداد جمالها في ملامحها المتناومة. لا يختفي بخلو وجهها من المساحيق. تبدو أجمل في الملامح المتكاسلة، وفوضى شعر الرأس على وجهها وعنقها وصدرها، وحمالتا قميص النوم تنزلقان على الذراعين. يشده وميض في عينيها، يشعل أعماقه بما لا يقوى على احتماله. يفر من التقاء النظرات، أو يجاهر بتثبيت نظراته. تفجؤه بابتسامة مستهينة، تذوي الصخب في داخله، فينصرف إلى شيء يشغله.
لاحظ أنها لم تعد تغير قميص النوم الشفاف. ولاحظ نظراتها الثابتة التي ترافق كلامها له، جري أصابعها على صدرها وبطنها، التشكي من لدغ الحشرات، رفع ساقها لتهرش موضع اللدغة، البحة في صوتها، الأف الطويلة، الممطوطة، من حرارة الجو، والفأفأة من البرد، التثني والتأود، مضغ اللبانة، تحريك الحاجبين.
تخيلها بثياب شفافة وهي تتعرى، وهي في حضنه، وهي تصرخ، وهي تتأوه، وهي تدلي شفتها السفلى كما ألف رؤيتها عندما تغادر بيت الأسطى فتحي، وهي تطلعه على الأسرار والألغاز والأحاجي، وتجوس به الغابة الوحشية، وهي تنزل من الحانطور، تبين الانحناءات والتكورات في ردفيها، في ميلها إلى أسفل، وهي تناوله يدها في صعودها الحانطور. الملمس الناعم الطري. لحظة تصخب فيها الرعود، وتومض البروق، وتثور البراكين. يحس بلسعة النار عندما تلامس أصابعها يده.
استبقت يدها، حين مد يده ليعينها على الصعود إلى العربة. لم يفهم المعنى وقتها، لكنه يفهمه الآن.
لما نادته: يا صبورة، أدرك أنها توارب الباب.
تصاعدت الخواطر المحمومة من داخله. أجهده التطلع إلى النافذة، والتصورات … ما ينبغي — وما لا ينبغي — قوله. الأفعال، وردود الأفعال، ومحاولة كتم الحمم المشتعلة داخل البركان، وصراخ الحيوانات تبحث عن منفذ، ومد الأمواج يرتطم — بقسوة — في صخور الشاطئ.
قام، وجلس، وتمدد، وقرفص، وضرب الجدار بقبضته، وتمثل، وضغط ما بين ساقيه، وتأوه. ثم انتفض، وسار في اتجاه السلم.