العودة إلى بحري
ظل الرجال على تحلقهم حول المعلم كشك، يوضحون، ويتحايلون. يعدون بأن تكون إقامة صابر الشبلنجي في القهوة مؤقتة، حتى وافق المعلم على عودته.
– أحتمله ثلاثة أيام لا رابع لها.
وأشاح بيد غاضبة: من يعتدي على أعراض الناس لا مكان له عندي.
وتنهد: لو أن المرحومة ابنتي في بيتها، ربما كان طلع إليها!
فاجأته المرأة — لما رأته على باب الحجرة — بصرخات متلاحقة، خائفة، منفعلة، مستغيثة. هرعت الأقدام الحافية من البيوت إلى الإسطبل. وترك رواد مطعم النبلاء، القريب، ما بأيديهم. صرخات المرأة لا تصمت بدخول من قدموا لإغاثتها، وصابر يتلفت في حيرة ذاهلة، كمن فوجئ بوجوده على باب الشقة، وبالمرأة، وبالأعين المتسائلة الملهوفة. غلبه الارتباك، فلم يستطع حتى الكذب.
خمن القادمون ما حدث.
اتجهت لعناتهم وقبضاتهم وركلاتهم إلى صابر، وهو في حيرته الذاهلة، يتلقى الضربات، لا يحاول دفعها. أصر عباس الخوالقة — وهو يمسح من عينيه آثار النوم — على اقتياد صابر إلى نقطة الأنفوشي. تحايل محمود عباس الخوالقة حتى اكتفى أبوه بطرد الشبلنجي من الإسطبل.
لم يتكلم، ولا أقدم على تصرف من أي نوع. لم يدبر نفسه لكلام، ولا لتصرف، فغاب رد الفعل. فوجئ بوقفته أمام المرأة، مثلما فوجئت به.
كانت تنشر الغسيل في البلكونة المطلة على شارع سيدي كظمان. ترتدي قميص نوم من البوبلين الأسود، الشفاف، مشغولًا بالترتر الأبيض. تبدو من تحته ثيابها الداخلية، ولحم جسمها، وبرزت حلمتا الثديين.
لم يكن خطا داخل الحجرة، ولا أعد التصرف أو الكلمات، عندما فاجأته المرأة بصرخاتها المتوالية.
بنت الكلب! … ناقص رجل عن الأعرج؟ … وهل جزاء تستري عليها هو الفضيحة وقطع عيشي؟!
قال مصطفى حجازي: لماذا لا تساعد عم محمد الطوشي في صنع الهريسة؟
قال حسنين الدمنهوري: وهل يطلعه الطوشي على طريقة صنعها؟!
كان عم محمد الطوشي يستأذن المعلم كشك. يغلق عليه باب المطبخ، فلا يشاهد أحد طريقة إعداده للهريسة، وتسويتها، وإن رآه الرجال يضع الصينية — بعد تجهيزها — على صينية — في حجمها — من الماء الساخن.
كان صابر قد أعد نفسه للعودة إلى رشيد، لما وافق المعلم كشك على أن تكون القهوة مقرًّا انتخابيًّا لحمادة بك.
أشار حمادة بك بعينيه إلى صابر الجالس على كرسي بجوار النصبة.
– ماذا يعمل؟
قال المعلم كشك: كان سائسًا في إسطبل المرحوم ناجي التميمي.
حدجه بنظرة مستريبة: والآن؟
رماه المعلم كشك بقرف واضح: كما ترى.
– لماذا؟
أسرع صابر بالإجابة: النصيب!
قال حمادة بك وهو يتجه إلى الباب: أحتاج إليه في فرن التمرازية.
•••
تابع — في تردده على قهوة الزردوني — أخبار المرأة.
قيل إنها باعت الإسطبل لتاجر غلال قبطي في كرموز، وإنها سافرت إلى قريتها القريبة من كوم حمادة. وقيل إن الأسطى فتحي استأجر لها شقة في خط الرمل، يمارسان فيها حياة الأزواج دون عقد مكتوب.
قال صابر الشبلنجي: بنت المركوب! تبيع الإسطبل من أجل الأعرج؟!
قال مصطفى حجازي: القلب وما يحب!
قال مؤمن الدشناوي: غضبت لأنها فضلت الأعرج عليك؟
قال مصطفى حجازي: ربما وجدت المرأة في عرجه ما يستهويها.
ومضت عينا صابر بالضيق: هزار أم جد؟!
قال مصطفى حجازي: بل كل الجد … للنساء نظرتهن التي لا نفهمها.
قال مؤمن الدشناوي: هل كنت تتطلع إلى مكان الأسطى فتحي؟
قال مصطفى حجازي: احمد الله على ما أبقته لك العلقة من رجولة.
ركن عم محمد الطوشي عربته إلى جانب الرصيف في لهوجة. بدا انفعاله في لهاث أنفاسه: هل نحن على أبواب ثورة؟
اتجهت إليه الأعين متسائلة.
الطلبة يهتفون في الشوارع: لا ملك إلا الله.
قال المعلم كشك: الناس تغلي لأكثر من مصيبة … الهزيمة في فلسطين … وطلاقه من فريدة.
ثم وهو يضرب كفًّا بكف: إذا كانت المظاهرات قد خرجت بعد تقديم الدول الكبرى قرار تقسيم فلسطين إلى مجلس الأمن … فماذا ننتظر بعد ضياعها؟!
واغتصب ابتسامة: خطأ النقراشي أنه لم يحاول حل قضية فلسطين مثلما حاول في قضية الجلاء؛ لماذا لم يقل لليهود اخرجوا من فلسطين أيها القراصنة؟!
قال الطوشي: المظاهرات تهتف: حذاء فريدة فوق رأس فاروق … خرجت الطهارة من بيت الدعارة.
وداخل صوته تهدج: هل نحن على أبواب ثورة؟
