التخريج
أغلقت أم محمود باب السطح من الداخل. محمود يناولها ما تحتاجه. ترد على أسئلته بضربات — على الترابيزة — ذات إيقاع. تفسد الرقية إذا تكلمت. تنبهت في انشغالها على صفارة باخرة من الميناء الغربية. مسحت بنظرة شاردة امتدادات الأفق في حدوة الحصان من المياه التي شكَّلها البحر في الميناء الشرقية والميناء الغربية وشاطئ الأنفوشي.
كانت أشعة الأصيل تعلو الجدران. الدقائق التي تسبق الغروب، ونسائم خفيفة تهب من ناحية البحر، وأغنية لأم كلثوم تتناهي من نافذة قريبة:
استيقظت مهجة — ذات صباح — على نداء أمها. فركت عينيها، وتثاءبت، وفردت نفسها — للحظات — ثم سقطت من طولها.
تلا صرخة الأم، وقوف الأب والأخوين فوق رأسها.
نصحتها الكودية نظلة — لكي يعود اللحم إلى جسمها، وتقف على قدميها — أن تسفَّ خنافس مهروسة، وتضوع البيت بالبخور. البخور غذاء الأرواح الساكنة داخل الشقوق وبين الأثاث. نصح الحاج محمد صبرة بأعشاب. صحبها عباس الخوالقة إلى الطبيب الأرمني، فوق قهوة المهدي اللبان. سألها إن كانت تشكو شيئًا. أطرقت، وهزت رأسها. فحص الضغط والنبض وضربات القلب وحدقتي العينين. وحدَّق في الفم المفتوح.
قال وهو يرفع النظارة الطبية إلى جبهته: صحتها جيدة!
دعا إمام أبو العباس الجديد، في جلسة المغرب، وأمَّن الرجال. ختمت الأم على رأسها القرآن أربع مرات، طافت على أضرحة أولياء الحي. توسلت، وطلبت المدد، ووعدت بالنذور. ظلت البنت في النازل. سلمت نفسها لشرود، ولا بادرة شفاء بأعشاب أو أدوية.
لم تكن أعدت نفسها للزواج من هشام كشك. ولم تكن أعدت نفسها للزواج أصلًا. تذهب إلى المدرسة، وتعود، وتساعد أمها في البيت، وتذاكر، وتنام، وتزور خالتها في رأس التين، وأعمامها في بيت العائلة بشارع الجمرك القديم.
خمن الخوالقة — لما وافقت على الزواج — أنها تعرف الشاب.
– هل تأذنين للبنت بالخروج وحدها؟
قالت أم محمود: أبدًا … حتى المدرسة، يوصلها أخوها ويعود بها.
وهو يرمقها بنظرة متشككة: فكيف تعرَّفت إلى ابن المعلم كشك؟
خبطت على صدرها: من قال إنها تعرفه؟!
– لم تناقش قراري بتزويجها من هشام.
بحلقت عيناها: وهل عوَّدتك البنت على مناقشة أوامرك؟!
وافقت مهجة على الزواج لمعرفتها أن مصيرها إليه. كانت في الخامسة عشرة، لكن طولها وامتلاء جسمها الموروثين عن أم طويلة وأب ممتلئ، أضافا إلى عمرها. علَّمتها أمها مسئولية البيت، فهي تجيد الطبخ والخياطة والتنظيف، وتعرف كيف تشتري لوازم بيتها. عندما عرفت اسم العريس، تذكرته: الجيرة، وصداقة الطفولة، والتسلي بمشاهدة صيد الجرافة، والطراحة، في الميناء الشرقية، وحضور موالد الأولياء، وأسواق العيد. زمان، ثم لزمت البيت. تذهب إلى المدرسة، وتعود برفقة شقيقها مصطفى. إذا أرادت التغيير، فبزيارة أقاربها، تصحبها أمها، أو مصطفى.
بعد أن قرأت الأسرتان الفاتحة، وألبسها هشام الدبلة، أجلستهما الأم على الكنبة أمامها. تمتمت بأدعية، ثم علا صوتها: باب يا باب … يا جامع الأحباب … إن طلع شفقة … وإن دخل نفقة … نجم هشام ومهجة تجمعهم في السما.
أشارت لهما، فانصرفا.
أحست مهجة أنها أصبحت له، وأنه أصبح لها. تصحو على صورته، وتنام عليها. تسرح، تتأمل، تبتسم لتذكر كلماته وتصرفاته. حتى التفصيلات الصغيرة، والتعبيرات العفوية. حتى الومضات السريعة تلتقطها، تستعيدها من الذاكرة في أوقات الخلو إلى النفس، تنتبه إذا جاءت سيرته، تدافع عندما تبدي أمها ملاحظة عنه، تنتظر قدومه في المواسم، تحدق في مرآة غرفتها، تحاول رؤية نفسها بعينيه. ربما امتد بها الخيال، فتصورت نفسها في شقة — مغلقة — معه، لا تنتقل من بيت أبيها إلى شقة إنسان سواه. هو الصورة الوحيدة للزوج. يوجه كلامه إلى أبيها أو أمها أو أخويها. تعد ما قاله موجهًا إليها، تقلبه، تستكنه معانيه. تُجري حوارًا. تبتسم — بينها وبين نفسها — وتحزن، وتغضب، وتضحك. تقرأ حبه في نظراته المتأملة، لا تلبث أن تتجه إلى بعيد، وارتعاشة شفتيه وهو يتكلم، وارتجافة يده عندما يتناول فنجان الشاي، وغلبة ارتباكه حين تخلو الحجرة — مصادفة — إلا منهما.
فرد ذراعيه بامتدادهما: أمامنا لوكاندة بحالها لا مجرد شقة.
تظاهرت بالتصديق: هل نسكن في لوكاندة أبيك؟
استدرك في نبرة جادة: وعدني بالدور الثاني فوق اللوكاندة … بابه على الشارع الجانبي.
عندما قال لها: أحبك، لم تكن تفهم معنى الكلمة تمامًا. ثم بدأت الحمرة تصبغ أذنيها حين تأتي السيرة أمامها. حتى الأغنيات في الراديو، أعادت تأملها في ضوء المعنى الذي لا بد أنه يقصده. جاشت عواطفه — لحظة — فحاول تقبيلها. صدته بأصابع مترفقة، وأدارت وجهها إلى الناحية الأخرى.
هل رضع الولد والبنت من ثدي واحد، أو أن ما حدث وشاية كاذبة؟
أسلم عباس الخوالقة نفسه للغضب، لما همس عبد الوهاب مرزوق في أذنه بأن أخوة مهجة وهشام في الرضاعة شائعة سربتها أسرة الشاب. رفضت أن يتزوج ابنها ابنة صياد، حتى لو كان شيخًا للصيادين.
•••
– لو أن الولد أراد العمل صبيًّا عندي … ما قبلت!
قالت أم محمود مهونة: كلام الناس كثير.
وهو يهز رأسه بعصبية: لا دخان بلا نار!
قالت في استكانة: ربما رضع الولد والبنت من ثدي واحد بالفعل.
كانت أم محمود تتوقع أن يطلب يد ابنتها لابنه، شيخ صيادين. ربما الحاج قنديل. سمعت عن أبنائه الذين وُظِّفوا في مناصب مهمة. توقعت — للعشرة بين زوجها والحاج قنديل — أن يعلن الحاج ما يناوش بالها، لكنه لم يحاول المصارحة أو التلميح، وإلَّا أخبرها زوجها، أو طلب رأيها، أو تردد في الموافقة على هشام كشك.
لم يعد عباس الخوالقة يذهب إلى الحلقة. تقصى، وسأل، وناقش وأسلم أذنه للأفواه الهامسة.
زار الشيخ طه مسعود في ديوان وزارة الأوقاف. أسرَّ إليه بما اعتزمته أم محمود.
أخلى الإمام وجهه للغضب.
قال الخوالقة: ومن شر حاسد إذا حسد.
قال الإمام: ما حدث لا صلة له بالحسد.
في لهجة متوسلة: البنت مريضة جدًّا.
دون أن يترك هدوءه: هذا شأن آخر.
في لهجته المتوسلة: الحسد حق … جاء ذكره في القرآن.
ورنا إليه بنظرة مستغيثة: العين تفلق الحجر.
ذهب انفعال الإمام، فنزل بحري، وصلى الظهر في جامع سيدي ياقوت العرش.
– حدثتني عن واقعة.
ثم وهو يمسح ذقنه بأصابع متوترة: ما دليلك على صحتها؟
قال جابر برغوت: يا مولانا … تلك حكاية من عمر الولد والبنت.
قال الإمام: لكنهما يتأثران الآن منها.
وهتف في الرجل بلهجة زاعقة: من أين أتيت بحكايتك الملعونة؟
لم يتصور أنه يرفع صوته في جابر برغوت. هو خادم ياقوت العرش. لم يحصل على شهادة، لكنه قرأ، وتعلم، وجلس إلى علماء، فصار لآرائه وجاهة. يلجأ إليه زوار العرش ومريدوه، يطلبون النصح، والمشورة، والمساعدة على قضاء الحاجات. وقيل إنه أفاد الكثيرين من علوم السحر.
قال جابر برغوت وهو يغالب ارتباكه: صدقني يا مولانا … أرضعت زوجتي الولد والبنت في سنة ولادتهما … ورفع يديه كمن يتقي خطرًا مجهولًا: والمرسي هذا ما حدث!
حدج الإمام عباس الخوالقة بنظرة مستريبة: هل تزمع إتمام زواج البنت من أخيها؟!
قال الخوالقة: ذلك موضوع انتهى … البنت تموت.
قال الإمام في نفاد صبر: قلت رأيي … ولن أزيد.
ذاع أن الإمام جعل ما حدث، من بين الأسباب التي حددها — في ذهنه — لطلب النقل إلى ديوان وزارة الأوقاف.
حذَّر الطبيب الأرمني من أن البنت قد تغادر صمتها الحزين، فتحاول أن تؤذي نفسها: تشعل النار في جسمها، تقفز من البلكونة أو السطح، تشرب مبيدًا حشريًّا أو سمًّا، تقطع شريانًا، ترمي نفسها في المالح.
تحاملت مهجة على نفسها.
صعدت إلى السطح، صامتة لا تتكلم، ولا تلتفت وراءها. تحمل طبقًا من السكر الأحمر المذاب في الماء.
قلبت ما في الطبق على أرضية السطح، لا تبسمل، ولا تهمس بأي كلام. تركت الطبق، ونزلت، صامتة لا تتكلم، ولا تلتفت وراءها. توقعت الأم أن الأسياد يشربون الماء، فيرضون عن البنت، ويرفعون عنها أذاهم.
أصرت، فبدَّل عباس الخوالقة بلاط البسطة، أمام باب الشقة. ربما السبب عمل يرقد تحت بلاطات البسطة. نصحت الكودية نظلة بزار. ما تعانيه مهجة ليس مرضًا تعالجه الأدوية أو الأعشاب. هذه أفعال الأسياد، فلن يبتعدوا إلا بزار.
ثار عباس الخوالقة على الفكرة: الكودية والدفوف والشياطين والبخور والصرخات المجنونة والأرواح الشريرة.
تحايلت أم محمود على رفض الإمام. استعادت رقية الكودية حتى حفظتها. أوصت المرأة — بدلًا من الزار — بالتخريج، رقية تخرج العين الحاسدة من جسم الفتاة. صارحت أم محمود أكبر أبنائها بما انتوت. أغلقت عليها، وعلى مهجة، باب السطح. حذرت «محمود»، فلا يفجؤهم قدوم الأب.
بدأت بإحراق ما التقطته يدا محمود من النفايات المتكومة أمام البيتين الملاصقين، والبيوت المواجهة. اشترى من سوق الدقاقين، قطع الشبة وقصاصات الورق والملح والفكوك والبخور.
أغمضت عينيها تتذكر بقية الخطوات.
رفعت كتفي مهجة من صدرها. دلكت جبهتها بالشبة والفاسوخ سبع مرات. قصت الأوراق على هيئة عروسة. وخزتها بإبرة في العينين والرأس والجسد، طردًا لأعين الحساد. تلفتت — في حيرة — إلى باب السطح المغلق، ومنشر الغسيل الخالي، وصاري البلانس البعيد، في غيابه داخل الأفق.
غالبت التردد. ثم نطقت الكلمات ببطء، فلا تنسى ما حفظته من الكودية. تذكر الأسماء في المواضع التي حددتها. تضع همها في تسلسل الكلمات والأسماء، حتى لا تفسد الرقية.
تنهدت أم محمود. مدت أصابعها في طبق الملح. نثرته فوق رأس مهجة، ومن حولها. أغمضت عينيها، تتذكر كلمات الرقية التي توقفت عندها.
بسم الله الرحمن الرحيم. ألف بسم الله الرحمن الرحيم. باسم الله توكلت على الله، واعتصمت بالله، وسلمت أمري إلى الله.
بسم الله الرحمن الرحيم … يا هادي كل هدية … يا مانع كل رزية … يمنع عنك النظرة القوية … بقدرة الله العلية.
بسم الله الرحمن الرحيم. رب المشارق، ورب المغارب. ما يغلب الله غالب. رقيتك من كل عين شهلة، من كل عين زرقة. الله عليها، وعلى والديها، يجعل مصارينها بنات رجليها، اللي شافوك ونظروك ولا صلوش على النبي الحبيب.
بسم الله الرحمن الرحيم. الأولة باسم الله، والثانية باسم الله، والثالثة باسم الله، والرابعة باسم الله، والخامسة باسم الله، والسادسة باسم الله، باسم الله تقلع عين خلق الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عين الضيف أحد من السيف. عين الراجل أحد من المناجل. لقاها سيدي السيد سليمان في البرية، تنبح نبح الكلاب. قال لها رايحة فين يا عيني يا عنيه، يا خاينة يا ردية؟ … قالت رايحة للي حبا، واللي دبا، واللي لا أعرف له أمًّا ولا أبا. قال لها: أخص ما خصيتي، م النار ما نجيتي، لاوديكي بحر لا ينغاص ولا ينداس، واحدف عليكي بالزيبق والرصاص. قالت: خد عليَّه عهد الله سيدي السيد سليمان، لا أخونك في عيشة. قال لها: باطلًا بطال. قالت: لا أضر عريس في زفته، ولا راجل في جلسته. قال لها: باطلًا بطال. قالت: لا أضر بهيم في رباطه، ولا صغير في قماطه. قال لها: باطلًا بطال، سيدنا النبي رقى ناقته من عين جماعته. كانت عسير، صبحت تسير. كلت عليقها، وشربت مياهها، واتكلت على مولاها، بقدرة الله العلي العظيم.
يا بير بلا قمر … يا كف بلا شعر … زال عنك الشر، وافترق كما افترق الندى من على الورق. زال عنك الشر وطار، كما طار الندى من على الجبال.
افترقي يا نفس. افترقي يا عين. افترق يا فكر.
المرة بشوشة، والرجل عبس.
بحق النبي، وآية الكرسي، افترقي يا نفس بقدرة الله العلي العظيم.
سحبت العروسة من فوق الترابيزة. أعادت وخزها بالإبرة وخزات متلاحقة:
اللهم رب الناس، أذهب الباس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا، يا رب العالمين.
الفاتحة لسيدي النبي، والإمام علي، والإمام الشافعي قاضي الشريعة، وأولياء الله جميعًا، والأربعة الأقطاب، والأربعة الأنجاب، والأربعة حمالي الكتاب، وسيدنا السلطان المرسي أبو العباس، وسيدي البوصيري، وسيدي ياقوت العرش، وسيدي نصر الدين، وكل أولياء الله الصالحين. يحادوك، ويراشوك، ويشيلوا عنك النفس، والعكس، بقدرة الله العلي العظيم.
الفاتحة لهم، وصلى الله عليه وسلم.