إيقاعات صامتة
أذهلني غياب الحزن عن كلماتك وتصرفاتك. كأن يسرية لم تمت. كأنها امرأة أخرى، غير التي قرأت لها الشوق في رسائلك من المدن البعيدة.
امتد الليل، فلم يعد — في قهوة البحر — سوانا.
قلت في إشفاق: ألن تذهب إلى البيت.
– تضايقني الوحدة.
غالبت ترددي: بارك الله في يسرية!
يسرية ماتت!
ماتت؟!
تداخلت صور وكلمات، تشابكت، واختلطت، فتأكد السراب في نهاية الأفق. أحسست بدوار، وتخاذل، وأني لا أسمع شيئًا.
دائمًا كنا معًا، في أي مكان. لا نستغرب السؤال عن الآخر إذا كان أحدنا بمفرده. لا نفترق في البحر، أو على الأرض. نجلس في قهوة الزردوني، أو قهوة مخيمخ، أو في ورش المراكب. ربما دعوتني — آخر الليل — لمرافقتك إلى البيت. تدعو يسرية، فتجلس معنا. نسهر، ونستمع إلى الراديو، ونروي الحكايات، ونلعب الكوتشينة، ونصعد إلى السطح. نطل على استدارة المياه، منذ السلسلة إلى ما بعد باب رقم ٦. نتطلع إلى أنوار البلانسات في الميناء الشرقية، ومئذنة أبو العباس، وضوء البوغاز يضوي، ويختفي. ربما اشتريت سمكًا من الحلقة. أتبِّله، وأقليه في المطبخ، أو أشوي اللحم على الفحم فوق السطح. السطح الذي كنت أنتظر منه إشارة يسرية، فأتجه إلى البيت.
حين أصبت في ظهري، وسافرت — بمفردك — للمرة الأولى، لم أعد أتردد على البيت. وكنت أنتظرك في الميناء، وفي قهوة الزردوني. أجلس إليك بالساعات. تروي وتروي وتروي، وأنا مفتوح العينين والفم. أسبح إلى مواني ومدن وجزر. أبتسم، وأحزن، وأضحك، وأستوضح ما يبدو غامضًا.
تقول لي: أنا أدرى الناس بمشاعرك يا مختار … البحر إدمان!
التقيت بيسرية — ذات صباح — في انحناءة الموازيني إلى ميدان المساجد.
– كيف حالك؟
– الحمد لله.
– لم نعد نراك.
أعاد الله ثروت بالسلامة!
وصلتني رسالتان منه … ليتك تقرؤهما لي.
زرتها في مساء اليوم نفسه.
تركتني أمام الباب، وعادت من داخل الشقة بالرسالتين، فقرأتهما.
أيقظني تنبيهها من رحلتي في المدن الغريبة، والساحرة.
تكررت زياراتي. أقرأ الرسائل، وأمضي في التصور والخيال والحلم. ربما توقفت عن القراءة، لأضيف إلى الكلمات بما يشكل مشهدًا ومشاهد.
تنبهني، فأعاود القراءة.
ثم لثم الموج جزيرة السحر للمرة الأولى.
قالت: ثروت وحشني.
قلت: رسالته الأخيرة تؤكد عودته بعد شهر واحد.
– وهل الشهر قصير على امرأة بلا زوج؟!
ومصمصت: سحر الصغيرة تعامله كغريب … تمضي أشهر لا تراه.
همست بالدهشة: إلى هذا الحد؟!
استطردت في نبرة ملونة: يرفض أن يؤاخي البنت بولد.
وتنهدت: متى يعود ويستقر؟
قلت: وهل هناك أجمل من الحياة في البحر؟!
– وما ذنبي أنا على البر؟!
استقبلت يدها المصافحة التي أعقبت قولها. سرى الملمس الناعم بخدر في يدي. امتد إلى جسمي، فلفني تمامًا. استبقيت يدها، فلم تنتزعها. ركلت الباب بقدمي، وتقافزت الأسماك فوق المياه، وانطلقت النوارس بعيدًا عن الشاطئ.
ثالث يوم، فاجأتني بوقفتها أمام القهوة: أين أنت؟
تخلت البساطة عن عفويتها للتوقع والمجهول. لا أدخل البيت إلا إذا تأكد لي خلو الطريق. نخوض في الأمواج. تطوينا مياهها الشبقة. نتعمد الاكتفاء باللحظة، منفصلة عن البداية وملامح الأفق.
توقعت أن يخامرك الشك. تلتقط ملاحظة عن ترددي على البيت في غيابك. قدومها إلى القهوة. سألت نفسي: هل تواتيني الشجاعة، فأنظر في عينيك، وأتكلم، آخذ وأعطي. وماذا لو أنك دعوتني إلى البيت؟ هل أذهب أو أعتذر؟
قلت لي بعد غيبة: لم تعد تسألني عن رحلاتي.
– أنت يا دوب تصل إلى الإسكندرية، فتسافر ثانية.
قال: هذه المرة ستطول إقامتي.
غالبت الارتباك: خيرًا.
– خيرًا بإذن الله … إجازة قد تبلغ الشهرين.
وسحقت بقايا السيجارة بقدمك: سأروي لك الكثير مما يروقك.
واعتدلت في مواجهتي، وبدأت تروي.
أنظر — بطرف عيني — إلى يسرية الجالسة بالقرب منا. الأسئلة والتعليقات والضحكة الصافية. لم يكن الشك مما يدور لي ببال، لو أن العلاقة كانت مع غيري.
كانت رسائلك متعتي الحقيقية. أسأل — بصدق — عن وصولها. لا أتذرع بها بداية لخطوات تالية. ما تحكيه الرسائل يكفيني في ذاته. أدهش لما ترويه عن تواصل الأيام، والمشاهد المتكررة، والملل، والحنين. لم أحب يسرية، ولا سعيت إلى حبها. ما أردته هو الرسائل التي تصور ما أتوق لرؤيته، الحكايات التي رويتها أنت لها، عن الناس والمواني والشواطئ والأسواق والمدن البعيدة. فعلت ما فعلت دون أن يخطر في بالي أن أتسلى بها، أو أخدعها. كنت أملأ فراغًا في نفسي، خلَّفه غيابك. شغفي بالحكايات يسبق شوقي لحضنها.
فاجأتني — ليلة — وهي تشير إلى بطنها: أنا حامل.
استعصت الكلمات، فسكت.
كان الهاجس يدهمني: ماذا لو أن يسرية حملت؟ كيف تواجه ثروت؟ وماذا لو أنه عرف بكل ما جرى؟
قالت: ألا تجد ما تقوله؟
تحشرج صوتي بالقلق: متأكدة؟
– أنا في الشهر الثالث.
في لهفة: ربما ثروت.
هزت رأسها: ثروت يحرص أن ينزع نفسه عندما يبلغ الذروة.
علا القلق بصوتي: هل ستحتفظين بالجنين؟
وشى صوتها بعصبية: أنت تكتفي بالأسئلة!
– ماذا تطلبين أن أفعل؟
وهي تزفر: أسئلة! … هذا كل ما تملكه!
فاجأتني بالسؤال: أنت لم تسألني عن يسرية.
غالبت الارتباك: كيف حالها؟
– أنغام شكواها ارتفعت بطلب الخلفة.
وهل العيب فيك؟
نسيت أن لي ابنة منها؟!
ووشى صوتك بانفعال: إذا أنجبت … أفضل أن أظل بالقرب من الطفل.
هل عرفت حقيقة ما حدث؟
لم تبح لي بما توهمت أني لا أعرفه. لم تكن والد الجنين الذي حملته يسرية في بطنها. التصرف طريق مسدودة، فقتلها الإجهاض.
هل اتجهت بشكوكك إلى أحد، أو اكتفيت بإدانتها، وأنها تستحق الموت بما فعلت؟!