أصداء الطبول البعيدة
قال لأنسية من بين لهاث أنفاسه: رأيته … أقسم إني رأيته!
حدجته بنظرة متسائلة: من؟
– فؤاد أبو شنب … رأيته يبيع الصنف.
دارت ابتسامة بيدها. بر بقسمه لها — في الصباحية — أن يقلع عن تعاطي المخدرات. لا حشيش ولا أفيون. حتى القهاوي قل تردده عليها. وتكرر اعتذاره عن الدعوة إلى قعدات المزاج، فلم يعد ينتظرها.
قالت وهي تهز كتفيها: وما لنا؟
– لم يكن يشتري … كان يبيع على باب بيته!
يشتري أو يبيع … ما لنا نحن؟
– من قال؟! … هذه نقطة ضعف أستطيع أن أمسكه فيها من شنبه!
أذهله وقوف الباعة بما يحملون. عربات يد وطاولات، وضعت فوقها قطع الحشيش والأفيون والموازين. وسط الشارع، أو داخل الدكاكين، وعلى الأرصفة، أو يستندون إلى الجدران، أو يجلسون في القهوة الوحيدة. يقطعون ما بأيديهم إلى قطع صغيرة. ما يهمس به البائع، يتقاضاه دون فصال. لا أخذ ولا رد. تختفي الحلقات الصغيرة، وتنشأ حلقات أخرى. ربما صعد أحد البيوت القديمة. تشي واجهته باختلاف عن بقية بيوت الشارع. ينقر — بأصابع مدربة — على باب شقة في الطابق الأول. يطل وجه مستريب. يدفع القروش. يخرج البائع قطعة كبيرة من الأفيون. يقطع منها بالسكين قطعة صغيرة في حجم الترمسة. يلفها في ورقة سيلوفان، وهو يهمس بكلمات مجاملة.
يدين للرجل بتعلم الخبازة. عمل عجَّانًا وطولجيًّا وفرَّانًا، قبل أن يختاره والد حمادة بك رئيسًا للعمال.
لم يكن سيد يعرف الفارق بين أنواع الخبز: عيش القمح، عيش الذرة، العيش المرحرح، العيش البتاو، العيش المقرص، العيش المنطط.
قدم إلى الإسكندرية من كفر الدوار، للاشتغال بالفاعل. زار المرسي، وتجول في شوارع الحي. مال إلى مطعم النبلاء. جرى بينه وبين عم سلامة حديث. دله على قهوة كشك، وقدمه إلى حمادة بك.
وقف — في البداية — أمام الماجور، يعجن الدقيق. ثم اختاره فؤاد أبو شنب للعجين. يسحب الطوايل الخشبية من المعجن، يضعها لصق الجدار المواجه للفرن. ثم عهد إليه بالوقوف أمام الفرن. يلتقط قطع العجين المكورة من لوح العجين. يبططها، يضعها فوق المطرحة، يدفعها إلى الفوهة. تعلم حتى العبارات المصاحبة لعملية الخبيز: يد الله قبل أيدينا … يا رب اكفنا شر العطل … يا رب اكفنا شر المستخبي والمداري … ربما دندن بالأغنية: اللي ما تعرفش ترميها … على بيت أبوها وديها.
كان أبو شنب يعفي حمادة بك من مسئوليات الفرن. يدفع بأحد العمال ليواجه اتهامات مفتشي التموين، أو ينفذ أحكام الحبس. يتصرف في كبسات التموين التي تشترط الرغيف الكامل الاستدارة، المضبوط الوزن.
حين قبلت أنسية عرضه بالزواج، فلأنها كانت تريد الاستقرار، ولأنها أحبته كذلك. أحبت طيبته وطبعه الهادئ. كان الزواج في خيالها كالأمنية، كالحلم، كالصدى البعيد. تحن إلى الرجل جوارها، يغلق عليهما بابًا، فلا تخشى المفاجأة. ينشغل بها: أين تذهب؟ ولماذا تأخرت؟ يضربها لخوفه عليها، لا لإرضاء نفسه. لم تضع في بالها شخصًا بالذات. محمود الخوالقة أو سيد الفران أو قاسم الغرياني، وغيرهم ممن ترددوا على البيت المهجور. يقضون الأوقات، ويعودون إلى البيوت والنساء والأولاد. حتى سيد الفران — إلى يوم الإضراب — لم يدخل معها في كلام. يتسلل وراءها في ظلام البيت المهجور. يرفق ابتسامته المرحة دسَّه للخبز الرجوع في يدها. يهز رأسه محييًا إذا رآها في الطريق. فاجأتها زيارته صباح يوم الإضراب. اعتادت أن تغلق عليها باب البيت. لا يتردد عليها أحد، فيلفت النظرات المتطلعة من النوافذ المقابلة.
فاجأها عرضه بالزواج. تصورت أنه يريد تأكيد إعزازه، لكنه كرر العرض. عاد إلى ذهنها ما بدا بعيد التحقيق، أو أنها أهملته. أحبت المعنى: أن تكون زوجة. رجل واحد يقاسمها السرير، والأكل الذي تعده، وتعرف صوته حين يعود آخر النهار، فتفتح له الباب.
– صحيح؟
– لن أجد أفضل منك.
– قد يرفض أهلك.
أطلق ضحكة مريرة: أنا مقطوع من شجرة.
– هل أنت جاد بالفعل؟
– كنت أخشى أنك ترفضين.
ضربت صدرها بيدها: أنا أرفض؟!
– لست على قد المقام.
رمقته بنظرة مستريبة: لست جادًّا إذن؟
قال في بساطة: لم أكن جادًّا مثلما أنا الآن!
لم يكن في فتوة محمود الخوالقة ولا جرأته. ارتعشت بين ساعدي محمود، وكتمت صراخ اللذة. عوض سيد — دون أن يدري — بصبره عليها. يظل حتى يلمح في عينيها ذروة الاستجابة.
•••
قالت لسيد مداعبة: لن أبات جعانة وزوجي خباز.
– لم أعد كذلك.
– هل أنت نادم على أيام الفرن؟
رسم على وجهه ابتسامة تأسُّف: من يندم على أيام أبو شنب؟!
لم يطلب التاجر كمال مصباح إيجارًا، منذ سكنا الشقة. وحين دفعت سيد للتلميح، رفض الرجل. قال إن إيجار الشقة هديته إلى مقام سيدي ياقوت العرش.
ألفت حياتها. تطبخ، وتغسل، وتكنس، وتنظف الشقة، وتساعد بالعمل في بيت عبد الله الكاشف، وتنتظر عودة سيد. ربما أطلت من النافذة، تتابع — بنظرة غير متأملة — لعب الأولاد بالنحل والبلي والدوم. توارب ضلفتي النافذة. تتطلع من الشق الطولي بينهما، أو تنظر من خصاص النافذة المغلقة. تتأمل الباعة يعرضون ويبيعون لصق الجدران، وفي القهوة الوحيدة، وأمام أبواب البيوت والدكاكين. ربما علت الأصوات بالحدة، أو بالتشاجر، أو أسرعوا بالاختفاء بصيحة ناضورجي. تدخل وتغلق النافذة، لنظرة متوجسة. يأتي سيد فيجدها في انتظاره. تنفذ ما يطلبه. لا تناقشه، ولا تطلب إلا ما يحتاجه البيت. لمحها وهي تنقل صرة من أسفل السرير، لتنظف مكانها. هذه صرة بيت سليم البشري. هزت رأسها. ضرب جبهته بأصابعه: لك الآن دولاب وتحتفظين بالصرة؟!
لم تعقب، وواصلت كنس الحجرة.
قضت أيامها الأولى تتجنب الاحتكاك بجاراتها. ثم تعمدت أن يعرفها الجيران. هي ساكنة شقة الطابق الأول في البيت رقم ۹. زوجها سيد الفران صاحب كشك أدوات الصيد في ناصية شارع الموازيني. تطل من النافذة. تتأمل السحن في النوافذ المقابلة. تنادي على الباعة. فرحت برد التحية، ثم تبادل الكلام. رحبت بطلب جارة الشقة المقابلة فصين ثوم. أعطتها رأس ثوم بحالها. اكتفت بالنداء على جارة الطابق العلوي، لما أسرفت في استخدام الماء. تسلل خلل الأرضية الخشبية. أحدث نشعًا بلل قشر سقفها الحديث الطلاء، وصنع ظلالًا وتكوينات. ثم بدأت نقاط الماء تتساقط في مواضع من الحجرة. نزلت على مخدة السرير، وخلف باب حجرة القعاد، وعلى طرقة المطبخ. لم تأخذ الجارة أو تعطي. مصمصت، وبرطمت، وعابت الزمن الذي أسكن بيوت الناس خادمات البيوت، زوجات كل الرجال!
أعادت على سيد ما قالته المرأة. قالت إنها شاهدتها — زمان — تغني في كازينوهات الكورنيش:
بعد أن أعلن سيد اعتزامه الزواج منها، كف الرجال عن ملاحقتها. غابت التعليقات عن أذنها. تسير، لا تتلفت، لا تلاحقها عبارة، أو دعوة، ولم تعد تتوقع أن يترصد لها أحد في ظلمة الطريق.
أخلص في إرضائها. قرر أن يكون هذا عهدها به. يثق فيها. لكن الاطمئنان إلى إغلاق الباب مسئوليته وجهده. لم تعد الفرانة مهنته، ولم يعد يغادر الكشك إلى قهوة كشك. شقته في شارع البلقطرية. خطوتان بين الكشك والبيت. قل تردده على القهاوي وحمام الأنفوشي، واقتصرت تسميته لأنسية — خارج البيت — بالجماعة، وألف ترديد دعاء الجماع: اللهم جنبنا الشيطان … وجنب الشيطان ما رزقتنا.
لم يلحظ ما يؤاخذها عليه، لكنه لم يستطع التخلي عن هواجسه، أو أن الهواجس لم تغادره. الأسئلة تناوشه وهو يجالس الرجال: من أخذها في حضنه؟ ومن أعجزه المال عن مضاجعتها؟ ومن كان يتطلع إليها؟ ماذا يقولون عنه فيما بينهم؟ هل يتصورون أنه سيهمل ما تفعله في الأيام القادمة؟ هل يتصورون أنها ستظل على علاقاتها؟ … يعطي انتباهه لما قد يكون تلميزًا، أو تغميزًا. ويعد نفسه لمقاتلة شرسة.
يحاصره الضيق في تأمله لملامحها المنمنمة، وسمرتها الرائقة، وحركاتها الطفولية. كأنها ليست التي أمضت السنين في التنقل بين البيوت. يطلق أف مجروحة. يزيد شعوره بالضيق من الدافع إلى عناقها. مدربة، وتعرف كيف ترضيه. يتذكر أنها بذلت الأمر نفسه لآخرين. يخشى أنه ربما التصق بجلدها، فلا تستطيع التخلص منه.
همست لنفسها، وهي تطيل النظر إلى جلسته الساكنة على السرير: كيف أقنعه بأني لم أعد أعرف رجالًا غيره؟!
طالت الوقفة أمام مقام سيدي ياقوت العرش. مدت يدها، فلامستها يده الممدودة من داخل المقام. مضيئة مع سواد بشرتها. أخذ عليها العهد وأقسمت بين يديه. إذا حنثت بقسمها، فإن سيدي ياقوت ينتقم منها بشل يدها، أو لسانها، أو يصيبها ضرر في مواضع لا تعلمها من جسمها. تمنت لو أن الذين يذكرون ماضيها اختفوا، أو أنهم نسوا حياتها القديمة. لا يعرفون إلا أنسية زوجة سيد الفران. تحيا في بيتها رقم ۹ بشارع البلقطرية. ما قبل ذلك لا شأن لها به، ونسيته، ويهمها أن ينساه الناس. تستأذن من سيد. يهمس وهو يغادر البيت: الفاتحة أمانة. تمضي إلى أبو العباس. تصعد سلالم الباب الخلفي، في نهاية الموازيني. تخلع حذاءها عند باب القاعة المستطيلة، خالية إلا من المحراب، والحصير، والنجفات الثلاث تدلت من مسافات متباعدة، يحيط بها الحديد المجلفن بالزجاج على هيئة ورود تفتحت على ضوء المصابيح الساقط إلى أسفل. تصلي وقتًا أو اثنين. تزجي بقية الوقت في الإنصات إلى أحاديث النسوة. تبدأ، وتمتد، وتتشابك، وتختلط. تكتفى بالإنصات. لم تذكر حتى اسمها، ولا أين تقيم. هي واحدة من المترددات على مصلى النساء. تتحرك شفتاها بجواب السؤال دون أن تنطقه. تكتم الكلمات حتى لا يكر طرف الخيط، فلا تحسن التقاطه، أو قطعه. تلقى نظرة عفوية من ثقوب المشربية على صحن الجامع. إلى اليمين: المنبر، والمحراب، والناحية المطلة على الدحديرة الخلفية. وإلى اليسار مقام السلطان المجاور للباب الملكي. دفعة عبد النبي شعرة المترفقة: اسعي … اسعي وصلي على النبي! … وفي الواجهة يفضي الباب الرئيس إلى الميدان، والحديقة، والميناء الشرقية، بينما تتألق الأعمدة الرخامية الثمانية، أوسط الصحن، بانعكاسات الأضواء المراقة من النوافذ والأبواب. تستعيد لحظات النصفة والمدد والمكاشفة: هل كان ما جرى حلمًا؟ وهل كان لقاؤها بالسلطان حلمًا كذلك؟ وماذا تسمي حصولها على شقة البلقطرية؟ هل كان التاجر كمال مصباح يعطيها الشقة، لولا أن سيدي ياقوت العرش خاطبه مثلما خاطبها؟!
•••
حرصت — في الأيام التالية — على شرب ما أعدته لها الداية زمزم تشرب — كل صباح — على ريق النوم — مزيجًا مسحوقًا من الخردل والحلبة والمغات والدمسيسة وحلف البر. ثم انشغلت بوحمها. طلبت لحمًا وعنبًا ورمانًا وكابوريا، صرخ فيها سيد لما طلبت طين إبليس، لكنه اقتطع لها من أرض الطريق قطعة طين. مضغتها وهي تغالب القرف.
ظلت في شقتها أربعين يومًا لا تغادرها، حتى لا تنكبس. سيد يشتري لوازم البيت، وينشر الغسيل، ويفتح للطارقين، ويلاحظ بروز الجنين ونمو الحمل. تحرص على مداراة نفسها، فلا يراها أحد. ألف سماع صوتها تغني في الصباح، مثلما تنهنه باكية قبل النوم. تجد فيما تفعله طردًا للشر، واجتلابًا للخير.
أصرت، فبدَّل سيد عتبة الشقة. كنس ما تحت البلاط جيدًا، بحثًا عن عمل. حرصت على أداء الصلاة في مواعيدها، وخصصت صباح كل خميس لتلاوة القرآن، تجلس القارئة على كنبة الصلاة. تواصل التلاوة منذ الضحى إلى أذان الظهر.
وضعت مصحفًا فوق السرير، وبالقرب منه. ووضعت سكينًا حديدية ذات مقبض أسود تحت المخدة. الأرواح الشريرة تخشى الحديد، ولا تقرب مكانه أبدًا. عند تعليق الملابس، تخرج — أو تقلب — أحد جيوبها، أو أكمامها، طردًا للشر. تضوع الحجرة — في موعد صلاة الجمعة — بالبخور ذي الرائحة الذكية، فيطرد الأرواح الشريرة. تشدد على سيد لشرائه من سوق الترك. وكانت تذكر سيد — كل صباح — بأن يعود — أو تعود هي — بوردة من الحديقة المجاورة لمستشفى الملكة نازلي. تضع الوردة بساقها الشوكية في كوب زجاجي، لتمنع دخول — أو اقتراب — سكان العوالم السفلية. تخشى الشوك لأن فيه هلاكها.
أظهر ضيقه لما علقت على جدران الحجرة صورًا لممثلين ومطربين: كمال الشناوي وفريد الأطرش وأحمد سالم ومحسن سرحان وحسين صدقي وأنور وجدي. تسلل إليها في الجلسة الساكنة: هل تحن إلى ماضيها؟
همس لقاسم الغرياني بتحيره.
أطلق الغرياني ضحكته المقهقهة: الولية حامل يا سيد … وتريد طفلًا جميلًا.
وسألها: لماذا صور الرجال وحدهم؟
قالت: أريده ولدًا!
رأت — في المنام — أنها أنجبت بنتًا، فتفاءلت. رؤية الولد في المنام، نذير بمشكلة سخيفة. ولما حلمت بأنها أكلت سمكًا، قالت لها الداية زمزم: السمك في الأحلام خير. ولما جاءها المخاض في منامها، قالت لها الداية زمزم: حاذري … الولادة في المنام نذير شؤم!
همست بالحيرة: وماذا أفعل؟
– انذري للسلطان!