اتساع ضيق الأكوان
قال أبو الحسن الشاذلي: «فرِّغ قلبك أيها الفقير من الأغيار، وهو ما سوى الله. بحيث لا يتعلق قلبك بشيء من الكون علويًّا أو سفليًّا، دنيويًّا أو أخرويًّا، حسيًّا أو معنويًّا، كحب الخصوصية وغيرها من الحظوظ. فإذا رحل قلبك من هذا العالم بالكلية، ولم يبقَ فيه إلا محبة مولاه، فإنه يُملأ بالمعارف، بحيث يكشف عنك حجاب الوهم، ويذهب عنك ظلمة الحس، فتشاهد الأشياء كلها أنوارًا ملكوتية مشاهدة ذوقية تمكينية، ويملؤه أيضًا بأسرار. وهي أسرار الجبروت، فتغيب بالجمع عن الفرق. بشهود الجبروت عن شهود الملكوت وتكاشف بأسرار القدر، فيهب عليك نسيم برد الرضا والتسليم، وأنت في حضرة النعيم المقيم، عند الملك الكريم.»
«المحب على الحقيقة لا سلطان له على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له مع مشيئته.»
لما ظهرت مئذنة أبو العباس — أثناء سيره على الكورنيش، وسط البنايات المتصاعدة — تنبَّه إلى أنه اقترب من بحري … تآلف هدير الموج، وهسهسة النخيل، ورائحة اليود، في أنفه وأذنيه، مهما ابتعد عن الحي.
الموج — في أسفل — يصطخب، يرتطم بالمكعبات الأسمنتية الهائلة، في امتداد سور الكورنيش، يتعالى، ويمتد إلى الرصيف، يصل الرذاذ إلى الجزر، أوسط الطريق والرصيف المقابل، وواجهات الدكاكين والقهاوي المغلقة.
رأى أسراب النورس تحلق فوق السلسلة، تدله على مكان السمك اتجه إليها.
عسكري السواحل يذرع الرصيف الحجري في خطوات مرهقة. بندقيته على كتفه، ونظراته موزعة بين البحر ولسان السلسلة وطريق الكورنيش.
تنبه إلى تحرك الفئران في المكعبات الأسمنتية، أسفل السور. لمح فأرًا ينفذ بسرعة من الطحالب الخضراء المحيطة بأسفل المكعبات. يدخل في الشقوق، صنعها تفتت الأسمنت اللاصق لقطع الحجارة الصغيرة، على امتداد الشاطئ. يدرك الفارق بين الأصوات التي تحدثها، وأصوات تحرك القواقع والأصداف تحت الصخور.
آثر حياة التقشف والزاد والسياحة. خلَّى عياله، وساح في الأرض المخالطة، حبس نفسه عن المخالطة، واجتنب التبعات، وواصل الليل والنهار بالعبادة، والاشتغال بحفظ الأوقات، وملازمة الأوراد، وأداء الصلوات في أوقاتها. يطيل الدعاء من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ومن العصر إلى الغروب. هذه الأوقات هي الأنسب للاستجابة للدعاء. أضاف إلى عزلته: الصمت، والجوع، والسهر. يبتغي رضاء الله في كل خطوة، وكل خطرة، وكل نفس. غاب عن بيته بالأيام. لم يعد يذهب إلى الخلاء، بالقرب من مساكن السواحل، ولا إلى قهوة الزردوني، أو حمام الأنفوشي. لم يعد يحمل شروات يبيعها — مثل زمان — في الرمل وطالع. ترك لقدميه مقوده، تذهبان به إلى ميدان أبو العباس، يصلي ويقرأ الفاتحة للسلطان، تطوفان على الجوامع والأولياء. يقرصه الجوع، فيميل على من يتذكره، يأكل أو يأخذ نقودًا. يمضي — دون هدف — تلازمه الأوراد والأذكار. من يتوجه إلى الله وهم الرزق في قلبه، لا يفلح. السائر في طريق الحقيقة يشغله علم الله عن جميع الأسباب. حتى عن رزق عياله، فهو ميت حي، مودع وإن انتظمت أنفاسه، مخفي رغم مخالطة الناس، صائر إلى النور فلا تشقيه الظلمات المتكاثفة حوله. أخرج أهل الدنيا من قلبه، وملأه بمحبة الله. ينام حيث يغلبه النوم، في قهوة مخيمخ، أو في صحن مسجد المسيري. ربما تكوَّم على نفسه في الحديقة المجاورة لمستشفى الملكة نازلي. دعا الله أن ينزع شهوة النساء من نفسه، فاستجاب الله لدعائه. انتصر على رغبات جسده، وشهواته، وقطع رجاءه بدنيا الغاوين. استيقظت عين قلبه، فنامت عين جسمه. لم يعد يطأ أم العيال، ولا يدعوها إلى حجرته. ارتفع بنفسه عن رق الشهوات. نفض عنه الغفلة، فلا تظفر به شهوة جسده. تخلص من وساخة الجسد، ليتصل بما هو نقي، ويدرك نور الحقيقة الصافي، الذي لا يقترب منه العكر. ذوت كل متعة، إلا متعة التوجه إلى الله. حين ينعم القلب بمحبوبه، لا بد أن يرفض وصال غيره. استمد وجوده من القرب، وأنسه من المشاهدة، ودخل في عين اللذة بذكر الله. الأرائك منصوبة على ضفاف الأنهار، والأنهار مطردة باللبن والعسل، والرجل من أهل الجنة يعانق الحوراء سبعين سنة، يجامعها بقوة سبعين رجلًا، لا يداخله ملل، ولا تمله، كلما أتاها وجدها بكرًا، وكلما عاد إليها عادت إليه شهوته. المرأة من نساء أهل الجنة لو أنها طلعت على الأرض، لأضاءت، وملأت ما بينهما ريحًا، وخمارها على رأسها خير من الدنيا وما فيها. يقال لها: أتحبين أن نريك زوجك في أهل الدنيا؟ تقول: نعم. يكشف لها عن الأستار، وتفتح الأبواب بينها وبينه. تراه، وتعرفه. تستبطئ قدومه، وتشتاق إليه شوق المرأة في الدنيا إلى زوجها الغائب. إذا أغضبته زوجته، يشق عليها الأمر. تقول موبخة: دعيه من شرِّك، إنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا. يحيا الخلود، فلا يشيخ، ولا يمرض، ولا يخاف ولا يحزن.
ذهلت أم الأولاد لما وصلت إليه حاله. ترددت على المشايخ الواصلين. لجأت إلى الشيخ كراوية خادم سيدي مكين الدين. صنع لها رقية، وطلب منها أن تأتي بقطعة من عظام ميت، وشعيرات من رأسه. تدفنها — في الليلة نفسها — داخل مقبرة مهجورة. حرصت على أن تخلع ثوبها الأسود — عقب العشاء — داخل البيت، ولا تنظر إلى المرآة. الجان يتقمصون الأردية السوداء، ويختبئون خلف المرآة. وضعت على باب البيت حذاءً صغيرًا قديمًا، لإلهاء النظرة الحاسدة، المصحوبة بشهقة الإعجاب. قلبت الأواني والهون والطناجر والمواعين المفتوحة على أفواهها، حتى لا يدخلها الشر. ذبحت ديكًا أحمر اللون. دفنته في مدخل البيت، ووضعت حبة البركة في فنجان القهوة، ليعود إليها محبًّا، كما كان.
حين شكا الراكشي من مغص في بطنه، خمنت السبب، وسكتت. كانت قد مزجت خصلة من شعر رأسها بقطعة عجين. خبرتها فطيرة، وقدمتها إليه، فلا ينصرف بجسمه، أو بفكره، عنها.
لما دار بعصاه في يده، يريد أن يضرب بها ولدًا شتمه، تعثر في نفسه، وسقط على الأرض. التف الأولاد فوقه، يضربونه بأيديهم وأقدامهم، وهو يشتم ويصرخ ويستغيث. توقف الأولاد، وجروا لصيحة من أول الشارع.
ساعده أمين عزب على القيام. حدجه بنظرة غاضبة: وآخرتها يا علي؟
أخفض رأسه، وهمس: أريد طعامًا.
هتف أمين عزب: أولادك أيضًا يريدونه.
وزغده في كتفه: يا راكشي … لن يدخل الجنة من يترك عياله!
ثم بلهجة متسائلة: ما ذنب أهل أم أولادك لينفقوا عليهم بدلًا منك.
ورمقه بنظرة مستاءة: تدعي الصوفية … والصوفية لهم مهنهم.
ثم في نبرة حزينة: عبادة الله يا رجل لا تمنع من تحصيل الرزق.
وربت صدره بيده: لي أشغالي التي لا يعطلها أني أقضي معظم وقتي في خدمة العبادة!
– أنا صياد.
شخط فيه: تصطاد الهواء؟ … شف رزقك يا رجل.
فاجأ أم العيال — والجميع — عندما أتى بالبوصة المركونة في الصندرة. حملها، وحصل على الطعم والسنارة من سيد الفران. هو لا يكره الصيد. لا يكره العودة إلى البيت بما ينتظره الأولاد. إنهم يده المريضة التي تؤلمه، وإن تيقن أن انشغال المرء عن ربه حرام، فلا ينبغي أن يكون في الذهن سوى الذات العلية.
قال سيد الفران: أنت أول صياد أبيع له بالسلف.
وعلا صوته متضاحكًا: فرحتي بعودتك إلى البحر أهم من الفلوس.
هز رأسه، ولم يدخل مع سيد في كلام. قطع الميدان إلى الناحية المقابلة. جعل يساره إلى الكورنيش، ومضى. لم يأبه بالنظرات الداهشة، ولا التفت إليها. ظل في سيره إلى السلسلة.
أهمل نظرة عسكري السواحل المستنكرة.
قال الجد السخاوي: منطقة السلسلة يقول فيها السمك: تعالَ اصطدني!
ثم وهو يتلهى بمداعبة أصابع قدمه: السمك هناك — لكثرته — يقف بالدور أمام سنارات الصيادين!
قال قاسم الغرياني في تأكيد: لا يفوق تكاثر النسل بين أبناء الأنفوشي إلا سمك السلسلة!
المشكلة لم تعد في قلة الأسماك. الأجيال الجديدة من السمك فاهمة، تتغير مثل الناس تمامًا. تعرف أن هذه بوصة، وأنها تدلت للصيد. تعرف أيضًا كيف تختبئ بجانب الصخور. لا بد من محاولة أخرى حتى يخدع السمكة، فتلتقط الطعم.
قال العسكري: معك رخصة؟
قال الراكشي: طبعًا.
وأخرج من جيبه ورقة مطوية، متهرئة.
قال العسكري: هل في رخصتك إذن بالصيد في الممنوع؟
وهو يشيح بيده: كنا نصطاد في أي مكان دون استئذان أو سؤال.
قال العسكري: الآن … حُددت المناطق … لا بد من رخصة ووثائق لدخول المناطق الممنوعة.
ثم وهو يعدل البندقية على كتفه: احمد الله … حتى نهاية الحرب لم تكن تستطيع الصيد في الكورنيش كله.
– غارت الحرب … لماذا المناطق الممنوعة إذن؟!
تأمل العسكري ذقنه الكثة: أوامر يا سيدنا.
سار خطوات في اتجاه بحري. لمح — بزاوية عينه — اطمئنان العسكري، فعاد.
أدار البوصة دورة كاملة من فوق رأسه، ثم قذف السنارة في الماء. غاصت مخلفة وراءها دوائر متتالية، واصلت الاتساع حتى غابت تمامًا. ظل السلك في الماء لا يكاد يرى.
كتم صرخة، لما ثنى جسمه، فرارًا من عيني العسكري. اصطدمت البوصة بصدره. تزحلق، وتدحرج على قطع الحجارة البيضاء. تلقفه الفراغ، وهوى به في الماء.
خمن أن العسكري ربما لم يرَه. أغلق فمه، وسد أنفه بأصابعه، وظل ساكنًا.
تنبه العسكري لارتطام الجسم بالماء. توقف، وحدق: الطرطشات تعالت على قطع الحجارة، وضاقت الدوائر المتسعة في الماء. فرد ما بين ساقيه، وارتكز بقبضته على البندقية، وانتظر. حتى أمهر الغواصين لا بد لن يطفو، وانتظر.
قال العسكري: شايفك.
أيقن أنه وقع في الفخ. لو أن شعر رأسه طفا فوق الماء، فلن يفلت. خذله ارتقاء الصخور، فاجتذبته المياه إلى أسفل. سقط دون تحوط، وظلت كلمة العسكري بلا انتهاء. القبض عليه في منطقة محظورة يعني البيات في الحبس، البعد عن البيت. لم يحمل البوصة إلا بعد أن هددت الشروخ بالانهيار. ضاق تنفسه، فتسلل الماء إلى أنفه وفمه. شهق، وهم بالتنفس من فوق الماء … لكن صوت العسكري واصل التحذير.
طال كتمه لنفسه. ظل فمه مغلقًا، وأصبعاه يقبضان على أنفه. أحس أنه يختنق، والمياه ثقيلة ثقيلة، أقوى من قدرته على الطفو، فهي تسحبه إلى أسفل، تشده إلى القاع.
شمل جسمه تعب، وانفتح فمه بلا إرادة، وتهدلت يداه، وتسلل الماء إليه بخدر غريب، وتماوجت المرئيات قاسية، جميلة. اجتذبه قرار الماء. لامست قدماه الطحالب اللزجة والأعشاب في القاع. قوة غامضة مجهولة، تأخذه إلى أسفل، تحتضنه، تحنو عليه. صاد من أنهار الجنة أسماكًا لا تجري في بحر كما في الدنيا، من سكر ولوز وعسل. يتمناه فيكون، يمد يده فيواتيه، ويأكله فتسري في البدن نشوة. الأنهار خمر، والقطرة من السمك تسقط في البحر، يصير حلوًا، عذبًا، له رائحة الورود.
أبدت المرأة فزعها لما رأته ينثر الماء من يديه بعد الوضوء: لا تفعل ذلك … أنت تنتر حسن طالعك طول اليوم! … وقال عبد الوهاب مرزوق في قهوة الزردوني: ربما تحجب سحابة صغيرة، عابرة، شمسًا كاملة! … وقال الشيخ يوسف بدوي: ربما الابتلاء طريقك للوصول إلى مراتب الاستحقاق! وطالت الوقفة حتى يأتي السمان. وتساءل: امتلك الحاج قنديل البحر … فهل يمتلك البر أيضًا؟ … وقال الحاج قنديل: أصبح للجربوع صوت يرفعه! … وبدت المرأة مسكينة، مهمومة، وبدت شيطانًا ينغص عليه حياته. وقال: لن أظل العمر كله تحت قدمي الحاج قنديل. وقال: لا أحلم بالنعيم … لكن عشرين عامًا في البحر، تعطيني الحق في أن أكون حر نفسي. وقال الشيخ: إن الاستغاثة لا تكون إلا بالله تعالى، والتطهير بداية الطريق إلى الله. بداية المجاهدات والمقامات والأحوال ومعرفة الله سبحانه. وقال الشيخ: إذا ترقيت في مقامات الإيمان فستصل بعون الله إلى مقام الإحسان، فتعبد الله كأنك تراه.
دنيا واسعة، تفيض بلطائف الحكمة، وحقائق المحبة، وأنوار العلم. المساجد والحصر والأبسطة والمنابر والأعمدة والقباب والأضرحة والأهلة والمصاحف والمسابح والبخور والحضرة وحلقات الذكر وإيقاع الطبول وأصوات المنشدين والصمت والانزواء والانفراد والتواجد والشطح والهزات العنيفة والتهجد وإقامة الصلاة وقراءة الأوراد وتلاوة القرآن والتأمل في الملكوت وأهازيج السحر: تسابيح المنشدين والمؤذنين، ومشاهد الصعق والوجد والبكاء والنحيب وإلقاء العمائم ونزع الثياب والزحام وأصوات الألوف من أولياء الله الصالحين، وأصوات الملايين من طالبي البرء والشفاعة والستر، ورياضات النسك والصوم والسهر والمفاتحة والمواجهة والمجالسة والمحادثة والمشاهدة والمطالعة والمحبة والشوق والأنس والرجاء والتوكل والقرب وموارد القلوب، والتجليات تأتي وتذهب، والروح تشف، تتخفف من قيود البدن: الوحي والرؤى والملائكة والكرامات والمعجزات والصفات واللوح والقلم والحب والخمر والصبابة والعشق والندامى والشوق إلى يوم اللقاء.
حمي الوطيس، وبلغت حركة الذكر غايتها من القوة والسيطرة على الذاكرين، وعلت صيحات الوجد، وصرخات التعبير عن الأحوال، وصوت العسكري كالصدى: شفتك، والأطياف تتراءى من بعد، والأشعة المضيئة تخترق المرئيات، وتضيء نفسه.
تلقى فيض التجليات على قلبه. نزلت أمطار المدد على أرض النفوس الطيبة، والقلوب المطهرة، والأرواح المضيئة، والأسرار المقدسة. غسلت أوساخ الهم، وتمت المصافاة، وحلت المناجاة، وفتح باب القدرة. صعد سماءً بعد سماء. رنا إلى عجائب الله وآياته، امتلأ بالأنوار والمواهب، تقلب في أحوال الحب، تطلع إلى سحائب الرحمة، وأرض النفوس الطيبة، وأودية القلوب المؤمنة، وخلجان الأرواح المطهرة، والألفاظ تهب معانيها: الذوق والوجد والقبض والبسط والهيبة والأنس والغيبة والحضور والسكر والمحو والفناء والبقاء والنورانية والرؤى والصفاء والأغنيات الجميلة الغائبة المصدر، والنسائم هبت على المزامير المعلقة في جريد النخيل، فتعالت نغمات ليست من دنيا البشر.
اتسع ضيق الأكوان، وحصلت أنوار المواجهة، وصارت الروح سرًّا من أسرار الله، وأقبل القلب على رؤية مولاه، لا ظلمة، ونور العرش دائم في الليل والنهار.
سكنت الحركة، وتمطى الهدوء.