جسر إلى الحبيب
قال أبو الحسن الشاذلي: «وتصحيح العبودية، بملازمة الفقر. والضعف والذل إلى الله تعالى، وأضدادها أوصاف الربوبية … فمالك ولها؟ … فلازم أوصافك. وتعلق بأوصافه، وقل من بساط الفقر الحقيقي: يا غني مَن للفقير سواك؟ ومن بساط الضعف الحقيقي: يا قوي من للضعيف سواك؟ ومن بساط العجز الحقيقي: يا قادر من للعاجز سواك؟ ومن بساط الذل الحقيقي: يا عزيز من للذليل سواك؟ … تجد الإجابة كأنها طوع يدك.»
فوجئ حمادة بك بطرقات قاسم الغرياني على باب البيت في الصباح الباكر. طفت جثة علي الراكشي — بعد أيام — في خليج أبو قير. كانت بطنه مبقورة، والسمك أكل أحشاءها. تعرَّف عليه محمد كسبة من المصحف الفضي المتدلي من عنقه. صرخ: علي!
كان اختفاء الراكشي شاغل الجميع.
في اليوم الثالث لغيابه، سألت أم الأولاد في الحلقة. يجوب الشوارع، ويتردد على الجوامع والزوايا والقهاوي. ربما أراح جسمه في الحديقة المقابلة لمستشفى الملكة نازلي، أو في حديقة سراي رأس التين، أو في مسجد المسيري، فلا ينام أكثر من ليلتين خارج البيت.
غاب محمد الراكشي عن المدرسة. توزع مع الرجال في الشوارع والمساجد والكورنيش وورش المراكب والقهاوي ومستشفى رأس التين وحديقة القصر ونقطة الأنفوشي وقسم الجمرك.
قال حمودة هلول: آخر مرة رأيته فيها، كان يحمل البوصة والغلق قرب السلسلة.
قال قاسم الغرياني: أذهب يوسف بدوي عقله … وتركه!
بذل حمادة بك مساعيه، فنقلت الجثة — بعد تشريحها — إلى بيت الراكشي.
دفع أمين عزب ثمن الكفن. تناهى — ساعة غسله — من مكان قريب، أذان وقت من أوقات الصلاة. وحين وقع القطن عن سوأته، رفع يده اليسرى، ووضعها على السوأة. قرأ المغسِّل: نقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، فانقلب الراكشي معه يمينًا وشمالًا.
هرع الناس إلى الجنازة دون أن يخبرهم أحد. هاتف خاطب أسماعهم. مات علي الراكشي ولي الله، فاذهبوا للصلاة عليه، ودفنه. أضاءت الدكاكين أنوارها في ميدان الأئمة والموازيني وشارع الميدان. تقدم الجنازة طلبة من المعهد الديني. يرتدون الجبة والكاكولا، وينشدون — بنغمة موسيقية — بردة البوصيري. كان غالبية طلبة المعهد يعرفونه بالاسم. زار زكي تعلب. شرب أدوار الشاي، وشارك في الحفظ والمناقشات. دخل في صداقات. سهر إلى صلاة الفجر. أظلت الجميع طيور، ليست مما اعتاد الناس رؤيتها. ليست عصافير ولا سمان ولا نورس ولا حمام ولا يمام. إنما هي طيور صغيرة، ملونة بما يضوي، كأنه قطع الشمس.
تنبه المشيعون من أهل بحري لمكانة صاحب الجنازة. السؤال الذي حركه مرأى الجمع المتدافع: من الميت؟ يجيبون عليه: هذا ولي فاضل! يذوب الناس في الجنازة. يضيفون إلى اتساعها وعمقها. يلتمسون البركة والمدد.
أطال النعش التوقف أمام جامع المرسي. في الناحية القريبة من المقام. أحفق الرجال في تحريك النعش، أو أقدامهم. تقدم آخرون للمساعدة … لكن النعش لم يغادر المكان. علت التهليلات والتكبيرات. المريد يودع شيخه، يستأذنه في المغادرة. السلطان يبذل له نصحه وتوجيهه، وما يجب قوله عندما يحاسبه الملكان.
– بالإذن يا سلطان!
كرر الرجال ما تعالى به صوت محمد صبرة. أتبعوه بقراءة الفاتحة، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، والشهادتين، وإنا لله وإنا إليه راجعون. تحركت — بالكاد — أقدام الرجال، وتحرك النعش. علت التكبيرات والتهليلات. سمعها عساكر الحرس الملكي في سراي رأس التين.
كادت قيامة الناس تقوم لما انتابهم من عجب وهيبة وخوف ودهشة. ما حدث خارقة ولا خوارق الأولياء. امتدت الأيدي إلى النعش تحاول ملامسته.
انتوى قاسم الغرياني — إذا أبطأ النعش أمام أضرحة الأئمة الاثني عشر — أن يدعو لإنزال جسد الراكشي إلى جانب أولياء الله … لكن النعش واصل طريقه، وإن اهتز — لمرات — في أيدي الرجال. ربما ألقى السلام على الأولياء، أو دعا لهم.
الموت جسر، يصل الحبيب بالحبيب.
خرج الجد السخاوي من الجنازة على ناصية الموازيني ورأس التين. جلس على الرصيف، قبالة مكتبة النن. لوح بيده، وقال في صوت متعب: مع السلامة يا علي!
واصلت الجنازة سيرها في شارع الميدان. يزيد حجمها بالسائلين عن الميت. علي الراكشي، الصياد، بائع السمك، مريد الشيخ يوسف بدوي.
حين وصلت الجنازة إلى جامع الشيخ إبراهيم، كان العشرات قد صاروا مئات. وقف للصلاة عليه خارج الجامع أضعاف من وقفوا داخله.
ظل المشيعون على أعدادهم حتى ميدان عمر باشا، ومنه إلى ميدان النيل، ثم مقابر العامود. تزاحموا في الشارع الضيق، ومنه إلى شوارع أخرى ضيقة. سبقوا النعش، وحملوه، وأحاطوا به، وتبعوه.
لما قاربت بداية الجنازة آخر شارع الباب الأخضر، كانت نهايتها في شارع الميدان.
ولي الله كلمة السر التي اجتذبت المئات. التدافع والزحام والعرق واللهاث والدعوات والتكبيرات والصرخات والخوف من التعثر.
علت الزغاريد، وارتفعت الأصوات منغمة: يا دايم هو الدايم ولا دايم غير الله!
اندفع جابر برغوت ناحية النعش. اخترق الزحام الصاخب. مسح على النعش بأطراف أصابعه: كراماتك محفوظة يا شيخ علي!
تجاوزته الجنازة، في اللحظة التالية. دفعه الزحام خارج بحر البشر. جلس على الرصيف — أمام سور المقابر — يتأمل تمزق ملابسه.
دخلت الجنازة من باب مقابر العامود المجاور لمستشفى دار إسماعيل. تعالى صوت علي الراكشي من داخل النعش، يسلم على أصحاب القبور: السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين. ردوا السلام عليه بصوت سمعه مشيعوه.
ظل النعش ينتقل من باب حوش إلى باب آخر. يتوقف، ثم يواصل السير. لا يقوى حاملوه على فعل شيء، يجذبهم غصبًا عن أنفسهم، يستغرق توقفه لحظات، تطول وتقصر، أمام كل ضريح، ثم يسير بالناس إلى غيره. وحين أرادوا الدخول في حوش عائلة الراكشي، ثقل عليهم النعش، ولم يطاوعهم. تكاثروا عليه، يشدونه داخل الحوش، وهو يغلبهم. وقعوا على الأرض دون أن يغادر مكانه.
حاول الرجال أن يضللوا الراكشي. لفوا بالنعش مرات حتى لا يعرف إلى أين يتجهون، ثم تمضي الجنازة … لكن النعش رفض التحرك إلى الأمام … ثم اتجه — من تلقاء نفسه — ناحية حوش مهجور، تناثر فيه شجيرات صبار وقطع حجارة.
قال يوسف بدوي: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعفُ عنه وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج، ونقه من الخطايا، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، وعذاب النار.
واتجه بالقول إلى علي الراكشي: اذكر العهد الذي خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأنك رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لاريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور … فإن منكرًا ونكيرًا يتأخر كل واحد منهما، ويقول: انطلق بنا … ما يقعدنا عند هذا، وقد لُقن حجته، ويكون رسول الله حجيجه دونهما.
دهم التربي ارتباك للصوت الصاعد من داخل المقبرة: غادروا المكان، واتركوني مع رسل الله.
طمأنته لمة الناس، وتهليلاتهم، وتكبيراتهم.
قال علي الراكشي: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.
وقال في صوت متأثر: ليت الناس يعلمون بما غفر الله لي، وجعلني من المكرمين.
ورتل الصوت الرائق: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ.
وعلا صوت الراكشي بالآية: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وتلا: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
وتصاعد صوت هاتف من داخل القبر: أدخلوا الحبيب إلى الحبيب.
وسُمعت قراءة، لا يوجد مثل جمالها في أصوات القراء والمؤذنين … حين بدأ الشيخ في تلقين الراكشي ما يجب قوله، إذا سأله الملكان، سبق الراكشي في صوته الرائق النبرات: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. عشت مؤمنًا، ومت مؤمنًا. الله تعالى ربي، ومحمد نبيِّ، والإسلام ديني، ألم تعلموا أني أعلم ما لا تعلمون؟
الوصول إلى مقام المشاهدة، لا يكون إلا بعد المفارقة من هذا العالم. الفناء في الكلية، سواد الوجه في الدارين، لا وجود ظاهرًا وباطنًا، دنيا وآخرة. الفقر الحقيقي، العودة إلى العدم الأصلي. لن يسأله الله عن زكاة ولا عن حج ولا صدقة ولا صلة رحم ولا مواساة. تجلت الحقيقة بالموت. اخترق البرزخ الهائل بين الأجسام الكثيفة، وعالم الأرواح المطهرة. تألقت وجهة جميع العابدين. بلغ درجة النفس المطمئنة، سدرة المنتهى، البرزخية الكبرى. نهاية مراتب الأسمائية التي لا تعلوها مرتبة. جاوز قناطر النار، واستوجب الجنة.