النورس يحلم بالمدن البعيدة
أمسك مختار زعبلة بخرطوم الماء، يطفئ السخونة المتصاعدة من أسفلت الشارع.
اختفت الظلال في شارع أبو الوجاهة، ذي البيوت الواطئة. أُغلقت النوافذ، وبحث المارة عن الظل لصق الجدران. وثمة هديل حمام يترامى من بعيد، وصوت صفارة باخرة من الميناء الغربية.
تذكر رحلات البحر، والمدن البعيدة.
قيل إن قعقعة بسقف الحجرة فاجأته، تناثر بعده عليه نقود، أمضى وقتًا يلمها من أرض الحجرة. وقال عم محجوب حارس حمام الأنفوشي إنه لمح المرسي — ليلة غادر مقامه — يدس في يده ما لم يتبينه أحد. ورآه أصدقاء درس المغرب وهو ينزل درجات الباب الرئيسي. يمضي بخطوات مهرولة إلى الميناء الشرقية، لا يتلفت. اقتعد الكورنيش الحجري، وانشغل بالتطلع إلى نهاية الأفق.
فاجأ الجميع — بعد أيام — بشراء دكان عجلاتي في شارع أبو الوجاهة. حوَّله إلى قهوة، أنفق عليها بما يشي بقدرته المالية. علَّق عليها لافتة: قهوة البحر. اجتذب إليها الصيادين وعمَّال الميناء. وخلع الجلابية، وارتدي البنطلون والقميص.
نفى أنه حلم برؤية المرسي، أو أن النقود سقطت عليه. عثر على مظروف أسفل الرصيف، بالقرب من سيدي كظمان. تلقف نصيحة الجد سخاوي: أنت أولى بالنقود من الحكومة!
دله حمودة هلول على دكان العجلاتي المغلق. دفع مبلغًا للجَدَك، أعاد فتحه. طلى جدرانه باللون الأزرق، ورسم عليها مراكب وأسماك. حتى النصبة جعلها في هيئة باخرة ضخمة.
تساءل قاسم الغرياني ضاحكًا: بلانس أم دكان؟
قال مختار: اسمه البحر … يرحب بالصيادين وعمال الميناء.
ثم وهو يومئ برأسه ناحية ميدان أبو العباس: قارئو القرآن اختاروا قهوة مخيمخ للقاءاتهم … وهذه القهوة جعلتها للصيادين.
قال الغرياني: وقهوة الزردوني؟
– عمنا أحمد الزردوني على عيني وراسي … لكن هذه القهوة للصيادين وحدهم!
لم تشغله قلة المترددين على قهوته في البداية. ألفوا التردد على زردوني ومخيمخ. اجتذبهم بالحرج، من مجلسه وراء «البنك». وزعوا جلساتهم بين القهاوي الثلاث. وفتح زعبلة القهوة من الفجر إلى ما بعد منتصف الليل، وأذن للمترددين عليه أن يقضوا أوقاتهم اليوم كله على طلب واحد، وعرض الحساب على النوتة، فاختار الكثير من الصيادين قهوته لجلساتهم.
حفظ من ياقوت جرسون قهوة الزردوني سيم القهوجية. يستغني به عن الأسماء والنداءات المألوفة.
هز رأسه لتذكر قول ثروت: أنت هنا على البر … فما يدريك بالحياة في البحر؟!
البحر!
حياته ودنياه وترددات أنفاسه. الرائحة التي لا يخطئها أنفه. اختلاف السحن، والأمواج الهادئة، والعالية، والبواخر الضخمة، والقوارب الصغيرة، والحاويات، وأصوات الآلات، والأوناش، والشون، والأسواق، وأرصفة الشحن والتفريغ، وأختام الجوازات، والتأشيرات، وبوليس المواني، والمطاعم، والحانات، والمواخير، والعلاقات الهامسة، ودكاكين الصرافة، وتغيير العملات، واللافتات المضيئة، ولحظات ارتفاع السلم عن الرصيف، وذوبان المدن. السير في آفاق مترامية من كل الجوانب: البواغيز، وصفارات البواخر، وأضواء الفنارات، والجزر المأهولة، والقاحلة، وألق ضوء الشمس على المياه في امتداد الأفق. حتى النوات والعواصف. سقط ما اقتحم النفس من خوف. لم يعد إلا ذكرى المغامرة ومواجهة المجهول.
لن يظل طائر النورس في تحليقه على الشاطئ. مجرد طائر يحلق ويحوم. البحر مياهه وأعماقه ومراكبه:
– أنا مثل النورس … أحب ماء البحر … وإذا وضعتني في السجن أموت!
بحلقت عينا ثروت بتساؤل: ماذا تقصد؟
اهتز جسمه بالانفعال: حياتي في الأرض سجن … سأخرج منه إذا عدت إلى البحر!
البحر لم يهجره، وهو لم يهجر البحر. الظروف القاسية أبعدت، لكنه لا بد أن يعود إلى البحر. يرى — بعين الشوق — ما وراء البحر. مواني ومدن وناس. وركب في نومه «بلانس» من خشب الصندل، إنه من الذهب، وأشرعته من الحرير، وانطلاقه مطمئن في بحار لا تنتهي.
فهم من عيني ثروت وتصعبه أن عودته إلى البحر مستحيلة، لكنه على ثقة من أنه سيعود إليه. يذهب ألم ظهره بعلاج مستشفى رأس التين أو وصفات الحاج محمد صبرة، أو بركات الأولياء.
كان يرحل مع أسراب الطيور المهاجرة. يرى شواطئ وبحارًا ومدنًا بشرًا مختلفي السحن واللغات. صفافير البواخر في الميناء الغربية تذكره بالحلم القديم، بالحياة في البحر، والسفر إلى المدن البعيدة. ساح ذهنه إلى بلاد مختلطة الملامح يتمنى رؤيتها، وإن ظل مشغولًا بوقائع يومه الأخير مع يسرية.
هز كتفيه عندما قفز السؤال إلى ذهنه: هل هو الرجل الوحيد الذي تدخله المرأة البيت في غيبة ثروت؟
بدا من لهفة المرأة، وعناقها، أنها كانت على استعداد لأن تسلم نفسها إلى أول شخص تلتقي به. ليس هو بالتحديد، ولا أي إنسان آخر، وإنما رجل، رجل. يبعد بها عن حياة الانتظار والرتابة والوحشة والملل. ثروت في أسفاره البعيدة. يأتي لأيام، ويغيب لأشهر … فلماذا تبدلت مشاعرها؟ … لماذا عاملته بتلك القسوة؟
لم تكن العلاقة في ذاتها تشغله. ما يهمه هو الصور التي تلتقطها من أحاديث ثروت، حين يعود من رحلاته. لكن السؤال عاد إلى مناوشته: هل هناك آخرون في حياة المرأة؟
كر ذهنه بأسماء لا رابط بينها، وإن تصور أنه يمكن أن تعطي الإشارة نفسها لواحد أو أكثر. تأذن له — مثله — بالصعود. تقف لاستقباله أعلى السلم، وتمنحه جسدها في البسطة المفضية للسطح … قاسم الغرياني … محيي قبطان … محمود عباس الخوالقة … ومن تغيب عنه أسماؤهم وملامحهم.
تابع سربًا من الطيور، قدم من ناحية الأنفوشي، واتجه إلى نهاية الأفق في الميناء الشرقية.
قال لها: فكرت أن أكتب اسمك بالوشم على صدري.
ضربت صدرها بيدها: تريد فضيحتي؟!
أطرق لحظات، ثم رفع رأسه: خفت من ثروت.
– والناس … ماذا يقولون؟
أشاح بيده: مجرد فكرة، وأهملتها.
فاجأه تصور اكتشاف ثروت لعلاقتهما. قدوم لا يتوقعانه، فضيحة تواجهه، وتواجهها، إذا نزل السر من السطح إلى قهوة الزردوني.
أزمع ألا يصعد إلى السطح ثانية. إذا جاءته في القهوة، صارحها بخوفه. القرار مؤلم، لكن مفاجأة ثروت لهما مما يصعب عليه تصوره. هل يقتلها؟ هل يقتله؟ هل يقتلهما؟ هل يكتفي بطلاقها وخصامه؟ … يذكر أنهما تخاصما على عشرة كوتشينة في قهوة مخيمخ، ثم ما لبثا أن تصالحا. التقيا في الدحديرة الخلفية لأبو العباس. نسيا ما كان، وتحدثا كأنهما لم يتخاصما.
أتاه صوت أمين عزب، وهو يختار كرسيًّا على جانب الرصيف: جئت للتهنئة!
هتف بفرحة حقيقية: هذا أسعد أيامي!
كانت حياة أمين عزب قد تحددت بين زاوية خطاب، وشقته في شارع إسماعيل صبري. لا يتردد على الحلقة، ولا القهاوي، ولا يشارك في موالد أولياء الحي، وثار على الإمام الجديد لأبو العباس، حين تحدث عن الزوجات السبعمائة اللائي يكن للرجل المؤمن في الجنة. يهبه الله من قوة بحيث يضاجعهن كل يوم، مرة في الصباح، ومرة في المساء.
علا صوته بالغضب: أليس في الجنة من رصيد سوى الجنس؟!
كان الإمام قد عرف مكانته بين المصلين، فأهمل ثورته. أكمل الخطبة، وإن اكتفى بثواب المؤمن في الآخرة، دون أن يتطرق إلى تفصيلات.
كان يدخل الحجرة المطلة على سيدي تمراز، أول رمضان، في خلوة، يخرج منها في نهاية الشهر. يؤذيه ضوء النهار، وتتعثر خطواته لقلة المشي.
اختار الزاوية للجلوس فيها منذ صلاة الجمعة إلى ما بعد صلاة العشاء. ينصرف إلى قراءة القرآن، وكتب الدين، ويؤم المصلين، ويقصده أبناء الحي، لسماع نصائحه، وللتبرك. يغلق الباب الخشبي المستطيل، العالي، ذا الضلفتين الصغيرتين، ويهبط درجات الرخام إلى الطريق. استأجر الشقة المقابلة، بعد وفاة العائل، ورحيل الأسرة إلى بلدتها في المحمودية. خصصها لقراءة القرآن. يختتم جزءًا كل ليلة، عقب صلاة العشاء. يخصص ساعة لاستقبال أصحاب المشكلات. يناقشهم، ويشير بالحل لشدة اعتقاد الناس في علمه، كانت أحكامه ترضي الطرفين في كل خلاف. يفض منازعات الجيران، والمنازعات الأسرية. يعيد الزوجة الناشز، ويجد السبيل لعودة الحياة الزوجية بعد الطلقة البائنة، الثالثة. يتوسل بمعارفه لإلحاق الأولاد بالمدارس. يتحمَّل الإصغاء — بالساعات — لشكوى رجل من تطاول امرأته، يشتمها، فترد عليه شتيمته، شكوى امرأة من أذية زوجها، يضربها لأقل خطأ، ربما يضربها لأن مزاجه متعكر. اكتفى بالقول: أصلح الله الحال، لما شكا إليه إبراهيم القسط من أن المرأة الغجرية أزالت كل الأجزاء الظاهرة من أنوثة امرأته في طفولتها. المرأة على فراشه غائبة، لا تستجيب، وتشككه في نفسه. تردد على البلقطرية سعيًا لإطالة فترة العناق. مضغ الأفيون، وخلط سجائره بالحشيش، وزار بارات شارع البوستة والسبع بنات. استعان بوصفات شعبية: بلابيع ودهانات وتعازيم. ضرب المرأة ليسخن جسمها. صرخت، وتألمت، وظلت على همودها.
قال أمين عزب: مبروك يا مختار.
ثم وهو يحيطه بنظرة إشفاق: اللؤلؤة قد تكون في أصلها حصوة رمل أو طين … وأنت ذو معدِن طيب!
أمَّن محيي قبطان: نعم، مختار شقي … لكنه ابن ناس طيبين.
قال مختار في لهجة ترحيب: زيادة؟
قال أمين عزب: لا … موزونة.
قال محيي قبطان: أنا أفضلها سادة.
رغم بساطة أمين عزب، فإن الآخرين يشعرون بالمسافة بينهم وبينه. حاجز غير مرئي، يحسون به، وإن لم يروه، أو عجزوا عن ملامسته. ولم يكن إلقاء الأسئلة في طبعه. يكتفي بالرد على ما يوجه إليه من أسئلة. ردود قصيرة تهب المعنى، فلا تتفرع في تفصيلات.
بدا على محيي قبطان مغالبة للتردد: مررت على عم محجوب في حمام الأنفوشي لأمر، فلم أجده.
قال مختار: هذه ليلة النصف من شعبان.
يعرف أن عم محجوب يخلو إلى نفسه هذه الليلة، في حجرته. ليلة الدعاء. قدر الإنسان يُكتب هذه الليلة. إن كان سعيدًا أو شقيًّا. فيها يحدد مواليد العام التالي، ويُحدد الراحلون في العام نفسه. شجرة في الجنة هي شجرة المنتهى، تحمل أوراقًا بعدد البشر الأحياء. كل ورقة تحمل اسم شخص واحد. تُهَز الشجرة في ليلة النصف من شعبان، بعد الغروب. من كان مقدرًا له الموت خلال العام، تسقط ورقته. يلزم مسجد المسيري في تلك الليلة، لا يغادره، يؤدي ركعات متوالية كأنها التراويح، ويتلو القرآن ويردد الأدعية التي تتوسل بألَّا تسقط ورقته.
قال محيي قبطان: هذه ليلة مفترجة … يؤكل فيها الزفر.
رفت على شفتي أمين عزب ابتسامة مشفقة: أكل الزفر؟! … هل هذا هو ما يهمك؟!
مد يده في جيب السيالة: معي دعاء ليلة النصف من شعبان … اشتريته من ميدان أبو العباس.
قال أمين عزب: هذه ليلة مباركة … لله فيها عتقاء من النار … لا يحصيهم العد.
أهمل محيي قبطان تردده. اقترب من مختار زعبلة: معك فلوس؟
ثم وهو يبدي الأسى: المعلم الخوالقة لم يعطني سلفة الشتاء.
قال مختار زعبلة: اطلب منه.
في لهجته الأسيانة: طلبت … اكتفى بإن شاء الله!
ومضت عينا مختار بالتذكر: مل على المعلم أحمد الزردوني.
ارتفع حاجباه: ولماذا الزردوني؟
قال مختار: أعرف أنه مقتدر!
يكفي أنه يرضى الآن بالأجل على المشاريب.
ربت مختار صدره بأصابعه: وهل تأخرت عنك؟
وهو يخفض رأسه: البيت يحتاج إلى الأكل لا المشاريب.
دس زعبلة يده في البنك. طوى يد محيي قبطان على ما قدمه إليه: لم تعرف الرِّجل طريقها إلى القهوة بما يغطي المصاريف!
هتف أمين عزب، وهو يفز في مجلسه: ولد!
رأى أولادًا يعاكسون علي الراكشي، يجذبون ملابسه، ويقذفونه بقطع الحجارة. كان يرتدي سيالة حال لونها، وصديريًّا ممزقًا، تساقطت أزراره.
جرى الأولاد بالخوف من المكانة التي يحتلها أمين عزب في نفوس آبائهم.