مواصلة المدد
اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا، من حيث نعلم، فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم؟
اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا، وحكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا.
قال عم سلامة: الغداء كل يوم خميس على حساب حمادة بك.
قال مؤمن الدشناوي: قرديحي أم باللحم؟
قال عم سلامة: في كل طبق خضار قطعتان كبيرتان من اللحم الشمبري.
عم سلامة يقف وسط الحلل الهائلة الحجم، خلف بنك من الرخام، يلاصقه جرن من الأسمنت، إلى جانبه ثلاثة صفوف من الأطباق، وجردل ماء، في داخله الملاعق والشوك، والبخار يتصاعد بالحرارة. وفي الزاوية حوض صغير.
الموائد توازت لصق الحائط، غُطِّيت بالمشع، فوقها ملاحات وطفايات سجاير من البلاستيك الملون. على جانبيها الكراسي مشغولة وخالية، والمروحة المتدلية من السقف تدور في رتابة، وثمة أصوات نساء يغنين على عربة كارو في شارع السيالة:
قال صابر الشبلنجي: نقلة الفول تضمن لك الآن أكلة معتبرة.
أطلق الدشناوي من أنفه ضحكة مبتورة، وواصل الأكل.
خصص له المستوقد عربة يد. ينقل عليها قدر الفول من المستوقد بشارع المحافظة القديمة إلى الطنطاوي بشارع التتويج، وإلى مطعم النبلاء، وجمعية مائدة الفقير بشارع إسماعيل صبري.
كان يشارك عم سلامة في الخدمة. يرتدي الفوطة البيضاء، يدق عجينة الطعمية في الجرن، يقشر الخضار، يعد خلطة الدقة من الفول السوداني والسمسم والحمص والزعتر والكمون والكسبرة والنعناع، يوزِّع على الموائد أرغفة الخبز والملاعق والشوك وأكواب الماء، يطمئن إلى عدم خلو الملاحات.
فز مختار زعبلة من جانب صابر: هذه رائحة إسطبل.
ضحك صابر باستهانة.
ألف التصاق جسمه برائحة العليق وروث البهائم. لا تذهب باغتساله في مسقاة الخيل. امتلأت غرفته بأجولة الذرة والفول والشعير والتبن، وتساندت على الجدران كومات البرسيم الصابح.
وضع ثيابه في ماكينة التبخير بحمام الأنفوشي. أطال وقفته تحت الدش … لكن الرائحة ظلت ملتصقة بجسمه.
قال له عم محجوب: هل يصلح غزل المياس لصيد البساريا؟
ورماه بنظرة مؤنبة: حمامنا لا ينفعك … جلاخة جسمك تحتاج إلى مكبِّس في حمام شعبي.
قال صابر: هل هذا حمام الملك؟!
قال عم محجوب: خيل الملك أنظف منك.
طلب مختار زعبلة الملَّاحة من الدشناوي. لم يضعها — بتعمد — في يده. دفعها إليه، وهمس بالشكر.
قال مؤمن وهو يهز كتفيه: لا تشكر على الملح!
قال صابر لمجرد أن يدور كلام: الولد أبو بكر … ابن علي الراكشي.
التقط تنبه الجالسين.
صحا على حركة في الإسطبل. خمن أن أحدًا تسلل ليقطع ذيول الخيل بالموسي، فينتفع بشعرها. شهق للمشهد المفاجأة: الولد أبو بكر يعدل وقفته وراء بغلة صغيرة، أودعها صاحبها. دفع البغلة إلى زاوية الإسطبل.
– من قلة الحريم يا ابن الكلب؟!
قال عم سلامة: لا تشتم أباه … فهو مبروك!
قال مختار زعبلة متذكرًا: رأيت الراكشي في البلقطرية أمس … يبدو أن جذبته اتجهت إلى الكيف!
قال عم سلامة: أعرف أن الراكشي صاحبك.
قال زعبلة بلهجة معتذرة: نسلي أنفسنا.
هتف عم محجوب: تسلي نفسك بأذية خلق الله!
قال عم سلامة: الراكشي في بحري الآن بركة.
قال صابر: كان لدينا حماد واحد … صار لدينا اثنان.
قال عم سلامة: الخبل من شروط الولاية.
علا صوت صابر بالاستنكار: جعلته وليًّا؟
مط عم سلامة شفته السفلى: من يدري؟!
اصطدمت يد صابر — عفوًا — بالملاحة. سقطت، وتناثر الملح مختلطًا بنشارة الخشب التي غطت الأرض.
قال عم سلامة لمؤمن: التقط هذا الملح.
وهز أصبعه أمام عينيه: حاذر ثانية من وقوع الملح.
وعلا صوته بنبرة وعظية: إن وقع غصبًا عنك التقطه جيدًا، حتى لا تعاقب يوم القيامة بالتقاطه برموشك من صخور جهنم.
واتجه إلى مؤمن الدشناوي: ضع أمام عمك الحاج سلطة خضراء بدلًا من البصل.
كان الحاج محمد صبرة يتردد على المطعم من باب المؤانسة. عُرف عنه أنه لا يقرب اللحم، ويبدي ضيقه لرؤية حيوان أو طير يذبح. وكان يرفض تناول ما يغير نكهة الطعام كالبصل والثوم والفجل، فلا يؤذي الزبائن برائحة فمه عند الحلاقة. وظل على عادته بعد أن اكتفى بالتطبيب، وترك الحلاقة لصبيانه.
لما طالت وقفته، تململ، ومضى.
أزمع أن يضمر بطنه بالصيام، للسباق في حلبة النجاة. يروض نفسه بالجوع، حتى تظهر له مقامات الكشف، يصطفيه الله بنور الأنوار. أفضل لو وقف أمام أبواب الجنة. يتطلع إلى المائدة التي تحدث عنها النبي. توضع بين يدي ولي الله. أطباق من الذهب الأحمر، مكللة بالدر والجوهر والياقوت والزبرجد، عليها فواكه لا يوجد ما هو أجمل منها، ولا ما هو ألذ من طعمها، ويشرب بكأس المحبة من بحر الوداد. يقبل طائر، فيقول: يا ولي الله، أما إني قد شربت من عين السلسبيل، ورعيت من رياض الجنة تحت العرش. وأكلت من ثمار كذا طعم أحد الجانبين مطبوخ، وطعم الجانب الآخر مشوي، فيأكل منه ما شاء، وعليه سبعون حلة، ليس فيها حلة إلا على لون آخر. في أصابعهم عشرة خواتم، مكتوب على الأول: سلام عليكم بما صبرتم، وعلى الثاني: ادخلوها بسلام آمنين، وعلى الثالث: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون، وفي الرابع: رفعت عنكم الأحزان والهموم، وفي الخامس: لبسناكم الحلي والحلل، وفي السادس: زوجناكم الحور العين، وفي السابع: ولكم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون، وفي الثامن: رافقتم النبيين والصديقين، وفي التاسع: صرتم شبابا لا تهرمون، وفي العاشر: سكنتم في جوار من لا يؤذي الجيران.
جاوزت خطواته مطعم النبلاء.
تنبه، فعاد إليه.
كان الهزال قد امتصه، وملابسه لم يغيرها منذ فترة طويلة. يرتدي صديريًّا ممزقًا على اللحم. ظهر ما يشبه قاعدة الشعر الأسود المتكاثف على الصدر، تنتهي بصفين متقابلين، متشابكين، ينتهيان إلى السرة. لم يُعنَ بنظافتها، فغطى موضعها طين وأوساخ.
مبنى التصوف ودعامته، التمسك بالفقر والافتقار.
لم يعد يضيق بالجوع. الجوع يكسر الشهوة. اختار الجوع والعزلة والمجاهدة والسهر. الطير يدبر الله رزقها يومًا بيوم. يشتاق إلى جنة الأفعال. الجنة الصورة من جنس الطعام الأشهى، والأشربة العذبة، والمناكح التي تهبه لذة تفوق تصوره. القصور من لؤلؤ. في كل قصر سبعون دارًا من الياقوت الأحمر. في كل دار سبعون بيتًا من الزمرد الأخضر. في كل بيت سرير. على كل سرير سبعون مائدة. على كل مائدة سبعون لونًا من الطعام. في كل بيت سبعون وصيفًا ووصيفة. الحجرات بلا مغاليق من فوق، ولا عماد من أسفل. يطير إليها أهلها أشباه الطير، مع ضخامة أجسامهم. بناؤها لبنة من ذهب، ولبنة من فضة. ترابها المسك والكافور. حشيشها الزعفران. أبوابها من الجوهر. حصباؤها اللؤلؤ. ماؤها أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل المصفَّى. وفيها من الحور العين ما لا يحصر عدده إلا الله، ومن النعيم ما لا ينقطع أبدًا. جوارٍ أبكار قد علمن القرآن، يقرأنه بأصوات تشجي القلوب، وتشتهي الأسماع منها، ونهر يقال له الرحمة. يجري في جميع الجنان، ونهر ينبت الجواري والأبكار، وقبة من كافور أبيض، معلقة بلا عمد تلزمها، ولا علاقة تمسكها، وشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، فلا يقطعها. ورقها برود أخضر، وزهرها رياض صفر، وأغصانها سندس، وثمرها حلل، وصحفها عسل وزنجبيل، وبطحاؤها ياقوت وزمرد، وثمار أشجارها أصغر من الرمان، وأضخم من التفاح، وحلاوتها كحلاوة العسل. من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابه، أو صحته. له كل ما يشتهي من أكل وشرب ولباس ونكاح وركوب. يشتهي الطير، فيخر بين يديه ملقًى نضيجًا، لم تمسه نار. يأكل منه حتى يشبع، ثم يطير. وإذا اشتهى الشراب، جيء بإبريق، فيقع في يده. يشرب، ثم يعود الإبريق إلى مكانه. على نهر البيدخ، جوار نباتات. إذا أعجبت جارية رجلًا، مس معصمها، فتتبعه، وتنبت مكانها. وإذا اشتهى للولد، كان حمله، ووضعه، وسنه، في ساعة واحدة كما يشتهي. وإذا اشتهى زيارة أحد إخوانه، طار من سريره، حتى يكون بحذاء سرير أخيه. يباح الخمر والحرير والذهب. تمر السحابة تقول: أتريدون أن أمطر لكم؟ … فلا يتمنى شيئًا إلا مطره. يرى الثمرة في الشجرة، يشتهيها، فيقول الغصن: خذني يا ولي الله. يسأل: من أعلمك بما في نفسي؟ … يقول الغصن: الذي ارتضاك لجواره. يتناول الطعام في أطباق من الياقوت الأحمر والأصفر والأبيض، وأكواب من الذهب الأحمر، مملوءة بالماء واللبن والخمر والعسل والتسنيم والزنجبيل والسلسبيل والرحيق المختوم. حاجته عرق، يسيل من جلده، مثل ريح المسك.
دعاه الحاج محمد صبرة، فرفض.
قال له يوسف بدوي: في قول لرسول الله: من صبر على القوت الشديد، صبرًا جميلًا، أسكنه الله الفردوس حيث شاء.
أكرمه الله بالحياء والخوف والانتباه واليقين. أذهب عنه الشك والوهم. كسر حظوظ نفسه، وقطع الطمع في الدنيا، وتجرد للآخرة. احتذى المشايخ الكبار فيما حرصوا عليه؛ أزمع الصبر على قلة الكلام والنظر والحركة والمنام والطعام والشراب واللباس واعتزال الناس، حتى يختاره الله للحياة في الجنة. يدخل الرحاب الواسعة الطاهرة. ينادي المنادي: إن لكم عند الله موعدًا. يسأل الأولياء والصالحون: ألم تبيض وجوهنا، وتنجنا من النار، وتدخلنا الجنة؟ … يقول المنادي: بلى. ويكشف الحجاب، ما ينالون شيئًا أحب من النظر إليه. يدخل مع رجال ليسوا بأنبياء ولا شهداء. يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنازلهم عند الله. يكونون على منابر من نور. يغني إسرافيل للملك القدوس، لا تبقى شجرة في الجنة إلَّا مادت، ولا ستر ولا باب إلا ارتج، ولا حلقة باب إلا طفت بألوان طينها، ولا أجمة من آجام الذهب والفضة إلا زمرت بفنون الزمر، ولا حوراء إلا غنت بأغنياتها، ولا طائر إلَّا غرد بلحنه. تردد الملائكة الأغنيات، وتتضاعف اللذة، وتغنى الحور العين بأجمل الأصوات: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بقوة إيمان. ونحن الخالدات فلا نموت، ونحن المقيمات فلا نظعن. طوبى لمن كان لنا، وكنا له. لا ليل ولا نهار، ولا شمس ولا قمر، ولا حر ولا برد. الوقت دائم كما قبل طلوع الشمس. جنات الجلال، ودار السلام، والمأوى، والخلد، والنعيم، والفردوس، والقرار، وعدن. جميعها لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وترابها المسك الأذفر والكافور، وحشيشها الزعفران، وقصورها اللؤلؤ والياقوت، وأبوابها من الجوهر. علو ضلفتي كل باب منها خمسمائة عام، وحصباؤها اللؤلؤ، وماؤها أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأفضل أنهارها ستة: الرحمة، والكوثر، والكافور، والتسنيم، والسلسبيل، والرحيق المختوم، وأنهار أخرى كثيرة، لا يعلم عددها إلا الله. نخيلها له جذوع من الذهب، وجريد من الذهب، وأقماع من الذهب، وثمارها ألين من الزبد، وأحلى من العسل، وثمة شجرة، يخرج من أصلها خيل ذوات أجنحة مسرجة، ملجَّمة، يركبها أولياء الله فتطير بهم حيث شاءُوا. الحجرات من أنواع الجواهر، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها. فيها من النعيم والثواب والكرامات ما لا أذن سمعت، ولا عين رأت. وفي يوم الجمعة يؤتون بخيل مسرجة، ملجمة، لا تروث ولا تبول يركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله.
أعاد سلامة دعوته: ادخل يا شيخ علي.
تعنيف السلطان له على معاملة سيد الفران، بدلت معاملته لمن يترددون على المطعم. حتى من يطلبون التعامل بأجل.
مد الراكشي يده إلى أعلى. توالى التقاطه ما لم يروه، وقذف به في فمه، وراح يمضغ في استمتاع.
اتسعت عينا صابر بالدهشة: ماذا تفعل يا رجل؟
وهو يواصل المضغ: طعام السماء أفضل من طعامكم.
أدار صابر أصابعه بجانب أذنه: أصابه الخرف.
صرخ الراكشي: المخرف أبوك! … هذا طعام من الجنة لا تراه الأعين الكافرة!
وداخل صوته تهدج: أنتم تأخذون من الجيب … وأنا آخذ من الغيب.
همَّ الراكشي بالانصراف … لكن قرصة الجوع دفعته إلى المائدة القريبة.
سكب قطرات من الماء على الأرض، ثم شرب الكوب دفعة واحدة.
علا حاجبا مؤمن الدشناوي: لماذا؟
قال وهو يواجه الطعام: حتى يشرب إخوتنا.