كارميلا … مرة أخرى!
انقض الشياطين الأربعة على قارب «برونو» يبحثون عن المظروف الخطير … ولكن بحثهم كان عبثًا … فلم يكن هناك أثرٌ للمظروف مطلقًا … لقد كان فَقْدُ المظروف بالنسبة لهم كارثةً لا يمكن تعويضها … وفجأةً قالت «زبيدة»: ألَا يمكن أن يكون «برونو» قد عثر على المظروف؟!
وأحس «أحمد» بشيء كالسهم يُصيب قلبه … لقد قال أحد الرجال عند مرسى القوارب: إن هناك أشخاصًا آخرين سألوا عن «برونو» … إنهم بلا شك من رجال اتحاد العصابات … و«برونو» الآن بين أيديهم في الأغلب … فإذا كان قد عثر على المظروف، فلا شك أنه سلَّمه إليهم …
بدا على وجه «أحمد» آثارُ ما يُعانيه من توتُّر وقلق … واتجهوا مشيًا إلى ميدان سان ماركو … واختاروا مقهًى يمكن منه مراقبة محل الدانتلا التي تملكه أم «كارميلا»، وجلسوا يتناولون إفطارهم في صمت …
كان «أحمد» يفكر في «كارميلا» … وفي «برونو» … «كارميلا» المطربة الصغيرة التي تحدَّت رجال العصابات، وأعطته المظروف وفاءً لذكرى أبيها «بازوليني» … أين هي الآن؟ وهل صحيح استطاعت أن تهرب إلى فرنسا؟! و«برونو» البحَّار الطيب الذي قَبِل نقلَهم ليلًا بعيدًا عن فينسيا … هل هو الآن في أيدي رجال العصابات؟! هل يعذبونه؟ هل اعترف بنقلهم؟ هل معه المظروف؟ هل سلَّمه؟ هل هو حيٌّ … أم أن العصابات قضَت عليه بما عُرفت به من وحشية مع خصومها؟
عشرات الأسئلة كانت تطوف بذهن «أحمد» وهو يجلس على مقعده يشرب الشاي … ويرقب محل الدانتلا … إنهم في مشكلة حقيقية … من أين يبدأ الحل؟!
وقالت «إلهام» كأنما تقرأ خواطره: يجب أن نُرسل إلى رقم «صفر» تقريرًا بكل التطورات التي حدثَت هنا …
زبيدة: إنني أتفق مع «إلهام» في ضرورة إرسال تقرير إلى رقم «صفر»؛ فإن بقاءَنا هنا لا معنًى له … ما دام المظروف غيرَ موجود، خاصةً وأنني أرجح أنه سقط منك في القارب ليلًا، وأنه الآن فوق الأمواج تحمله إلى حيث لا ندري.
قال «عثمان» بحماسته المعهودة: إذا كان في المظروف أسماء رجال العصابات الأربع وطُرُق تهريب المخدرات إلى الشرق الأوسط، وأسماء العملاء في البلاد العربية، فلماذا لا نحاول نحن معرفة المعلومات مرة أخرى؟ لماذا لا نُجبر أحد زعماء العصابات على الاعتراف … وكما كتب «بازوليني» رسالتَه نحصل على رسالة أخرى من أحد زعماء العصابات؟!
ساد صمتٌ طويل ثم قال «أحمد»: إنني شخصيًّا أرحب بهذا الاقتراح، ولكن المشكلة من أين نبدأ؟
إلهام: إنكما تفكران في الصدام مع اتحاد العصابات، وكل عصابة كفيلة وحدها بالقضاء علينا … يجب أن نعودَ الآن إلى الفندق ونُعدَّ تقريرًا إلى رقم «صفر» بكل ما حدث ثم ننتظر تعليماته … لا تنسَوا أن هذه هي الأوامر التي درسناها في المقر السري … ونحن لا نستطيع مخالفتها.
وغادروا المقهى في طريقهم إلى الفندق … وكانت الشمس حاميةً والسائحون من جميع أنحاء العالم يتزاحمون في ميدان سان ماركو … يشترون التذكارات، ويقفون أمام الفنانين الذين يرسمونهم مقابل بعض الليرات.
وفي وسط هذا الضجيج ارتفع صوت بائع جرائد يقف بجوار مقهى «فلوريان» الشهير. كان البائع يصيح: اختفاء المطربة «كارميلا»! وهرع عشرات من الناس إليه يشترون صحف المساء التي نشرت الخبر في صفحاتها الأولى.
وأسرع «أحمد» يشتري نسخة من كل صحيفة نشرت الخبر … وأمسك كلُّ واحد من الشياطين الأربعة بصحيفته وأخذ يقرأ …
كانت التفاصيل كلها متشابهةً … فقد أبلغ صاحب كازينو الليدو الشرطة ليلًا بأن المطربة «كارميلا» لم تأتِ للغناء في موعدها، وطلب البحث عنها.
وأسرعَت قوات الشرطة إلى منزل المطربة، فوجدَت الباب مكسورًا … ووجدَت ثياب المطربة مبعثرةً … ولم تكن «كارميلا» موجودةً، وقد ظل رجال الشرطة يبحثون عنها طول الليل، وحتى موعد طبع الصحف لم تكن «كارميلا» قد ظهرت.
كان «أحمد» منهمكًا في القراءة … وكاد يصطدم أكثر من مرة بأشخاص يمرون أمامه … ولكن رغم انشغاله أحسَّ بيدٍ تُوضع في جيبه. وعندما نظر حوله خُيِّل إليه أنه رأى شخصًا يندسُّ وسط السائرين مبتعدًا … ووضع «أحمد» يدَه في جيبه ووجد ورقةً صغيرة أخرجها … وفتحها … كانت رسالةً من بضعة سطور:
«إننا نعرف مَن أنت … و«كارميلا» في يدنا … و«برونو» في الآخرة … ونحن لا نريد منك إلا المظروف الذي سلَّمَته لك «كارميلا» … فإذا لم تفعل فسنقضي على «كارميلا» كإنذار أخير لك … ثم نقضي عليكم جميعًا … إنكم لن تستطيعوا مغادرة فينسيا مطلقًا … ولن تستطيعوا إبلاغ الشرطة … فهي أولًا لا تستطيع أن تَصِل إلينا … وهي ثانيًا تبحث عنك بتهمة القتل. لقد عرفنا من المرحوم «برونو» أنكم تنزلون في فندق سان سباستيانو … وسنتصل بك ليلًا …»
وكانت الرسالة بلا توقيع. ولكن تحت السطر الأخير، كانت هناك أربعة خطوط سوداء … عرف «أحمد» أنها بالتأكيد رمزٌ لاتحاد العصابات الأربع.
لم يلحظ أحدٌ من الشياطين الثلاثة ما حدث … وبعد أن فرغوا من قراءة الصحف التفتوا إلى «أحمد» ووجدوه غارقًا في التفكير …
ووصلوا إلى الفندق … وصعدوا إلى غُرَفهم … ومن نظرة واحدة أدركوا أن الغُرَف قد تعرَّضَت لتفتيش دقيق.
وقال «عثمان» معلِّقًا: إنهم في غاية الجراءة والدهاء، كيف استطاعوا دخول الغرف نهارًا وتفتيشها؟!
لم يردَّ أحد … فقد تمدَّد «أحمد» في أحد الكراسي، وأخرج الرسالة ومدَّ يده بها إلى «إلهام» قائلًا: دَسَّها أحدهم في جيبي أثناء مرورنا في ميدان سان ماركو … ومن الواضح أنهم كتبوها بعد أن فتَّشوا الغرف، ولم يعثروا على المظروف.
وقرأت «إلهام» الرسالة … واستمع «عثمان» و«زبيدة» إليها باهتمام … فلما انتهَت من قراءتها قال «عثمان»: إن معهم جميعَ الأوراق الرابحة … ونحن لا نملك شيئًا … ومع هذا فمعنا ورقة واحدة هامة.
زبيدة: أي ورقة؟
عثمان: إنهم يظنون أن المظروف معنا. وهذا يكفي.
إلهام: هل تقصد أن نساوم؟
عثمان: طبعًا … ونكسب وقتًا حتى نتمكن من عمل شيء.
إلهام: ألَا تُرسل تقريرًا إلى رقم «صفر»؟
عثمان: ماذا سنقول في التقرير؟ … إننا تصرَّفنا بغباء وفقدنا المظروف.
سكتَت «إلهام»، وساد الصمت المكان، وتركَّزت النظرات على «أحمد» في انتظار رأيه … وأخيرًا تحدَّث «أحمد» قائلًا: سننتظر حتى تتصل العصابات بنا، ثم نرى ما يمكن عمله.
عثمان: وماذا تنوي أن تفعل؟
أحمد: كما قلت أنت بالضبط، سنساوم ونكسب وقتًا لعلنا نجد ثغرةً نَنفُذ منها إلى عالم هؤلاء المجرمين ونتمكن من إنقاذ «كارميلا». فلقد وقفت «كارميلا» معنا موقفًا شجاعًا وصلبًا … وتعرَّضَت للقتل من أجل أن تُنقذنا وسلَّمَتنا المظروف ورفضَت أن تتقاضى ثمنه … فإذا كان المظروف قد ضاع، فعلى الأقل يجب أن نُنقذ هذه الفتاة الشجاعة.
زبيدة: إنني أتفق مع «أحمد» تمامًا فيما يقول، ولكن عندي فكرة … وبدلًا من أن ننتظر أن تتحرك العصابة نتحرك نحن.
والتفت إليها الشياطين الثلاثة باهتمام.