امسك … نشال!
كان صوت «كارميلا»، ولكنه لم يكن الصوتَ الجميل الدافئ الذي سمعه «أحمد» مرارًا في الحديث والغناء … كان صوتًا مختنقًا حزينًا …
وقالت «كارميلا»: «ريمون»؟
ردَّ «أحمد»: «كارميلا»؟
كارميلا: أنا آسفة جدًّا ولكن أرجوك إذا كان المظروف ما زال معكم أن تسلِّمَه لهم.
فكَّر «أحمد» بسرعة … وتصوَّر «كارميلا» وحدها وهي بين وحوش العصابات … إنها لم تكن لتقول له هذا الكلام إلا تحت الضغط والتهديد … وهكذا لم يتردد في أن يكذب سريعًا، ويقول: إنه معي.
شهقت «كارميلا» قائلةً: سلِّمه إذن إليهم أرجوك … واترك هذه العملية كلها!
ردَّ «أحمد»: إنني …
وسمع على الطرف الآخر صوتَ رجل … ثم صيحةً خافتة … وقال أحدهم: سنتصل بك بعد لحظات.
كانت «إلهام» و«زبيدة» و«عثمان» قد التفوا حول «أحمد» يستمعون إلى المكالمة … ووضع «أحمد» السماعة مكانها ثم انهار جالسًا على أحد الكراسي … لقد مرَّ بعشرات التجارب والمغامرات واجتاز أخطارًا رهيبةً … ولكنه لم يكن في أي وقت أشد ألمًا منه في هذه اللحظة وهو يسمع المطربة الصغيرة الشجاعة … وقد فقدَت شجاعتها واستسلمت … من المؤكد أنهم عذبوها بشدة وإلا لما قالت له هذا الكلام.
نظرَت إليه «إلهام»، وقالت: قلت لهم إن المظروف معك؟
نظر إليها «أحمد» وكأنه لا يراها وقال: نعم … لم يكن أمامي أن أفعل إلا ما فعلته!
لقد كانت كريمةً معي … ساعدتني … وأعطتني المظروف … ورفضَت مبلغًا خياليًّا كان من حقها … فكيف لا أهتمُّ بها؟!
إلهام: وما هي خطتك؟
أحمد: لا أدري … إنهم بالطبع سيطلبون المظروف فورًا … ولا بد من حلٍّ سريع.
فكَّرَت «إلهام» لحظات، ثم قالت بسرعة: فلتقُل لهم إننا أودعنا المظروف في أحد البنوك … وبالصدفة فإن غدًا الأحد وستكون البنوك كلها مغلقةً، فنكسب الليلة وغدًا.
قفز «أحمد» واقفًا، وفي نفس اللحظة دق جرس التليفون ورفع «أحمد» السماعة … وسمع صوتًا عميقًا يقول: سيقابلك أنت وحدك مندوبٌ من طرفنا في مقهى «فلوريان» الساعة العاشرة تمامًا … أي بعد نصف ساعة … فليكن المظروف معك … هل …
وقبل أن يُتمَّ جملته، قال «أحمد»: ولكن المظروف ليس معي الآن.
وسمع الرجل يقول بعنف: هل تخدعنا؟
أحمد: مطلقًا، لقد خشينا أن يضيع منَّا، فأودعناه في أحد البنوك.
لم يردَّ الرجل، وخُيِّل إلى «أحمد» أنه يتحدث إلى شخص بجواره، ثم عاد يتحدث قائلًا: إذا فكرتم في خداعنا فسوف تخسرون كثيرًا … ليس «كارميلا» فقط … ولكن أرواحكم إذا لزم الأمر.
أحمد: لقد قلت لك الحقيقة!
قال الرجل: أي بنك؟
أحمد: بانكو دي روما.
عاد الصمت من جديد، ثم قال الرجل: سنتصل بك مرةً أخرى غدًا.
أحمد: فليكن الاتصال بعد التاسعة مساءً، فسوف نخرج في نزهة خارج فينسيا ولن نعود قبل الثامنة.
الرجل: لا داعي لأية ألاعيب … سنتصل بك في التاسعة.
ووضع «أحمد» السماعة وقد بلَّل وجهَه العرقُ … لا خوفًا ولكن خجلًا، فلم يكن يعرف كيف يكذب.
قالت إلهام: في هذه الحالة لا بد أن نرحل فعلًا خارج فينسيا غدًا … فهم بالتأكيد سيراقبوننا للتأكد مما نقول.
أحمد: لقد رأيت أن أؤخر الموعد إلى ما بعد الثامنة بعد أن نقابل «جياكومو» حتى نستفيد من معلوماته.
زبيدة: كان هذا خيرَ ما فعلته.
جفَّف «أحمد» عرَقه، ثم تمالك أعصابه، وقال: والآن أين نذهب غدًا؟
عثمان: لنذهب إلى أي ضاحية قريبة … فنحن في حاجة فعلًا إلى الابتعاد عن هذه المدينة بعض الوقت، حتى نستطيع أن نفكر بهدوء.
أحمد: يجب أن نكون على حذر … فليس من المستبعد أن تغير علينا العصابات الليلة … لقد فتشوا غُرَفنا في وضح النهار، دون أن يتعرض لهم أحد.
زبيدة: أقترح أن نغيِّر الفندق هذه الليلة.
أحمد: لن يكون هذا سهلًا ما دمنا مراقبين … ومن الأفضل أن نتظاهر بأننا نتصرف بشكل عادي جدًّا … فهيَّا نسهر الليلة في أحد الملاهي الليلية.
وحمل كلٌّ منهم أوراقه الهامة … وسلاحه، ثم غادروا الفندق … وقد كانت «إلهام» على حق، فما كادوا يغادرون الفندق حتى لاحظوا أكثر من شبح يتسلل في الظلام خلفهم … وقرروا أن يمشوا … وأن يدخلوا أيَّ ملهًى حيث يفكرون في رحلة الغد.
كان الزحام على أشدِّه في ميدان سان ماركو عندما وصلوا إلى هناك … وكانت موسيقى مقهى «فلوريان» تصدح في الميدان الواسع … ومئات من الراقصين يدورون في رقصات مرحة … والضحكات ترتفع هنا وهناك …
كانت لحظات التوتر التي مرَّت ﺑ «أحمد» قد انتهت وأصبح أفضل حالًا. لقد عاد الشيطان القوي المسيطر على نفسه … الذكي … الرشيق … الوسيم …
فأحاط خصرَ «إلهام» بذراعه ثم مضيَا يرقصان … وابتسم «عثمان» … ونظر إلى «زبيدة» ثم دخلَا في حلقات الراقصين وأخذَا يرقصان وقد نسيَا كلَّ شيء.
كان الزحام شديدًا … والأكتاف تخبط في الأكتاف، والأقدام ترتطم بالأقدام … ولكن «أحمد» أحس فجأةً أن يدًا خفيفة تعبث بجيبه … ثم تتلاشى … وأدرك على الفور أن شخصًا يحاول نشله … هل هو نشال عادي … أم أحد رجال العصابات؟
ومال «أحمد» على «إلهام» وهمس في أُذُنها بما أحس به، وأخذَا يدوران … وقد تنبهت حواس «أحمد» كلها وأخذ يفكِّر سريعًا … هل يصطدم بالعصابات الآن، ويُثبت لهم أنه وزملاءَه الشياطين قادرون على الصراع، أم ينتظر؟!
وفجأةً حدث ما لم يكن متوقعًا … فقد صاح أحد الراقصين باللغة الإنجليزية: نشال!
وتوقَّف عددٌ من الراقصين الذين سمعوا الكلمة … وكان الشاب الذي صاح يُحذِّر «أحمد» بالتحديد … ويضع يده على كتفه … وتوقَّف «أحمد» عن الرقص، والتفت إليه، فوجده يطارد شابًّا أخذ يجري مسرعًا بين الراقصين … والشاب الإنجليزي خلفه … وأسرع «أحمد» خلفهما وكذلك فعلَت «إلهام». ومضَت الموسيقى تصدح … والراقصون يرقصون دون أن يشعر أحد بما حدث إلا من كان حول «أحمد».
ومضَت المطاردة دقائق، ولكن النشال استطاع أن يُفلت في الزحام، وتوقَّف الشاب الإنجليزي الفارع الطول وهو متسارع الأنفاس … وتوقَّف «أحمد» أيضًا بعد أن أدرك عدم جدوى المحاولة.
قال الشاب بلغة إنجليزية تشوبها لكنةٌ أمريكية: لقد حاول أن ينشلك!
أحمد: شكرًا لك لمحاولة تنبيهي.
الشاب: لقد نشلوني منذ أيام، ولحسن الحظ لم أكن أحمل مبلغًا كبيرًا … ولكني متضايق جدًّا.
أحمد: لا بأس … تعالَ أعرِّفك بأصدقائي.
قال الشاب مشيرًا إلى فتاة كانت قد وصلَت منذ لحظات: هذه «نانسي» … خطيبتي.
أحمد: وهذه «إلهام» وأنا «ريمون» … ولي صديقان آخران، تعالَ أعرفك بهما.
واجتمع الستة على المقهى يتحدثون … كان الشاب الأمريكي «فرانك» يستأجر مع أمِّه العجوز الغنية وخطيبته قصرًا قديمًا يقع في أطراف فينسيا … واقترح الشاب على الشياطين الأربعة أن يقضوا بقية السهرة عنده … فوالدته متعبة ولم تخرج … وستسعد بوجود ضيوف.
وافق الشياطين … وسرعان ما استقلوا لنشًا خاصًّا يستأجره «فرانك» مدة بقائه في فينسيا، وانطلق القارب بهم … وقد أحسَّ «أحمد» أن الأقدار تمنحهم فرصة ذهبية للإفلات من رقابة العصابات الأربع … ولكن هذا الأمل لم يستمرَّ طويلًا … فقد لاحظ الشياطين الثلاثة أن قاربًا ضخمًا أسرع من قاربهم يتبعهم خلال القناة الرئيسية. وأحس «أحمد» بغضب رهيب … إن الصدام مع العصابات أصبح حتميًّا … فليكن إذن مهما كانت النتائج …