في الجزء الأخير من الثانية!
خرجَا مرةً أخرى إلى الحديقة … في المكان الذي كان «فرانك» ورجل العصابات يتصارعان فيه … لم يكن هناك أحد … ووجدَا الرجل الذي صرعه «أحمد» قد اختفى … ولم يبقَ إلا الرجل الذي أصابَته كرة «عثمان» المطاطية الرهيبة … كان ما زال مغمًى عليه … واستنتجَا على الفور أن الرجل الذي صرعه «أحمد» أفاق … واشترك مع زميله في ضرب «فرانك» … ولكن أين هم جميعًا؟!
وجاء الردُّ سريعًا. فقد سمعَا صوتَ محركِ القارب الكبير يدور … وأسرعَا يجريان. كانت المسافة بينهما وبين القارب لا تزيد على مائة متر وفي إمكانهما في أقل من دقيقة أن يصلَا إليه … ووصلَا إلى الشاطئ … ولكن القارب كان قد تحرَّك … ولكنهما رغم ذلك ظلَّا يجريان؛ فقد كانت القناة التي يسير فيها القارب ضيقةً … وفي إمكانهما أن يقفزَا إليه. وازداد من سرعتهما تدريجيًّا في ظل جدران البيوت حتى لا يراهما مَن في القارب. وأخذَت المسافة بينهما وبين القارب تضيق تدريجيًّا ثم جاء الوقت المناسب، وقفز «عثمان» واستقر على ظهر القارب … ثم قفز «أحمد» بعده … واهتز القارب عندما استقرَّا عليه … وتحركت الأحداث سريعًا.
كان القارب الكبير قد انتهى من اجتياز القناة الضيقة. ووصل إلى الجراند كانال، وهو الممر المائي الرئيسي في وسط مدينة فينسيا … وأطلق لنفسه العنان جاريًا كالصاروخ، وانطلقت رصاصة مرَّت بجوار رأس «أحمد» الذي أسرع ينبطح، أما «عثمان» فقد ألقى نفسه على السطح وتدحرج سريعًا إلى خلف كابينة القيادة حيث لا يراه أحد … وصَعِد ثلاثة رجال إلى سطح القارب … وبدأت مطاردة مثيرة بينهم وبين «أحمد» و«عثمان» … وفجأةً وجد «عثمان» نفسه محاصرًا بين رجلَين … وقبل أن يدركَا ما سيفعل، قذف بنفسه خارج القارب … ولكنه في الحقيقة لم يقع في الماء، بل تعلَّق بجانب القارب، وتقدم أحد الرجلين ينظر إليه، وبسرعة مدَّ «عثمان» يده وأمسك بساعد الرجل وجذبه بشدة ففقد الرجل توازنه وسقط في الماء …
كان الصراع دائرًا فوق القارب وهو منطلق بأقصى سرعته في اتجاه الميناء، واستطاع «أحمد» أن يتخلص من رجل آخر، بحركة بهلوانية، فعندما قذف الرجل نفسه عليه، نام على ظهره ثم حمل الرجل فوق قدمَيه، وألقاه بكل ما يملك من قوة، وسمعه وهو يرتطم بالماء بشدة … والقارب يمضي … و«عثمان» يعود إلى سطح القارب.
قال «عثمان» وهو يرى «أحمد» يقف: بقيَ واحد.
أحمد: اثنان … فهناك قائد القارب أيضًا.
عثمان: تُرى أين فرانك؟
أحمد: في قاع القارب طبعًا.
وأخذَا ينزلان السلَّمَ إلى قلب القارب … كان الظلام يسود السلَّمَ والممر الطويل حتى وصلَا إلى باب القاعة الرئيسية في القارب الكبير … كان بابًا زجاجيًّا وضحَت من خلفه إضاءة قوية … مكوَّنًا من مصراعَين … كانَا يهتزان مع حركة القارب العنيفة.
اقترب «أحمد» من الباب، والتصق بجدار الممر، ثم مدَّ قدمَه وضرب الباب من أسفل، وانطلقَت على الفور دفعة من الرصاص، حطَّمَت الباب الزجاجي ولم تُصِب «أحمد» ولا «عثمان» الذي التصق هو الآخر بجدارٍ خلف «أحمد».
وسمعَا صوتَ خطوات ثقيلة تقترب من الباب، ثم انطلق الرصاص مرةً أخرى حتى نسف الباب الزجاجي تمامًا … وفي تلك اللحظة كانت ذراع «عثمان» تُطلق كرتَه الجهنمية «بطة» على وجه الرجل الذي أطلَّ ليرى نتيجة الرصاص الذي أطلقه.
سقط الرجل على ظهره، وقفز «عثمان» إلى الأمام، واقتحم الباب … وخلفه دخل «أحمد» … وبنظرة سريعة شمل المكان … لم يكن هناك أحد إلا «فرانك» … مكوَّمًا على الأرض مشدودَ الوثاق … وأسرع «أحمد» إليه ولكنه فقدَ توازنه … فقد دار القاربُ دورةً حادة، وأخذ يجري في طريق متعرج … وأطل «عثمان» من شباك الصالة إلى البحر … وصاح كالمجنون: سنموت. ودون كلمة أخرى أسرع إلى «فرانك»، وصاح ﺑ «أحمد»: احمله معي!
لم يعرف «أحمد» ماذا حدث … ولكنه نفَّذ تعليمات «عثمان» على الفور. وحمل «فرانك» من أحد ذراعَيه، وحمله «عثمان» من الذراع الأخرى … وأسرعَا إلى سطح القارب، وقال «عثمان»: اقفز إلى الماء! وبلا وعيٍ قفز «أحمد» وهو في غاية الدهشة. فارتطم الثلاثة بالماء البارد، وغاصوا تحت الأمواج.
جاهد «أحمد» ليظل محتفظًا بذراع «فرانك» في يده؛ فقد كان يعرف أنه لو تركه فسيسقط إلى القاع وهو مشدود الوثاق، ولا يظهر له أثرٌ بعد ذلك … ولكن «عثمان» … لدهشة «أحمد» الشديدة، كان يجرُّ «فرانك» إلى أسفل، كأنما يريد أن يُغرقَه … وحار «أحمد» فيما يفعل «عثمان» ولكن حيرته لم تستمرَّ طويلًا. فرغم أنه كان غاطسًا في الماء؛ فقد سمع دويَّ انفجار شديد وعرف ما حدث … إنه القارب الكبير.
وعندما رفع «أحمد» رأسَه فوق الماء، وهو يسحب «فرانك» معه … شاهد على الفور كتلةً من النيران المشتعلة على مقربة عشرات الأمتار منه … كانت بقايا الزورق …
والتفت «أحمد» إلى «عثمان» وقال: لقد أنقذتَ حياتنا في اللحظة الأخيرة!
ردَّ «عثمان» وهو يتنهَّد بعمق: يبدو أن السائق عندما عرف أننا سيطرنا على القارب زاد من سرعته ثم تركه وقفز في الماء … وعندما نظرت من نافذة الصالة التي كنَّا فيها رأيت القارب يتجه كالقذيفة إلى إحدى السفن الضخمة الرابضة في الميناء … ولم يكن أمامي وقتٌ لأشرح لك ما حدث … ولم يكن هناك ما نفعله إلا أن نقفز في الماء بأسرع ما يمكن.
أحمد: إننا قريبون من حاجز الأمواج … هيَّا بنا.
وأخذَا يسبحان وهما يجرَّان «فرانك» معهما … ووصلَا إلى حاجز الأمواج … وهو رصيف من الحجر يفصل الميناء عن البحر … وسرعان ما خلَّصَا «فرانك» من وَثاقه.
وقال «فرانك» وهو يفرد ذراعَيه: كنت مشتبكًا في صراع مع أحدهم، عندما فوجئت بشخص يأتي من الخلف ثم يضربني على رأسي بأداة صلبة … ولم أُفِق إلا وأنا مشدود الوثاق في القارب.
أحمد: كان خطأ مني أن تركتُكَ وحدك.
فرانك: لا بأس … لقد كانت معركةً رائعة.
أحمد: هيَّا بنا نسير حتى نعثر على جندولا تأخذنا إلى القصر.
وظلوا يسيرون حتى نهاية الرصيف الحجري، حتى وصلوا طرفَ المدينة، ثم ساروا مرةً أخرى حتى مرسى أحدِ قوارب الجندولا. فاستأجروا واحدًا أخذهم إلى قرب القصر، ورأى «أحمد» من باب الاحتياط أن ينزلوا بعيدًا عن القصر بمسافة.
عندما وصلوا إلى القصر كانت الفتيات الثلاث … «زبيدة» و«إلهام» و«نانسي» يقفنَ عند بوابة القصر الحديدية الضخمة، وقد أصابهن الانزعاج لغياب الشبان الثلاثة.
وعلى الضوء المنبعث من داخل القصر بدَا الشبان الثلاثة في ملابسهم المبتلَّة مثيرين للضحك. وقالت إلهام: ماذا حدث؟ هل دخلتم سباقًا في السباحة بالملابس الكاملة؟
تنهَّد «أحمد» وهو يقول: بدلًا من السخرية منَّا، نريد أن نُغيِّر ثيابَنا ونأكل. إنني أكاد أسقط من الجوع.
ودخل الجميع إلى القصر، وكانت السيدة العجوز والدة «فرانك» تجلس في الصالة وحدها … وقدَّم «فرانك» أصدقاءَه لها ولم يُشِر إلى الأحداث المخيفة التي مرَّت بهم.
اقترض «عثمان» و«أحمد» بعضَ ملابس «فرانك»، وجلس الجميع حول مائدة العشاء وانهمكوا في الأكل … وبعد الطعام انتقلوا إلى إحدى شرفات القصر الضخمة … ولكن السيدة العجوز استأذنَت لتأويَ إلى فراشها، وجلس الأصدقاء الستة يتحدثون … وروى «عثمان» بأسلوبه الساخر ما حدث في الوقت الذي تغيبوه في الخارج. بينما كانت «نانسي» تفتح فمها مذهولةً وهو يروي لها ببساطة ويضحك قصةَ الصراع الرهيب الذي دار بينهم وبين رجال العصابات.
وقامت «نانسي» تُمسك بيد خطيبها عندما روى «عثمان» كيف قفزوا إلى الماء و«فرانك» موثَق القدمين واليدين، وأنه لو أفلت منهما أثناء القفز لغرق، ولما عُثر له على أثر.
وعندما انتهى «عثمان» من قصته، قال «فرانك»: لم أكن أتصور أن الصراع بينكم وبين هؤلاء الأشرار يمكن أن يصلَ إلى هذا الحد!
أحمد: لهذا سوف أترككما الآن، ونعود إلى الفندق حتى لا نُسبِّبَ لكما من المتاعب أكثر مما حدث.
صاح «فرانك» بعتاب: وهل تظن أنني خفت؟
أحمد: لا أقصد.
فرانك: إن القصر كبير جدًّا، وبه أكثر من خمس عشرة غرفة، وأنا أقترح أن تقضوا ليلتكم هنا.
وتذكَّرت «إلهام» أنهم قالوا للعصابة إنهم سيكونون خارج فينسيا في الصباح التالي … ووجدت الفرصةَ ملائمةً لطلب آخر من «فرانك»، فقالت: وهل نستطيع أن نقضيَ غدًا أيضًا هنا؟
فرانك: إن هذا ليسعدني جدًّا.
ونظر الشياطين الأربعة بعضهم إلى بعض، وانفجروا ضاحكين. لقد حلَّت لهم دعوة فرانك مشكلةً لم يفكروا جدِّيًّا كيف يحلُّونها.