نصيحة جياكومو!
قضى الشياطين سهرةً ممتعة مع «نانسي» و«فرانك» … وعندما حان وقتُ النوم أخذَت «نانسي» الفتاتَين معها، واصطحب «فرانك» الشابَّين. وعلى غير ما توقَّع «أحمد» انقضَت الليلة دون أن يحدث شيء … وناموا نومًا عميقًا. وكان أول مَن استيقظ «إلهام» … التي مضَت تتجول في طرقات القصر وشُرفاته والتقَت بالسيدة العجوز والدة «فرانك» تجلس وحدها في الحديقة تتناول إفطارها من الفاكهة واللبن … وجلسَت إلهام معها تتحدثان حتى استيقظ بقيةُ مَن في القصر.
قضى الأصدقاء يومًا مرحًا لم يشهدوا له مثيلًا من قبل في ضيافة «فرانك» و«نانسي» والسيدة العجوز «مارجو» التي أحبَّتهم كثيرًا، حتى إنها دعَتهم لزيارة أمريكا في أي وقت يحددونه. وعندما أشرفَت الساعة على السابعة مساءً غادر الشياطين القصر وقد استعدوا بفترة طويلة من الراحة للساعات القادمة التي لا يعرفون كيف ستنقضي … وعندما وصلوا إلى محطة سانتا كيارا غادرهم «أحمد» ليذهب إلى «جياكومو» حسب موعده … كان «أحمد» يحسُّ بسعادة غير عادية؛ فسوف يحصل على المعلومات التي طلبها رقم «صفر»، ويُسلِّم المظروف الذي معه … وبعدها يمكن أن يتفرغ للبحث عن «كارميلا» … وابتسم … سوف يُعطي المظروف ﻟ «زبيدة» لتعود به إلى رقم «صفر» حتى لا يضيع مرةً أخرى … ثم يبحث عن «كارميلا» … إنه لا يمكن أن ينسى مساعدتَها له ضد رجال العصابات.
كانت الساعة لا تزال السابعة والنصف. وما زالت هناك نصف ساعة على موعده مع «جياكومو»، وتذكَّر أنه يوجد قريبًا من فندق «سانتا كيارا» بائعةٌ لجوز الهند المثلَّج بطريقة ظريفة. فقد قطعت البائعة جوز الهند إلى شرائح، ثم وضعَته في إناء تحت نافورة صغيرة من الماء المثلَّج، والقطعة بمائة ليرة (حوالي عشرة قروش مصرية) … وقرر أن يأكل قطعتين … فهو يحب جوز الهند المثلَّج … واتجه إلى البائعة العجوز. كانت سيدةً بدينةً تربط في وسطها مريلةً زرقاء بها مربعات صفراء … فبدَت كعلَم ضخم واقف على الأرض.
واقترب «أحمد» من البائعة … وحيَّاها ثم تناول قطعةً من جوز الهند … وأخذ يمضغها متلذذًا … وهو يقرأ عناوين الجرائد. وكانت كلها تتحدث عن اختفاء المطربة «كارميلا» وتهاجم رجال الشرطة لفشلهم في العثور عليها.
وهزَّ «أحمد» رأسه: مَن يتصور أن هذا الشيطان الصغير سوف يُنقذ «كارميلا»!
وفجأةً شاهد من بعيد شخصًا لم يكن غريبًا عليه. وعندما اقترب الرجل عرفه «أحمد» على الفور … إنه «جياكومو» … وفكَّر «أحمد» أن يتقدَّم لتحيَّتِه ثم يذهب معه إلى الفندق ولكنه فكَّر أن الرجل قد يفضِّل ألَّا يراه أحد معه … فتوارَى عن طريقه خلف كشك الجرائد … ولاحظ أن «جياكومو» عندما مرَّ بالسيدة بائعة جوز الهند رسمَت على صدرها علامة الصليب، ودخل «جياكومو» الفندق. وانتهى «أحمد» من قطعة جوز الهند … ثم تناول قطعةً أخرى … وسأل السيدة: هل تعرفين السنيور «جياكومو»؟
أشاحت السيدة بوجهها وقالت: لا!
أحمد: آسف … لقد خُيِّل لي أنكِ رسمتِ علامة الصليب على صدرك عندما مرَّ بك.
السيدة: مطلقًا … لقد سمعتُ أجراس كنيسة سان ماركو تدقُّ ورسمتُ علامة الصليب من أجل هذا.
ابتسم «أحمد» للسيدة مكرِّرًا أسفه … ثم مضى يمضغ قطعة جوز الهند بتلذذ وهو ينظر إلى ساعته … ما زال هناك وقت طويل … واشترى جريدة أخذ يقرأ ما بها خاصٌّ ﺑ «كارميلا» … وخطر له أن يُصرَّ على طلب مساعدة «جياكومو» في البحث عنها … رغم إصرار «جياكومو» أن يتركوا هذه المسألة الصعبة … ويعودوا إلى بلادهم فورًا!
أشرفَت الساعة على الثامنة. فتقدم «أحمد» من الفندق، ولم يسأل أحدًا هذه المرة عن «جياكومو» … بل صَعِد على الفور إلى فوق … اجتاز الدهليز، ثم توقَّف أمام باب «جياكومو» … وتوقَّف قليلًا … خُيِّل إليه أنه يسمع صوتَ حديث في الداخل ونظر إلى ساعته، ما زالت الثامنة إلا ثلاث دقائق. هل يدخل أم ينتظر؟
ووضع أُذُنَه على ثقب الباب وأنصت … كان صوت «جياكومو» وحده … ولم يستطع «أحمد» أن يتبيَّن ماذا يقول … ولكن خُيِّل إليه أنه يتحدَّث عن أكل … وابتسم … إنه يُعدُّ طعام العشاء.
ودقَّ الباب … وانتظر لحظات … وسمع صوت «جياكومو» يطلب منه الدخول ففتح الباب وحيَّا «جياكومو» الذي ردَّ تحيتَه بحماس، ثم قال وهو ينظر إلى ساعته: إنك مبكِّر بضع دقائق.
أحمد: معذرةً … إنني متلهفٌ للحصول على المظروف.
جياكومو: إنه مفيد وبه كل المعلومات المطلوبة … هل معك مظروف النقود؟
أحمد: نعم … إنه معي.
ووضع «جياكومو» يدَه في جيبه، وأخرج مظروفًا متوسط الحجم، وقال: هل تسلِّمني وأسلِّمك؟ … وضع «أحمد» يدَه في جيبه هو الآخر وأخرج مظروف النقود الضخم، ومدَّ يدَه به إلى «جياكومو». وفي لحظات انتقل المظروف المتوسط إلى يد «أحمد» والمظروف الضخم إلى يد «جياكومو».
قال «أحمد»: معلومات كافية؟
جياكومو: طبعًا … إنها مثل معلومات «بازوليني» بالضبط … وسأعترف من الآن أنني كنتُ شريكَ «بازوليني» في كل أعماله. وقد تركتُ العمل منذ فترة ولكني كنت على اتصال به دائمًا … وقد اعتاد أن ينزل في فندقي المتواضع كلما جاء إلى فينسيا.
أحمد: هل أطلب منك خدمة؟
ابتسم «جياكومو» وهو يضع المظروف في خزينة مثبتة في الحائط ثم قال: طبعًا!
أحمد: هل يمكن أن تساعدني في العثور على «كارميلا»؟
اعتدل «جياكومو» في كرسيه … ووضع مرفقَيه على المكتب، وقال: اسمع يا صديقي … دعني أنصحك أعظم نصيحة في حياتك … خذ أصدقاءَك واركب أول شيء يغادر فينسيا … الآن وليس بعد ساعة … اركب باخرة … طائرة … قطارًا … أي شيء، ولكن غادروا فينسيا فورًا … إنكم معرَّضون لخطر جسيم!
أحمد: نحن نعرف أننا معرَّضون لمخاطر مخيفة … وأمس كِدْنا نُصبح طعامًا للأسماك!
وقف «جياكومو» معلنًا انتهاءَ المناقشة، وقال: لقد نصحتكم … والآن أرجوك أن تعتبر كلَّ ما حدث بيننا سرًّا … وأن تنسى تمامًا أنك قابلتني … ولا تحاول مقابلتي مرةً أخرى، وعودوا إلى بلادكم فورًا!
مدَّ «جياكومو» يدَه إلى «أحمد» … وبعد لحظاتٍ كان «أحمد» يُغادر فندق سانتا كيارا … فقد كان يريد أن يسمع المكالمة التي ستأتي من رجال العصابات في التاسعة … واستقل «أحمد» جندولا، وطلب من البحَّار أن يُسرع به إلى فندق «سان ستيانو».
أخذت الأفكار تتجول في رأس «أحمد» ولم يُفِق إلا عندما سمع صوت البحار يقول له: سان سباستيانو يا سنيور!
نقد «أحمد» الرجل أجرتَه، ثم قفز السلالم مسرعًا، وهو يضع يده على جيبه حيث المظروف الثمين … ودخل الفندق وهو ينظر إلى ساعته … كانت الثامنة وخمسًا وثلاثين دقيقةً … ما زال هناك في الوقت متَّسع.
وكانت «إلهام» و«زبيدة» و«عثمان» يجلسون في شرفة الغرفة رقم ١٦ يتأملون فينسيا المتأججة الأنوار … وفتحَت «إلهام» الباب ودخل «أحمد»، فقالت له: هل أحضرتَ المظروف؟
أحمد: إنه في جيبي!
وأخرج المظروف من جيبه، ووضعه تحت أنظارهم جميعًا، وقال: لو أنني لم أُحضر المظروف لما استطعتُ أن أعود معكم إلى بيروت!
كانت «إلهام» تنظر إلى المظروف بإمعانٍ ثم قالت: إنه مكتوب على الآلة الكاتبة.
أحمد: لقد لاحظت ذلك، ﻓ «جياكومو» حَذِر … فقد يضيع المظروف مرة أخرى وليس من مصلحته أن يعرف رجالُ العصابات أنه هو الذي وشَى بهم … أما «بازوليني» فقد كان المظروف بخطِّ يده؛ لأنه كان سيغادر إيطاليا إلى الأبد.
زبيدة: معقول جدًّا.
أحمد: لقد نصحني «جياكومو» ألَّا أنتظر في فينسيا وأن نسافر فورًا … وقد قررت أن نناقش الموضوع معًا … هل أنتم على استعداد للدخول في حرب مع العصابات الأربع من أجل «كارميلا» … أم نحزم حقائبنا الآن ونغادر فينسيا بأية طريقة كما نصَح «جياكومو»؟
ساد الصمتُ الشرفةَ الواسعة المطلة على الجراند كانال … ولم يَعُد يُسمع إلا صوت موسيقى تأتي من بعيد … وإلا ارتطام الأمواج الخفيفة بالشاطئ.
ونظر «أحمد» إلى وجوه الشياطين الثلاثة … لم تكن ملامحهم تكشف عما يفكرون … وفكَّر أنهم الآن بين نارَين … هل ينفذون تعليمات رقم «صفر» بالعودة فورًا بعد الحصول على المظروف … أم ينقذون المطربة الجميلة مع ما في ذلك من أخطار؟!