تحت مِبضَع الجراح
«ماذا لو أنني متُّ تحته؟» ظلَّت الفكرة تتردَّد في ذهني وأنا في طريقي إلى المنزل، عائدًا من منزل هادون. لم يكن ذلك إلا سؤالًا شخصيًّا تمامًا؛ إذ كنتُ قد عُوفيتُ مما يهمُّ الرجل من هموم ومتاعب الزواج، وكنتُ أعلم أنه ليس لديَّ إلا عددٌ قليل من الأصدقاء المقرَّبين، لكنهم سيُفجَعون لموتي، وسينبُع ذلك أساسًا من واجبهم في الشعور بالأسى. حين تأملتُ هذه الفكرة، راودَني شعور بالدهشة شابَهُ شعور بالإهانة بعض الشيء؛ فأنَّى لهذا العدد القليل أن يتجاوز المطلب التقليدي! في طريق عودتي من منزل هادون مرورًا بتلِّ بريمورس، رأيتُ الأمور بوضوحٍ مجرَّدةً من بريقها، فتذكرتُ أصدقائي منذ أيام الصبا، وأدركتُ أنَّ ما يُكِنُّه بعضنا لبعضٍ من مشاعر، ليس إلا ضربًا من ضروب العادة؛ إذ كنَّا نجاهد من أجل أن يلتقي بعضنا ببعضٍ كي نحافظ عليها. ثم هناك منافسيَّ ومساعديَّ في عملي السابق، وأظن أنني كنتُ غير مبالٍ أو مُتحفِّظ مع هؤلاء — أعتقد أنَّ إحدى الصفتين تنطوي على الأخرى — فربما تكون قدرة المرء على الصداقة مرتبطةً بحالته الجسدية. في وقتٍ سابق من حياتي، كنت أجزَع حزنًا لخسارة أحد أصدقائي، لكن في أثناء عودتي إلى المنزل، عصر ذلك اليوم، كان الجانب العاطفيُّ من مُخيِّلتي خامدًا؛ لم أستطع أن أشعر بالشفقة على نفسي ولا بالأسف لأصدقائي، ولم أستطع كذلك أن أتخيَّل أنهم سيَحزنون عليَّ.
رحتُ أفكر في حالة الموت العاطفيِّ التي انتابتْني؛ لا شكَّ أنها عَرَض مُصاحِب لهذا العطَن الذي أصاب أعضاء جسدي، وهكذا شرَد ذهني في هذه الفكرة وما يتولَّد عنها من أفكار. ذات مرةٍ في عُنفوان شبابي، نزفتُ الكثير من الدماء فجأةً وكنتُ على شفا الموت. أتذكر أنَّ ذلك قد استنزف جُلَّ عواطفي وشغَفي، فلم أشعر بأي شيءٍ إلا سَكينة الاستسلام ورمقٍ من رثاء الذات. مرَّتْ أسابيع قبل أن تعود لي الطموحات القديمة والرقَّة وجميع ما يُخالِج المرء من تفاعلات أخلاقية مُعقَّدة؛ فخطر لي أنَّ المعنى الحقيقي لهذا الخدَر قد يكون هو الانسحابَ التدريجيَّ من ثنائية اللذة والألم التي يَسترشِد بها الإنسان البدائي. فقد ثبَت، بأكبر قدرٍ من الدِّقَّة قد يتوافر في إثبات أي أمرٍ آخر في هذا العالم، أنَّ العواطف السامية والمشاعر النبيلة وحتى ما يَكمُن في الحبِّ من إيثارٍ لطيف، قد تطوَّرتْ من رغبات الحيوان ومخاوِفه البدائية؛ فهي اللجام الذي يُمسك بالحرية الذهنية للإنسان. ويبدو لي أنه حين يحلُّ الموت، وتتلاشى قدرتنا على التصرُّف، يخبو معها هذا النمو المعقَّد للدوافع والمَيل والنفور المتوازنَين. فماذا يبقى بعد هذا؟
عدت إلى الواقع فجأة؛ إذ كنتُ على وشكِ الاصطدام بعربة صبيِّ الجزار، ووجدتُني أعبُر الجسر الذي يعلو قناة ريجنت بارك، والتي تجري موازية نظيرتها في حديقة الحيوان. كان الصبي الذي يرتدِي ثيابًا زرقاء ينظُر من فوق كَتِفه نحو زوْرَق نقلٍ أسود يتقدَّم ببطءٍ ويجرُّه حصانٌ أبيضُ هزيلٌ. وفي حديقة الحيوان، رأيتُ مُربيةً تصحَب معها على الجسر ثلاثة أطفالٍ سعداء. كانت الأشجار يانعة الخضرة، وكان تفاؤل الربيع الذي يعمُّ الأجواء لا يزال خالصًا لم يَشُبْه غُبار الصيف بعدُ، فبَدت السماء في المياه مُشرقةً وصافية، لم يشُقَّها سوى الأمواج الطويلة والخطوط السوداء المُرتعشة التي ظهرتْ بينما كان القارب يشقُّ المياه. كان النسيم عليلًا، لكنه لم يُحرِّك مشاعري كعَهْدي بنسيم الربيع.
أكانت هذه الحالة من خمود المشاعر في حدِّ ذاتها ضربًا من الترقُّب؟ من الغريب أنني كنتُ قادرًا على التفكير وتتبُّع شبكةٍ من الإيحاءات بوضوحٍ تامٍّ كما عهِدتُ نفسي دومًا، أو هكذا بدا لي الأمر على الأقل؛ فتلك الحالة التي انتابتْني هي أشْبَه بالهدوء منها بالخمود. هل ثَمَّةَ تبريرٌ لهذا الشعور بالارتياح لهاجس الموت الوشيك؟ أيبدأ المرء — غريزيًّا، حين يقترب من الموت — في الانسحاب من شِبَاك المادة والفكر، حتى قبل أن تمتدَّ يَدُ الموت لتنزِع روحَه؟ انتابني شعورٌ غريب بالانعزال عن حياتي ووجودي، لكنني لم أكن آسِفًا لذلك. الأطفال الذين يلعبون في الشمس ويستجمِعون القوة والخِبرة التي سيستَعِينون بها على أمور الحياة، وحارس الحديقة الذي يُثرثِر مع إحدى المُربيات، والأم التي تُرضِع طفلها، والعاشقان الشابَّان الهائِمان اللذان مرَّا بي، والأشجار القابعة على جانب الطريق وقد نثَرَت أوراقها الجديدة مُتضرِّعةً إلى ضوء الشمس، والحفيف الذي يَسري بين غصونها؛ لقد كنتُ جزءًا من ذلك كله، لكنني كنتُ على وشك أن أنفُضه عنِّي الآن.
بينما كنتُ أسير على ممشى برود ووك، شعرتُ بأنني مُرهَق وبأنَّ قدميَّ ثقيلتان. كان الجوُّ حارًّا في عصر ذلك اليوم؛ فانتحيت جانبًا وجلستُ على أحد المقاعد الخضراء التي تُغطي الطريق. وفي دقيقةٍ واحدة، غَفوتُ في حلم، وعلى تيار أفكاري طَفتْ رؤيةٌ للبعث. كنتُ لا أزال جالسًا على المقعد، لكنني ظننتُ أنني قد متُّ بالفعل؛ كنتُ ذاويًا وباليًا ومتيبِّسًا، وقد اقتلعَتِ الطيور (كما رأيتُ) إحدى عينيَّ. نادى صوت: «استيقِظوا!» وفورًا، ثار الغبار والعفَن القابع تحت العشب. لم يحدُث من قبلُ أن تخيَّلتُ حديقة ريجنت بارك كمقبرة، أما الآن، فمع الأشجار المُمتدَّة على مدى البصر، أرى سهلًا مُنبسطًا من قبورٍ مُتعرجةٍ وشواهدَ مائلةٍ. بدا أنَّ ثمَّةَ خَطبًا ما؛ فقد بدَا الموتى الناهضون من الموت يختنقون وهم يُصارعون في طريقهم إلى الأعلى، وقد نزفوا في صراعهم هذا حتى تمزَّق اللحم الأحمر عن العظام البيضاء. نادى صوت «استيقظ!» لكنني صمَّمتُ على ألَّا أستيقظ على مثل هذه الفِظائع. «استيقظ!» لن يتركوني وشأني. نادى صوتٌ غاضب: «انهض.» كانت روحًا تتحدَّث بلكْنة الكوكني! لقد كان بائع التذاكر يهزُّني مُطالبًا بثمن التذكرة.
دفعتُ النقود ووضعتُ التذكرة في جيبي، ثم تثاءبْتُ ومددتُ ساقيَّ، وشعرتُ حينها بأنني أقلُّ خمولًا، فنهضتُ وسرتُ مُتوجهًا إلى لانجام بليس، وسرعان ما غبتُ مرةً أخرى في متاهةٍ مُتغيرة من الأفكار المتعلِّقة بالموت. عند مروري بطريق ماريلبون إلى ذلك المُنحنى الموجود في نهاية لانجام بليس، اصطدمتُ بإحدى سيارات الأُجرة، وبالكاد نجوتُ من ذلك الحادث، فتابعتُ طريقي بقلبٍ مُرتجف وكَتِفٍ مُصابة برُضوض، وخطرَ لي أنه كان سيُصبِح أمرًا غريبًا لو أنَّ تفكيري في موتي بالغد، تسبَّب في موتي ذلك اليوم.
غير أنني لن أُضْجِرك بالمزيد من تجاربي في ذلك اليوم والذي يلِيه. زاد يَقِيني بأنني سأموت إثر هذه العملية الجراحية، وأعتقد أنني في بعض الأحيان، كنتُ أميل إلى طرح هذه الفكرة على نفسي. كان الأطباء سيأتون في الحادية عشرة، لكنني لم أنهض؛ إذ لم أجد أهميةً لأنْ أتكبَّد عناء الاغتسال وارتداء الملابس المناسبة. وكنتُ قد قرأتُ الجرائد والرسائل التي وصلَت في البريد، لكنني لم أجدْها مُثيرةً للاهتمام؛ فكان من بينها رسالة ودِّية من أديسون، صديقي القديم في الدراسة، يلفِتُ فيها انتباهي إلى وجود أمرَين مُتناقِضَين وخطأٍ مطبعي في كتابي الجديد، ورسالةٌ أخرى من لانجريدج يُعبِّر فيها عن استِيائه من مينتون. أما بقية الرسائل فكانت مُتعلِّقة بالعمل. تناولتُ فطوري في السرير، وبدا أنَّ الألم في جانبي قد اشتدَّ عليَّ. كنتُ أُدرك أنه الألم، لكني لم أشعر بوَطْأته، إن كان من المُمكن أن تفهم هذا. في الليل، كنتُ مستيقظًا وأشعر بالحرِّ والعطش، لكنني شعرتُ بالراحة في السرير صباحًا. في الليل، رقدتُ أُفكِّر في أمورٍ من الماضي، وفي الصباح، غفوتُ وأنا أُفكِّر في مسألة الخلود. حضر هادون في موعده تمامًا حاملًا حقيبةً سوداءَ أنيقة، وسرعان ما تَبِعه موبري. أثارني حضورهما قليلًا؛ فقد زاد اهتمامي الشخصي بالأحداث. حرَّك هادون الطاولة الثُّمانيَّة الشكل الموجودة بالقرب من جانب السرير وبدأ في إخراج الأغراض من حقيبته، مُولِّيًا إياي ظهره العريض. سمعتُ النقر الخفيف للأدوات المعدِنية إذ يتلامس بعضها مع بعض، واكتشفتُ أنَّ مُخيِّلتي لم تكن راكِدة تمامًا. سألته بنبرةٍ باردة: «هل ستُؤلمني كثيرًا؟»
أجابني هادون مُستديرًا برأسه نصف استدارة: «كلَّا، على الإطلاق. سوف نُخدِّرك بالكلوروفورم؛ فقلبك سليم تمامًا.» وبينما كان يتحدَّث إليَّ، استنشقتُ نفحةً من المخدِّر، وشممْتُ رائحته اللاذعة الحلوة.
مدَّدَا جسدي، بما يكشف لهما جانبي بشكلٍ مُلائم، وقبل أن أُدرك ما يحدُث، كان الكلوروفورم يُحقَن في أورِدَتي. شعرتُ بلسعةٍ خانقة في الأنف واختناقٍ في البداية. كنتُ أعلم أنني سأموت لا محالة، وأنَّ تلك هي نهاية عهدي بالوعْي. وفجأةً شعرتُ بأنني غير مُستعدٍّ للموت؛ انتابني شعورٌ غامض بأنَّ عليَّ واجبات قد أغفلتُها، لكنني لم أعرف ما هي. ما الذي لم أفعلْه؟ لم أستطع أن أُفكِّر في أي شيءٍ آخَرَ أفعله، لم يعُدْ في الحياة شيءٌ أرغب فيه. وبالرغم من ذلك، خالجَني شعورٌ غريب للغاية بالنفور من الموت. شعرتُ في جسدي بألمٍ شديد، لكنَّ الطبيبَين لم يكونا يعرفان بالطبع أنهما سيقتُلانِني. لقد قاومتُ على الأرجح، ثمَّ سقطتُ ساكنًا بلا حراك، وخيَّم عليَّ صمتٌ رهيبٌ مُخيف، وغَشِيَني ظلامٌ دامس.
لا بدَّ أنَّني فقدتُ الوعيَ تمامًا في فترةٍ ما، ربما لدقائقَ أو ثوانٍ، ثم حلَّ عليَّ وضوحٌ بارد لا يمَسُّ المشاعر، وأدركتُ أنني لم أمُت بعدُ. كنتُ لا أزال في جسدي، لكنَّ ذلك القدْر الهائل من الأحاسيس الذي يتدفَّق منه ليُشكِّل خلفية الوعي، كان قد اختفى، تاركًا إياي حرًّا منه تمامًا. كلا، لم أكن حرًّا منه تمامًا؛ إذ كان ثمَّةَ شيء لا يزال يربطني بهذا الجسد البائس العاري الممدَّد على السرير، غير أنه لم يربطني به ربطًا مُحكمًا تمامًا، حتى إنني لم أشعر بأنني خارجَهُ أو مُنفصل أو مُبتعِد عنه. لا أحسَب أنني قد رأيتُ أو سمعتُ، لكنني كنتُ أُدرِك كل ما يجري، وكأنني رأيته وسمعته. كان هادون يقِف مُنحنيًا عليَّ، بينما وقف موبري من خلفي؛ أما المبضع — وكان مبضعًا كبيرًا — فراح يشقُّ اللحم في جانبي تحت الضلوع. كان من المُثير أن أرى نفسي وأنا أُقطَّع كالجبن، دون أن أشعر بأي ألمٍ أو حتى وخْزَة. كان الأمر مُثيرًا كمشاهَدة مباراةٍ في الشطرنج بين غريبين. كان وجه هادون صارمًا ويدُه ثابتة، غير أنني دُهشتُ حين أدركتُ (ولست أدري كيف) ما يعتَمِل في نفسه من شكوكٍ عظيمة في حسن تصرُّفه في إجراء العملية.
استطعتُ أن أرى أفكار موبري كذلك. كان يُفكِّر في أنَّ تصرُّفات هادون تعكِس مهارة المُختَص. راحت الاقتراحات الجديدة تنبثِق كالفقاقيع من تيَّار فِكره المتدفِّق، ثم تَنفجِر واحدةً تلو الأخرى في البقعة الصغيرة المضيئة في وعيه. لم يستطع موبري أن يُقاوِم ملاحظته لبراعة هادون وسرعته في إجراء العملية؛ ومن ثمَّ إعجابه بهما، بالرغم من ميله إلى الحسد والانتِقاص من شأن الآخرين. رأيت كبِدي مكشوفة وحِرتُ في حالتي؛ لم أشعر بأنني ميِّت، لكنني كنتُ مختلفًا على نحوٍ ما عمَّا كنتُ عليه وأنا حي. كان الاكتئاب الرمادي الذي أثقَلَني لقُرابة عامٍ أو أكثر، وصبَغَ جميع أفكاري بلَونه قد اختفى؛ فكنتُ أرى الأمور وأفكر فيها دونما أي مسحةٍ عاطفية على الإطلاق. تساءلتُ عمَّا إذا كان الجميع يرَون الأمور بهذه الطريقة تحت تأثير الكلوروفورم، ثم ينسَون ذلك ثانيةً حين يزول أثره. فسوف يكون من المُزعج أن تنظر في رءوس بعضهم ولا تنسَى ما رأيتَه.
بالرغم من أنني كنتُ أُدرك أنني لستُ ميتًا، كنتُ لا أزال أرى بوضوحٍ تام أنني على شفا الموت، وقد أعادني ذلك مرةً أخرى إلى التفكير في هادون وما يقوم به. نظرتُ في عقله ورأيتُ خوفه من قطعِ أحد فروع الوريد البابي، فانصرَفَ انتباهي عن التفاصيل وتحوَّل إلى ما يدور في عقله من تغيُّرات مُثيرة. كان وعيُه يُشبِه بقعة الضوء المُرتعشة الصغيرة التي تُلقيها مرآة جهاز الجلفانومتر. مرَّت أفكاره تحتها كتيَّار، بعضها مرَّ من البؤرة واضحًا ومميزًا، ومرَّ بعضها الآخر من الجزء النصفيِّ الإضاءة على الحافة فكان مُظلَّلًا مُبهمًا. الآن فقط، صار الوَهَج الخافت ثابتًا، لكن مع أقلِّ حركةٍ من موبري، أو أقلِّ صوتٍ من الخارج، أو حتى أقلِّ اختلافٍ في الحركة البطيئة للَّحم الحي الذي كان يشقُّه، كانت بقعة الضوء ترتعِش وتدور. اندفع في تيَّار الأفكار انطباعٌ حِسيٌّ جديد، وفجأةً سبَحَت بقعة الضوء إليه بأسرعَ مما تسبح سمكةٌ مُرتعِبة. كان من المُدهش أن أرى أنَّ هذا الشيء المُتشنِّج غير المستقر، هو الذي تتوقَّف عليه جميع الحركات المعقَّدة التي يقوم بها الإنسان؛ ومن ثمَّ كانت حياتي تتوقَّف على حركاته خلال الدقائق الخمس التالية. ظلَّ توتُّر هادون في العمل يزداد ويزداد؛ كأنَّ ثمَّةَ صورةً صغيرة لوريدٍ مقطوع تزداد وضوحًا، وهي تُحاول جاهدةً أن تُزيح من مُخِّه صورةً أُخرى لوريدٍ قطَعَه أقصرَ مما يجب؛ كان خائفًا: راح خوفه من أن يَقطَع جزءًا أقصرَ من اللازم يتصارَع مع خوفه من أن يَقطع جزءًا أطولَ من اللازم.
وفجأة، وكما تندفِع المياه من أسفلِ بوَّابة هويس، اندفع إدراكٌ رهيب أدَّى بأفكاره إلى الدوران، وفي الوقت ذاته، أدركتُ أنَّ الوريد قد قُطع. تراجَع في اندهاشٍ مكتوم، ورأيتُ الدم البُنِّي القُرمزي يتجمَّع بسرعةٍ في عُقَد ثم يَتخثَّر. لقد كان مُرتعِبًا، فرَمَى المبضع الملطَّخ بالأحمر على الطاولة الثُّمانيَّة، وبدأ الطبيبان فورًا في عمل مُحاولاتٍ مُتعجِّلة وغير مدروسةٍ لمعالجة الكارثة. «ثلج!» قالها موبري وهو يلهث، لكنني كنتُ أعرف أنني قُتلتُ، غير أنَّ جسدي ما زال مُتعلقًا بِي.
لن أصِف محاولاتهما المُتأخِّرة لإنقاذي، بالرغم من أنني كنتُ واعيًا بجميع التفاصيل؛ فقد كانتْ حواسِّي أكثر حدَّةً وأسرعَ مما كانتْ عليه في حياتي على الإطلاق. اندفعَتِ الأفكار إلى عقلي بسرعةٍ غير معقولةٍ وبدقَّةٍ مثالية في ذات الوقت. لا يمكنني تشبيه هذه الحالة، من اندفاعها بهذا الوضوح، إلا بمن تَناوَل جرعةً مُناسبة من الأفيون. في لحظةٍ واحدة، سينتهي كلُّ هذا وأُصبِح حُرًّا. كنتُ أعلم أنني خالدٌ لن أَفنى، لكني لم أكن أعرف ما سيحدُث. هل سأتلاشى الآن كنفْثَة دخانٍ من بندقية، في جسدٍ نصفِ ماديٍّ وصورةٍ واهِنة من ذاتي المادية؟ هل سأجد نفسي فجأةً بين هذه الجموع الغفيرة من الموتى، وأُدرك حقيقة عالمي مُجرَّدةً من الخيالات المُتتابِعة التي طالما كان يبدو عليها؟ هل سأتحوَّل إلى استحضار الأرواح، وأقوم بمحاولاتٍ حمقاءَ ومُبهمة للتأثير في وسيط مُتبلِّد الذهن؟ انتابتني حالةٌ من الفضول المُجرَّد من العاطفة والتوقُّعات الكئيبة الباهتة، ثم شعرتُ بضغطٍ مُتزايد قد حلَّ بي، وكأنَّ مغناطيسًا بشريًّا ضخمًا يجذِبني إلى الأعلى خارج جسدي. ظلَّ هذا الضغط يزداد ويزداد؛ كنتُ كذَرَّةٍ تتصارَع عليها قوًى شريرة. وللحظةٍ واحدةٍ رهيبة على قِصَرها، عاد لي الإحساس مرةً أخرى؛ ذلك الإحساس الذي يُراوِدنا في الكوابيس بالسقوط بالرأس مُندفِعًا. شعرتُ بهذا الإحساس مُكثَّفًا ألف مرَّة، صاحَبَه وابلٌ من الرعب الأسود اجتاح أفكاري. وكما تتلاشى فقاقيع الزَّبَد من دوَّامات الأمواج، شعرتُ بأنَّ الطبيبين وجسدي العاري بجانِبِه المشقوق والغرفة الصغيرة، كل ذلك يَتسرَّب من تحتي ثم يتلاشى.
كنتُ عالقًا في الهواء، ومن تحتي بمسافةٍ بعيدة ينحسِر الطرف الغربي من لندن بسرعة — إذ كان يبدو أنني أطير بسرعة إلى أعلى — وبينما كان ينحسِر، كنتُ أجتاز الطريق غربًا وكأنني أراه في منظرٍ بانورامي. استطعتُ الرؤية من خلال غِشاوة الدخان الخفيفة؛ فرأيتُ تلك المداخن التي لا تُحصى على الأسقُف، والطرق الضيقة المُرقَّطة بالبشر ووسائل المواصلات، والبقع الضئيلة من الميادين، وأبراج الكنائس كأشواكٍ بارزة في النسيج. ابتعَد كل ذلك بسرعة مع دوران الأرض حول محورها، وفي ثوانٍ معدودة (كما كان يبدو لي) كنتُ أُحلِّق فوق الأجَمات المتناثرة في بلدةٍ بالقُرب من إيلنج، وبدا نهر التايمز الذي يمتدُّ كخيطٍ أزرقَ نحو الجنوب، وتلال تشيلترن ونورث داونز المنتصبة كحافة حوض، بعيدَين جدًّا وخافِتَين من الضباب. اندفعتُ إلى أعلى، لكنني لم أفهم في البداية ما قد يعنيه اندفاع رأسي بهذه الطريقة إلى الأعلى.
مع كل لحظة، كانت دائرة المنظر من تحتي تتَّسع أكثر فأكثر، وازدادت تفاصيل المدينة والحقل والتلِّ والوادي شحوبًا وخفوتًا حتى غدَا من الصعب تمييزها، وزاد امتزاج اللون الرمادي اللامع مع زُرقة التِّلال وخضرة المُروج المفتوحة، والْتَمعتْ رقعةٌ صغيرة من الغَيم تسير مُنخفضةً في اتجاه الغرب، ببياضٍ أكثر بريقًا. ومع ارتفاعي إلى الأعلى، زادت رِقَّة غشاء الغلاف الجوي الذي يفصِل بيني وبين الفضاء الخارجي؛ فأصبحتِ السماء التي كانت في زُرقة الربيع الفاتحة في البداية، تزداد قتامةً وغِنًى في اللون وهي تمرُّ بثباتٍ عبر الظِّلال المُتداخلة، حتى أصبحتْ في زرقة مُنتصف الليل، ثم صارت في سواد سماء الصقِيع المضاءة بالنجوم، إلى أن اكتسَتْ في النهاية بسوادٍ لم أرَ مثله قط. في البداية، لم أرَ إلا نجمةً واحدة، ثم العديد من النجوم، ثم انشقَّت السماء عن عددٍ لا نهائي من النجوم لم يرَه بشَر من الأرض قط. فلما كان ضوء الشمس والنجوم يتخلَّل زُرقة السماء ويُشتِّتها في كل اتجاهٍ على غير هدًي، فإننا نجد الضوء مُنتشرًا في السماء حتى في أحلَك ليالي الشتاء، وكذلك لا نرى النجوم نهارًا لمِا للشمس من إشعاعٍ شديد السطوع. أما الآن، فقد تمكنتُ من رؤية الأشياء — لستُ أدري كيف، لكنَّ المؤكد أنني لم أرَها بعينيَّ الفانيتين — ولم تَعُد مَثْلَبة الانبهار تُعمِيني. كانت الشمس غريبةً ورائعةً على نحوٍ لا يُصدَّق. كان جسمها قُرصًا من الضوء الأبيض الشديد السطوع، لا مُصفرًّا كما يبدو لمن يعيشون على الأرض، وإنما أبيضُ شاحب، مُعرَّق بخطوطٍ قرمزية ومُؤطَّر بحافةٍ من ألسنةٍ مُتعرِّجة من الأحمر الناري. ومن جانبيه، ينبثِق جناحان يمتدَّان عبر منتصف السماء ويتلألآن بالأبيض الفضِّي فيُصبِحان أكثر سطوعًا من مجرَّة الطريق اللبَني، ما جعله أشبه بأقراص الشمس المُجنَّحة التي تظهر في النقوش المصرية، أكثر من أي شيءٍ مما أتذكره من الأرض، وهو ما كنتُ أعرِفه باسم الهالة الشمسية، بالرغم من أنني لم أرَ منها غير صورةٍ في بداية أيامي في حياتي الأرضية.
عندما انصرف انتباهي إلى الأرض مرةً أخرى، رأيتُ أنها قد سقطتْ بعيدًا عني للغاية؛ فصارت البلدة والحقول غير واضِحَتَين على الإطلاق، وراحتْ جميع الألوان المختلفة للبلد يمتزِج بعضها مع بعض حتى تحوَّلت جميعًا إلى لونٍ رمادي زاهٍ مُتناسِقٍ، لا يَكسر تناسقَه شيءٌ إلا البياض اللامع للغيوم التي تتناثَر في شكل كُتَلٍ مُتلبِّدة فوق أيرلندا وغرب إنجلترا. في تلك اللحظة صار بإمكاني أن أرى الملامح العامة لشمال فرنسا وأيرلندا وجزيرة بريطانيا بأكملها فيما عدا اسكتلندا وهي تتخطَّى الأفق إلى الشمال، أو حيث تمحو الغيوم الساحل أو تغْشَاه. كان البحر بلَونٍ رمادي باهتٍ وأكثر قتامةً من الأرض، وكان المشهد بأكمله يدور ببطءٍ نحو الشرق.
كان كل ذلك يحدُث بسرعةٍ بالغة، حتى إنني كنتُ على بُعد ألف ميلٍ من الأرض أو ما يزيد عن ذلك ولم أنتبِه إلى نفسي على الإطلاق، لكنني في تلك اللحظة أدركتُ أنه لم يَعُد لديَّ يدان ولا قدمان ولا أي أجزاء أو أعضاء أخرى، وكذلك لم أعُدْ أشعر بأي انزعاجٍ أو ألم. كل ما كنتُ أُدرِكه أنَّ الفراغ (إذ كنتُ قد تركتُ الهواء من خلفي بالفعل) كان أبردَ مما يمكن لأي إنسانٍ أن يتخيَّل، لكنَّ ذلك لم يُزعجني. كانت أشعة الشمس تندفع في الفراغ دون إطلاق ضوءٍ أو حرارةٍ إلى أن تَسقط على شيء في مسارها. كنتُ أرى الأشياء بشعورٍ من السكينة نبَعَ من نسيان الذات، كما لو كنتُ إلهًا. وفي القاع السحيق الذي يبعُد عني مسافة عددٍ لا يُحصى من الأميال، تُوجَد بقعةٌ صغيرةٌ داكنة في الجزء الرمادي الذي يُشير إلى موضع لندن، وفيها يجاهد طبيبان لإعادة الحياة إلى تلك القِشرة البائسة البالية التي خلعتُها عني. حينئذٍ شعرت بالانعِتاق والسَّكِينة اللذين لا يُمكنني تشبيههما قطُّ بأي مُتعةٍ فانية عرفتُها.
لم أكن قد بدأتُ في فهم معنى ذلك الشعور باندفاع الرأس إلا بعد أن اختبرتُ جميع هذه الأمور. لكنَّ الأمر كان بسيطًا وواضحًا للغاية، حتى إنني كنتُ مُندهشًا من أنني لم أتوقَّع على الإطلاق ما كان يحدُث لي؛ فكأنني انفصلتُ فجأةً عن المادة؛ كل ما كان ماديًّا فيَّ ظلَّ هناك على الأرض، يدور بسرعةٍ في الفضاء وتُبقيه الجاذبية عليها، مُساهِمًا في قصورها الذاتي، وهو يدور معها في مَدارها حول الشمس، ومع الشمس والكواكب في مَسيرتها العظيمة عبر الفضاء. أما ما هو غير مادي، فليس له قصورٌ ذاتي، ولا يشعر بجذب المادة للمادة؛ فحيثما ينفصِل عن حُلته الجسدية، يبقى هناك راسخًا في الفضاء. لم أكن أُغادر الأرض، بل هي التي كانت تُغادِرني، وليس الأرض فحسب، بل كان النظام الشمسي بأكمله ينحَسِر عني. وعلى مقرَبة منِّي في الفضاء، وأنا غير مرئيٍّ لي، منثور في أعقاب الأرض بعد رحلتها، لا بدَّ أنَّ ثمَّةَ عددًا لا نهائيًّا من الأرواح، مُجرَّدًا مثلي من المادة، مُجرَّدًا مثلي من المشاعر الفردية، من سخاء عواطف البهيمية الجماعية؛ عقول مجردة، أشياء من الدهشة والأفكار الوليدة، يتعجَّبون من هذا الانعِتاق الغريب الذي حلَّ بهم فجأة!
وبينما كنتُ أبتعد أسرع فأسرع عن الشمس البيضاء الغريبة في السماوات السوداء، وكذلك عن الأرض الواسعة اللامعة التي بدأ منها وجودي، بدا أنني أصبحتُ ضخمًا بشكلٍ غير معقول بالنسبة إلى هذا العالم الذي غادرتُه، ضخمًا بالنسبة إلى لحظات الحياة البشرية وحِقَبها. وسرعان ما رأيتُ دائرة الأرض بأكملها، مُحدَودِبةً قليلًا كالقمر عندما يُشارِف على الاكتمال، لكنها كانت كبيرةً للغاية، وأصبح الشكل الفِضيُّ لأمريكا يقع في وَهَج الظهيرة الذي كانت تتشمَّس فيه إنجلترا الصغيرة (كما بدا حين ذاك) قبل لحظاتٍ فقط. في البداية، كانت الأرض كبيرةً للغاية والْتَمعتْ في السماء تملأ جزءًا كبيرًا منها، لكنها ظلَّتْ تتضاءل وتبتَعِد مع كل لحظة. وبينما كانت تَتضاءَل، زحف القمر في رُبعه الثالث إلى المشهد واستقرَّ على حافَة قُرصها. رحتُ أبحث عن كوكبات النجوم؛ لم يحتجِبْ منها إلا ذلك الجزء من الحمَل؛ إذ كان يقع مباشرةً وراء الشمس والأسد اللذين غطَّتْهما الأرض. رأيت حزام الطريق اللبنيِّ المُتعرج البالي، ونجم النسر الواقع بين الشمس والأرض شديد السطوع، وكذلك الشِّعرى والجبار اللذان كان لمَعَانهما رائعًا في هذا السواد الحالك في الجهة المقابلة من السماء. كان النجم القطبي في الأعلى، بينما يحلِّق الدبُّ الأكبر فوق دائرة الأرض. وبعيدًا في الأسفل تحت الهالة المضيئة للشمس، رأيت كوكباتٍ غريبة من النجوم لم أرها قطُّ في حياتي، لا سيما تلك الكوكبة على شكل الخنجر والتي كنت أعرفها باسم كوكبة الصليب الجنوبي، وكلها لم تكن أكبر حجمًا مما كانت تبدو عليه من على الأرض، لكنَّ تلك النجوم الصغيرة التي لم يكن المرء يراها إلا بالكاد، كانت تلمع الآن في هذا الفضاء الأسود كأشدِّ النجوم سطوعًا، بينما بدت العوالم الأكبر نقاطًا يصعُب وصف روْنقها ولونها. بدا الدَّبَران كبقعةٍ حمراءَ مُتوهِّجة، وتركز ضوء الشِّعرى في نقطةٍ واحدة وكأنه يزخَر بعددٍ لا نهائي من حبَّات الياقوت. وكانت كل هذه النجوم تلمع باستمرار؛ لم تكن تُومِض، بل كانت تتألَّق بجلالٍ في هدوء. كنتُ أرى الأشياء بحدَّةٍ ووضوح؛ فلم يشُبْ رؤيتي لِين الغِشاوة؛ فما من غلافٍ جويٍّ، ولا شيءٍ إلا تلك الظُّلمة اللانهائية المُبرقشة بآلافٍ من النقاط اللامعة الثاقبة وبُقَع الضوء. حين نظرتُ مرةً أخرى الآن، لم تكن الأرض الصغيرة أكبر من الشمس، وراحتْ تتضاءل بينما كنتُ أنظر إليها، وفي ثانيةٍ واحدة من ثواني الفضاء (كما بدا لي)، تضاءلت إلى النصف، وهكذا ظلَّت تتضاءل سريعًا. وبعيدًا في الاتجاه المقابل، كان كوكب المريخ يُضيء بثباتٍ كرأس دبُّوس من الضوء يميل لونه إلى الوردِي. سبحتُ بلا حراكٍ في الفراغ، وبلا أثرٍ من الرُّعب أو الاندهاش، شاهدتُ ذرَّة الغبار الكوني التي ندعوها بالعالم، وهي تتضاءل وتبتعِد عني.
في هذه اللحظة، خَطَر في ذهني أنَّ إحساسي بالزمن قد تغيَّر؛ فلم يكن ذهني يتحرك بسرعة، بل ببطءٍ لا مُتناهٍ، كأن أيامًا عديدةً تنقضي بين كل انطباعٍ والذي يلِيه. دار القمر حول الأرض مرةً واحدةً كما أشرتُ من قبل، ورأيت أيضًا حركة المريخ في مَداره بوضوح. وليس ذلك فحسب، بل كان يبدو أنَّ الفترة الزمنية التي تفصِل بين كل فكرةٍ والأخرى كانت في ازدياد مُطَّرد، حتى أصبحتِ الألف عامٍ تمرُّ كلحظةٍ واحدة في إدراكي.
في البداية، سطَعت الكوكبات ساكنةً على الخلفية السوداء للفضاء اللانهائي. أما الآن، فقد بدا أنَّ النجوم في كوكبتَي الجاثي والعقرب، يقترِب بعضها من بعض، بينما تتباعَد نجوم الجبار والدَّبَران. وفجأة، انبثق من الظلام ومِيضٌ لفَوجٍ طائرٍ من الجُزيئات الصخرية، تلتمِع كذَرَّات الغبار في أشعة الشمس، وتجتمِع معًا في غَيمةٍ خافتة الضوء. أخذَت تدور من حولي، ثم تلاشت مُجددًا في طرفة عين بعيدًا عني. وبعدها رأيت بقعةً ساطعةً من الضوء تلمع قليلًا على أحد جانبَي طريقي، يزداد حجمها بسرعةٍ كبيرة، وأدركتُ أنه كوكب زُحل يندفع نحوي. وظلَّ ينمو وينمو مُبتلِعًا السماء من خَلفه، مُواريًا في كل لحظةٍ فوجًا جديدًا من النجوم. رأيت جسمه المُسطَّح الدوَّار وحزامه الشَّبِيه بالقُرص، وسبعة من أقماره الصغيرة. وظلَّ ينمو وينمو حتى صار ضخمًا وشاهقًا؛ اندفعتُ بعدها وسط تيارٍ هائل من الأحجار المُتدافعة وجُزيئات الغبار المُتراقصة ودوَّامات الغاز، وللحظةٍ رأيتُ هذا الحزام الثلاثي العظيم كثلاثة أقواسٍ من ضوء القمر مُتَّحدة المركز تدور من فوق، وينعكِس ظلها الأسود على ذلك الثَّوَران المُحتدِم من تحتها. حدث كل ذلك في مِعشار الوقت الذي يستغرِقه سَرْده. صار الكوكب كومِيضٍ من البرق، حتى إنه طغى على الشمس لبضع ثوانٍ، وفي لمح البصر أصبح مجرَّد رقعةٍ سوداء مُجنَّحة تتضاءل شيئًا فشيئًا أمام الضوء. أما الأرض، الذرَّة الأم لكَيْنونتي، فلم أَعُد أراها.
وبسرعةٍ رهيبة، وفي صمتٍ مُطْبِق، سقط مني النظام الشمسي كما لو كان رِداءً، حتى صارت الشمس محضَ نجم بين هذا الكم الهائل من النجوم، بدوَّامتها التي تتألَّف من شذَرَات الكواكب التائهة في هذا اللمعَان المُضطرب في الضوء الأبعد. لم أعُد من قاطني النظام الشمسي؛ فقد وصلتُ إلى الكون الخارجي، وبدا أنني أفهم عالم المادة تمامًا. راحت النجوم تقترِب بسرعةٍ أكبر من البُقعة التي اختفى فيها قلبا نجمَي العقرب والنسر الواقعين في ضبابٍ فسفوري، حتى أصبح هذا الجزء من السماء أشبَهَ بكتلةٍ دوَّارة من السُّدُم، وانفتحت أمامي تمامًا فجَوَاتٌ شاسعة من العتْمة الخاوية، وراح ضياء النجوم يخفُت شيئًا فشيئًا. بدا وكأنني تحركتُ نحو نقطةٍ فيما بين حزام الجبار وسيفه، وقد راح الفراغ المحيط يزداد اتساعًا في كل ثانية، وانفتح خليجٌ واسع من العدَم سقطتُ فيه. راح الكون يندفع بسرعةٍ لا نهائية، كدوَّامةٍ من الغبار تُسرع أخيرًا نحو الفراغ بصمت. وراحت النجوم تزداد سطوعًا وتوهُّجًا، وبينما كنتُ أقترب منها، كانت الكواكب التي تدور حولها تَلتقِط الضوء بطريقةٍ خاطفة، فإذا بها تلمع ثم تختفي ثانيةً في العدم. المُذنَّبات الباهتة، ومجموعات النيازك، وتلك الشَّذَرات الوامِضة من المادة ونقاط الضوء التي تتحرك في دوَّامات، كل ذلك مرَّ بي في لمح البصر، حتى إنَّ بعضها قد ابتعد عني مسافة مائة مليون ميل، وبعضها كان أقرب قليلًا، كل ذلك كان يتنقَّل بسرعةٍ تفوق كلَّ خيال، فتلمع كوكبات النجوم، كسِهامٍ ناريَّةٍ خاطفة في هذا الليل الحالك الرهيب، في صورةٍ هي أشبَه ما تكون بتيارٍ هوائيٍّ مُغبَّر يتخلَّله ضوء الشمس. وازدادت مساحة الفضاء الخالية من النجوم اتساعًا وعمقًا، ذلك الفراغ الآخَر الذي كنت أُدفَع إليه. وأخيرًا، صار رُبع السماء أسوَدَ وفارغًا، وانتهى كل ذلك التَّسارُع والتدافُع في عالم النجوم وانسَدَل من خَلْفي كحجابٍ من الضوء تضافَر وتشابَك، وقد ابتعدَ عني كيَقْطينةٍ مُضيئةٍ مُرعبة تقُودها الريح. كنتُ قد وصلتُ إلى براري الفضاء، وصار هذا السواد السرْمَديُّ الخواء، يتَّسع أكثر فأكثر، حتى لم تبدُ النجوم إلا كلفيفٍ من هباءٍ مُتوهِّج يُسارع للابتعاد عني، حتى صارت بعيدةً أشدَّ البُعد، وكان الظلام والعدم والفراغ يُحيط بي من كل جانب. وسُرعان ما أخذ كون المادة الصغير، هذه الشبكة من النقاط التي كنتُ قد بدأتُ بالدخول فيها؛ في التضاؤل، فأصبح قُرصًا دوَّارًا من الضوء المتلألئ، ثم صار قُرصًا صغيرًا للغاية من الضوء الخافت، وبعد ذلك بقليل، تضاءل إلى نقطةٍ واحدة ثم تلاشى تمامًا في النهاية.
وفجأةً عاد الشعور إليَّ مرةً أخرى؛ كان شعورًا في شكل رعبٍ غامر؛ ذلك الهَلَع بثِقَله الأسود الذي لا يمكن لأي كلمات أن تَصِفه، انبعاث مُتوقد للتعاطف والرغبة الاجتماعية. أكانت ثمَّةَ أرواحٌ أخرى لا أراها ولا تراني، تُحيط بي في السواد؟ أم أنني كنتُ وحيدًا بالفعل بالرغم مما كنتُ أشعر به؟ هل غادرتُ الوجود إلى شيءٍ آخر لا هو بالوجود ولا بالعدم؟ تمزَّق عني غطاء الجسد وغطاء المادة، وكذلك هلاوس الرفقة والأمان. كل شيء كان أسود وصامتًا. توقفتُ عن الوجود، صرتُ لا شيء، لم يكن ثمةَ أي شيء خلا نقطة الضوء المتناهية الصِّغَر التي تضاءلت في الخليج. أضنيتُ نفسي كي أسمع وأرى، ولبُرهةٍ لم يكن هناك إلا الصمت اللانهائي، والظُّلمة غير المُحتَملة، والرعب واليأس.
ثم رأيت أنَّه بالقرب من بقعة الضوء التي يتضاءل فيها عالم المادة بأكمله، كان يُوجَد وَهَج شاحِب، وفي شريط على جانبَي تلك النقطة، لم تكن الظلمة مُطْلقة. ظللتُ أشاهدها لدهرٍ طويل كما بدا لي، وفي خِضمِّ هذا الانتظار الطويل، بدأ هذا الضوء الخافت يزداد وضوحًا بالتدريج. وبالقرب من الشريط، ظهرت غَيمة غير منتظمة بلونٍ بُنيٍّ بالغ الشحوب لم أره من قبلُ. شعرتُ بتبرُّمٍ شديد، لكنَّ الأشياء راحت تزداد سطوعًا ببطءٍ شديد حتى إنها لم يبدُ أنها تتغير إلا قليلًا. ما الذي كان يكشِف عن نفسه؟ وما هذا الفَجر الغريب المائل إلى الحمرة في ليل الفضاء اللامُتناهي؟
كان شكل الغَيمة غريبًا؛ فقد بدا أنها مُلتفَّة بطول جانبها السفلِي في أربع كُتَلٍ بارزة، وانتهت في أعلاها بخطٍّ مستقيم. فأي طيفٍ هذا؟ شعرتُ بيقينٍ أني رأيتُ هذا الشكل من قبلُ، لكنني لم أستطع أن أتذكَّر ما هو ولا أين رأيته. ثم داهمني الإدراك مرةً واحدة؛ لقد كانت قبضة يَد. كنتُ وحيدًا في الفضاء، وحيدًا مع طيفِ هذه اليد الكبيرة، التي استقرَّ عليها كون المادة بأكمله كذرَّة غبارٍ مُهمَلَة. بدا كأنني ظللتُ أشاهِدها لفترةٍ طويلة من الوقت. على إصبع السبَّابة، كان ثمةَ خاتَمٌ يلمع، ولم يكن الكون الذي أتيتُ منه إلا بقعةً من الضوء على مُنحنى هذا الخاتم. وأما الشيء الذي كانت تقبِض عليه اليد، فكان أشبه بقضيبٍ أسود. بدا لي أنني كنتُ أراقب هذه اليد والخاتم والقضيب منذ الأبد، وظللتُ أنتظر بلا حِيلة في ذهولٍ وخوف ما يُمكن أن يحدُث بعد ذلك. بدا لي أنه لا يمكن أن يحدُث شيء بعد ذلك. سأظل أُراقِب اليد إلى الأبد ولا أرى سواها والشيء الذي تُمسِك به، دون أن أفهم أي شيءٍ عن دلالتها. هل كان الكون بأكمله إلا بقعةً مُنكسرةً تقبَع على كينونةٍ أكبر منها؟ هل كانت عوالمنا إلا ذرات كونٍ آخر، وهي بدورها ذراتٌ في كونٍ آخر، وهكذا على مدار سلسلة لا نهائية من التعاقب؟ وماذا كنت أنا؟ أكنتُ بالفعل أنتمي إلى العالم غير المادي؟ وللدهشة، حلَّت عليَّ قناعةٌ غامضة بأن جسدًا ما يتكوَّن وينمو من حولي. وامتلأ الظلام السحيق المحيط باليد بإشارات وإيماءاتٍ غير ملموسة وأشكالٍ لا يَقينيَّةٍ مُتغيرة.
بعد ذلك، وعلى حين غِرَّة، إذا بي أسمع صوتًا يشبِه قرْع الجرس، خافتًا كأنه في غاية البُعد، مكتومًا كأنما يُسمَع عبر لفائفَ سميكةٍ من الظلام؛ صدًى عميقًا مُهتزًّا، مع فجواتٍ شاسعة من الصمت بين كل خفقة وأخرى. وبدت اليد تُحكِم قبضتها على القضيب، وفوقها بمسافةٍ كبيرة باتِّجاه قمة الظلام، رأيتُ دائرة من إضاءةٍ فسفوريةٍ خافتة، طيْف دائرة تأتي منها هذه الأصوات خافقةً؛ وعند الخفقة الأخيرة، اختفت اليد؛ فقد حان الأجل، وسمعتُ خرير مياهٍ كثيرة. لكنَّ القضيب الأسود ظلَّ كشريطٍ هائل عبر السماء، وبعدها جاء صوتٌ بدا أنه بلغ أقصى أجزاء الفضاء، وتحدَّث قائلًا: «لن يكون هناك المزيد من الألم.»
وعندها سرى بداخلي سرورٌ وإشراق بالغَان، ورأيتُ الدائرة تُشِعُّ بياضًا وبريقًا، ورأيتُ القضيب الأسود لامعًا كذلك، ورأيت العديد من الأشياء الأخرى مميَّزة وواضحة. أما الدائرة فقد كانت وجه الساعة، وأما القضيب فكان سياج سريري. كان هادون واقفًا على قدميه في مقابل السياج وبين أصابعه مِقصٌّ صغير، وفوق كتفيه كانت عقارب ساعتي الموجودة على الرفِّ تتشابَك معًا عند الساعة الثانيةَ عشرةَ. كان موبري يغسِل شيئًا في حوضٍ عند الطاولة الثُّمانيَّة، وفي جانبي شعرت بإحساسٍ خَفيف لا يمكنني تَسميته بالألم.
لم تَقتلْني العملية الجراحية، وأدركتُ فجأةً أنَّ تلك الكآبة القاتمة التي سكنتْ عقلي لما يَزيد على نصف عام، قد زالت عنه.