صدامهم كأوار النار محتدم
وأنطلوخ به قد خفَّت القدم
ألفى أخيل لدى الأسطول يخبط في
بحرانه قلقًا ممَّا بدا لهم
١
يئن وهو يناجي النفس مضطربًا:
«ويلا علام أرى الأرغوسة انهزموا
ولَّوا عباديد نحو الفلك شاردةً
هل جلَّ خطبٌ به الأرباب قد حكموا
٢
خطبٌ به أوعزت ثيتيس قائلةً:
«بُهمُ المرامد يلقى الحتف خيرهم
٣
«يغيب عنه ضياء الشمس فاتكةً
به الأعادي وحيٌ أنت عندهم»
لا شك فطرقل أودى ويحه أفلم
أقل له دونك النيران تضطرم
أخمد شرارتها وارتدَّ مجتنبًا
هكطور لا تنخرط إيَّاك وسطهم»
تلك الهواجس هاجت بثَّه فإذا
بأنطلوخ بدا والدمع ينسجم
قال: «ابن فيلا مصابٌ قد دهمنا به
يا حبَّذا لو بنو العلياء ما دهموا
فطرقل ملقى وهكطورٌ بشكتِهِ
والجسم عارٍ عليه النقعُ ملتحم»
٤
فما انتهى أنطلوخٌ من مقالته
حتى محيَّا أخيلٍ غشَّت الغمم
٥
وفوق طلعته الغراء وهامته
براحتيه سناجًا ذرَّ يلتطم
٦
أكب يشغل ميدانًا بقامته
تمرُّغًا وهو زاهي الشعر يصطلم
٨
وحوله انطلقت تبكي مولولةً
تلك السَّبايا التي غصَّت بها الخيم
٩
غيدٌ أخيلُ وفطرقلٌ ببأسهما
قد أحرزا سلمًا يا حبَّذا السَّلم
١٠
لطمن بض صدورٍ والتوين أسًى
فسحَّ من أنطلوخ المدمع الرَّذم
١١
ذرعيه أمسك حتى لا يثور أسًى
ونحره يلج الصَّمصامةُ الخذم
١٢
فأنَّ عن ألمٍ من ضيمه فمضى
حتى لثيتيس ذاك الضيم والألم
١٣
فصعدت من عباب البحر زفرتها
حيث استقرَّ أبوها نيرس الهرم
١٤
وحولها ثم في الأعماق قائمةً
في اليم كلُّ بنات اليم تلتئم
غلوكةٌ قيمذوكا ثاليا وثوا
وآليا من بعين الحور تتسم
صفيةٌ نيسيا أكتا قموثوةٌ
لمنورةٌ ذروسٌ فانوب أمفنمُ
أمفيثوا ذينمينا ذكسمينا ذتو
غلاطيا الحسن من شاعت لها الشيم
وحولها ياريا ميليت آغبيا
فيروز قليانرا إفروط تزدحم
وأفسذيس نميريتيس قلينسا
أماثيا من بشعرٍ زانها وسموا
ياناسُ يا نير إقليمين أورثيا
ما يير والكلُّ ضمن الكهف ينتظم
١٥
كهفُ لها أبيض حسنًا فارتكمن به
وفيه كل بنات البحر ترتكم
ولولن ولولة ثم التطمن معًا
وولولت عن فؤادٍ كاد ينفصم
صاحت: «أخيَّات سمعًا وانتبهن إذا
لنقمةٍ قد عرتني دونها النقم
ويلاه ويلاه من أمٍ لقرم وغى
عن شأوه قصَّر الأبطال كلهم
أنشأته مثل غصنٍ طاب منبته
في روضةٍ فإذا بالسادة اختصموا
١٦
بالفلك أنفذته للحرب واحربا
والآن موطن فيلا دونه حَرَمُ
١٧
ما زال حيًّا عليه الشمس ساطعةٌ
وفي حشاشتهِ من ضيمه ضرم
لا أستطيع له عونًا وها أنذا
فورًا لرؤيته ذا الحين أغتنم
أرى الحبيب فأدري ما ألم به
من محنةٍ وهو عن قرع القنا وجم»
وغادرت كهفها يصحبنها وغدا
أمامهنَّ عباب البحر ينقسم
حتى إذا ما بلغن السَّهل سرن إلى
حيث المرامد تلك الفلك قد نظموا
وحيث حوليه قد أرسوا عمارتهم
فأسمعت زفراتٍ هاجها السأمُ
دنت وأنت وضمَّت رأسه لهفًا
وكلمته تجاري دمعها الكلم:
١٨
«بني ماذا الأسى ما الدمع تذرفه
بُحْ لي فبثُّك عني ليس يكتتم
ألا ترى زفس ذاك الوعد برَّ به
لمَّا بسطت له كفيك تظلم
ناشدته مذ عن الإغريق بنت إذن
في وجه فلكهم كيدًا يكيدهم»
١٩
فأنَّ عن كبدٍ حرَّى وقال: «أجل
قد بر ويلاه فيما قد أذاقهم
لكن إذا اخترمت أبطال صيدهم
ما نالني والفتى فطرقل مخترم؟
٢٠
فطرقل أرفعهم شأنًا وأعلقهم
بمهجتي لا تضاهيه قرومهم
بهامتي كنت أفديه فوا لهفي
عدمتُهُ مثلما كبارهم عدموا
من بعد مصرعه في صلد شكَّته
هكطور ذو القونس الطيَّار محتكم
٢١
سلاح خلدٍ من الأرباب أهديه
فيلا فما حصرت تقويمه القيم
فيضًا أنالوه لمَّا كنت قسمته
يا حبَّذا لو له إنسيَّة قسموا
٢٢
فلو بقيت ببطن البحر قاطنةً
ما نلت من إنس أهل الأرض ضيمهم
وما تألمت لابنٍ لن يأوب إلى
أوطانه وهو بحر الموت يقتحم
لا عيش لي فسناني اليوم تنفذه
كِفِّي لهكطور عن فطرقل أنتقم»
صاحت وسحَّت على الخدَّين عبرتها:
«إذا حياتك كادت آه تنصرم
هلاك هكطور يتلوه هلاكك لا
مرًى» فقال: «إذن يا حبَّذا الشبم
٢٣
يا حبَّذا الموت إذ غلت يدي سلقًا
عن صون إلفي لمَّا اشتدَّت الإزمُ
فطرقل أودى ولم أبرز لجانبه
أقيه من صدماتٍ تحتها اصطدموا
فلم أصدَّ زؤام الموت عنه ولم
أرد عن فتيةٍ هكطور فلَّهم
فالموت فالموت لا عودٌ ولا وطنٌ
إذ لم أهبَّ إلى الهيجا أصونهم
حملًا على الأرض لا جدوى لثقلته
ظللت دون أساطيلي تجاههم
لئن يفق بسداد الرأي بعضهم
فإنني بقراع الصم فقتهم
فلتهلك الفتنة الدّهما التي عبثت
بالجن والإنس حتى افتلَّ شملهم
وليهلك الغيظ من بين الأنام فكم
أغرى وأوغر منقادًا حكيمهم
كالشهد في الصدر يجري وهو منتفخٌ
مثل الدخان به أهل العيون عموا
أتريذ حدَّ مني غيظًا وذاك خلا
فلنغض ولنمض مهما برَّح الأضم
٢٤
نعم سأطلب هكطور الذي فتكت
كفَّاه في قمَّةٍ تعنو لها القمم
حتى إذا شاء زفسٌ في بطانته
موتي فإن حياتي تلك دونهم
هرقل لم يغن عنه بأسه وولا
زفسٍ فأودى وإن أولوه ودَّهم
أصابه كيد هيرا والقضاء إذن
فلأُلق ميتًا إذا كانت كذا القسم
وليس من شاغلٍ ذا اليوم يشغلني
إلَّا ادخار علًى تسمو به الهمم
والدردنيَّات بضَّات الصدور يرى
لهنَّ دمعٌ سخينٌ جريه ديم
٢٥
يمسحن ما سحَّ عن غض الخدود وقد
هاجت تلهفهنَّ الأبؤس الدهم
يعلمن أن اعتزالي طال فاغتنم الـ
أعداء بوني وإني الآن بينهم
ما أنت مهما بذلت النصح مانعتي»
قالت: «أجل أحكمت في قولك الحكم
٢٦
وافخر من عن سراياه وأسرته
أزاح بالبأس خطبًا جلَّ هالهم
لكنَّ شكتك الغراء فاز بها الـ
ـعدى وهكطور فيها الآن متسمُ
ما خلته يتمادى عهده زمنًا
علمت ساعته حانت وما علموا
فلا تلج لجج الهيجاء مقتحمًا
حتى تراني غدًا والفجر يبتسم
في شكةٍ من لدى هيفست شائقة
أعود فأبل بها وافتلَّ جمعهم»
وغادرتْه وقالت للحسان: «إلى
مَ الشيخ والدنا بالصبر معتصم
لجن العباب إذن بلغنه وأنا
هيفست أطلب فهو العهد يحترم»
فغصن وهي استطارت تبتغي مددًا
في الخلد حيث استقر المجد والعظم
ما زالت الطرواد تحت القسطل
من وجه هكطور المدمر تنجلي
بلغت على صلقاتها أسطولها
وقتيلها تحت النبال الهمَّل
كشرارة هكطور هب يرومه
بعجاله ولفيف ذاك الجحفل
أحنى ثلاثًا قابضًا قدميه وهـ
ـو يصيح يا جند الطراود أقبلي
وكذا ثلاثًا صدَّه عزم الأيا
سين المذلل عزم كل مذلل
لكنه ما انفك عن عزماته
متدرعًا بزماع قرمٍ قيلِ
متربصًا طورًا يهدُّ وتارةً
يلج العباب بكرَّة المستبسلِ
لم يبلغا أربًا به لكنَّه
من حول ذاك الشلو لم يتحوَّلِ
كالليث ضوره الطوى بفريسةٍ
يخلو ويزري بالرعاة البسَّل
ولربما بمناه عاد مظفَّرًا
لو لم تلح إيريس ترمح من عل
أمت أخيل من الألمب فأقبلت
كالريح تنذر بالوبال المقبل
هيرا أسارتها فلم يعلم بها
زفسٌ ولا أرباب ذاك المحفل
قالت: «أخيل وأنت مغوار الوغى
للذود عن فطرقل كرَّ وعجل
دون السفائن تحت مشتجر القنا
حوليه كم قرمٍ يخرُّ مجندلِ
ما بين حامٍ يستشيط وحائمٍ
بالشلو إليونًا يروم ويصطلي
وأشدهم هكطور يدفعه المرا
م لفصل هامته وبت المفصل
من ثم تعرض للهوان على القنا
أفتلبثنَّ عن الكفاح بمعزل
كرَّن أو فطرقل بين نواهسٍ
في ساحة الأعداء جثته تلي
فإذا بها عبثت فأيَّة حطة
أبدًا تسومك ذلة المتذلل»
فأجاب: «إيريسٌ ومن أسراك لي»
قالت: «حليلة زفس ذي الطَّول العلي
لم يدر بي زفسٌ وسائر من ثوى
بذرى ألمبٍ بالثلوج مكلل»
فأجاب: «آه وكيف أقتحمُ الوغى
وأخوضُ لجتها براحة أعزل
ملك العدى عددي وأمي حتمها
أبقى هنا بتربص المتحمل
حتى أراها أقبلت في شكة
قد دقها هيفست أعظم صيقل
أولا فأي فتى بشكته أرى
غرضي خلاف مجن آياس الملي
وأياس من حول القتيل إخاله
قد حام يطعن في الخميس الأول»
قالت: «علمنا كل ذلك إنما
إن تبد للطرواد دون المعقل
ذعروا وصحبك يانسون بجهدهم
فعلى البروز لدى سراهم عول
ضاقت منافسهم وفي دار والوحى
هيهات تؤمل راحةٌ لمؤمل»
طارت فهبَّ فألبسته مجنها
فالاس في هدَّابه المسترسل
وعلى محيَّاه غمامة عسجدٍ
ألقت يفيض لها لهيب المشعل
فكأنما بلدٌ بقلب جزيرةٍ
حصرت علا منه الدُّخان المعتلي
خرجت بنوه إلى مبارزة العدى
وقضوا نهارهم بقرع الأنصل
حتى إذا برحت براح تألقَّت
نيرانهم من تحت ليلٍ أليل
٢٧
أملًا بجيرتهم ترى فتمدَّهم
بعمارةٍ تجلي العدوَّ المبتلى
وكذا أخيل لهيب هامته سما
حتى الرقيع لمقلة المتأمل
فوق الحفير أقام لا يطأ الوغى
إذ عن مقالة أمه لم يغفل
بالقوم صاح وصوت فالاسٍ علا
فتقلقل الأعداءُ أيَّ تقلقل
كالصور خلف السور ينفخه العدى
تحت الحصار تبينوا الصوت الجلي
صدعوا وأعراف الجياد تطايرت
جزعًا وفرت خيلهم بتجفل
بعجالها انقلبت تفر بساقةٍ
ذعرت لذياك اللهيب المنجلي
من حول هامته أثينا أجَّجت
ذاك السعير يروع عين المجتلى
فوق الحفير علا ثلاثًا صوته
وكذا ثلاثًا أجفلوا بتبلبل
وتجندل اثنا عشر من أبطالهم
برماحهم تحت العجال العجل
٢٨
فخلا بفطرقل الأغارق وانثنوا
نائين عن مرمى الرماح الدبل
وضعوه فوق سريره وتقاطرت
خلانه تبكي لهول المقتل
وافاهم آخيل منتحبًا على
إلفٍ به لعبت حدود المنصلِ
هو ساقه للحرب فوق جياده
لكنه وا ويحه لم يقفل
فهناك هيرا أنقذت شمس العلى
فتخللت بطن العباب لتختلي
فتثبَّط الإغريق عن هجماتهم
وتربَّصوا تحت الظلام المسبل
تخلفت الطرواد لما الدجى أربدا
مغيرًا وحلوا من عجالهم الجردا
وقوفًا قبيل الزاد حشدًا تألفوا
ولم يجلسوا رعبًا وإن أثقلوا جهدا
لقد هالهم أن ابن فيلا بدا لهم
وبعد اعتزال الحرب قد عاد مشتدَّا
بهم فولداماس الحكيم ابن فنثس
تبدَّى خطيبًا يفقه الحل والعقدا
نظورٌ لما يأتي خبيرٌ بما مضى
ولي لهكطور ومن رهطه عدَّا
لقد ولدا في ليلةٍ بيد أنَّه
بدا دونه بأسًا كما فاته رشدا
فقال: «أصيحابي اقتفنَّ نصيحتي»
هلموا إلى إليون ذا الحين نرتدَّا
لدى الفلك في ذا السهل للفجر لا أرى
مقامًا وعنا السور تدرون قد ندَّا
لقد كانت الأرغوس أسهل مأخذا
وآخيل مشتدُّ بعزلته حقدا
وكم شاقني إذ ذاك ليلي بقربها
على أملٍ بالقرب أن نبلغ القصدا
ولكنني أخشى وأدري بأنه
بحدَّته لن يرضينَّ هنا الحدَّا
يجوز مرامي الجحفلين مغادرًا
ليمتلك الأسوار والأهل والولدا
صدقتكم نصحًا فسيروا بنا فإن
يكفَّ فذاك الليل في وجهه اسودَّا
ولكن إذا ما أصبح الصبح وانبرى
بعدته أيقنتموه الفتى الفردا
لإليون من ولّى فمستبشرًا نجا
ويشبع طير الجو والغضف من يردى
فلا طرقت هذي النوازل مسمعي
ولكن علمي ذا وإن ساءكم جدَّا
إذا فلنقم في الليل حشدًا مكثفًا
بإليون أسباب الوقاية نعتدَّا
فأبراجها الشما وأرتاجها التي
بأصفاقها زلجن نجلي بها الوفدا
٢٩
وعند بزوغ الفجر بالعدد الأولى
تألقن نبدو فوق معقلنا حشدا
فهيهات آخيل يفوز إذا بدا
بممتنع الأسوار مهما علا جهدا
يعود إذا ما أجهد الخيل حولها
مغارًا إلى أسطوله لاهبًا وجدا
ستفرسه غضف الكلاب قبيل أن
يحلَّ بهنَّ اليوم أو يعمل الحدَّا»
فأحدق شزرًا فيه هكطور صارخًا:
«لقد جئت أمرًا فولداماسنا إدَّا
أندخل إليونًا فهلَّا عييت من
مقامك من خلف المعاقل منهدَّا
لقد ملأ الأسماع ما أرضنا حوت
نضارًا بهيا أو نحاسًا بها صلدا
وقد نفدت جلى الكنوز وبددت
فلست لها تلقى بأفنائها عهدا
بإفريجيا بيعت وأرض ميونةٍ
على حين عنَّا زفس منتقمًا صدَّا
وها هو عني الآن راضٍ منيلني
من النصر ما للفلك يطردهم طردا
تعست فصه لا تخدع الجند لن يروا
برأيك نصحًا أو أردَّهم ردَّا
هلموا إذن للزَّاد لا تتشتتوا
وكل فتًى في حينه يحسن الرصدا
ومن بات في خوفٍ على المال فليقم
ويجمع لديه المال يطعمه الجندا
فخبرٌ لنا نلهو به جملةً ولا
نمتع بالأموال أعداءنا اللدا
وإن طرَّ وجهُ الصبح دجج جيشنا
فتعقد دون الفلك كرته العقدا
فإن كرَّ آخيلٌ إلى ساحة الوغى
رأى عجبًا من قبلِ أن يرد الوردا
أبارزه لا هالعًا أو موليًا
ولا بد منا ماجدٌ يحرز المجدا
لكل همام كانت الحرب منهلا
فكم بطل فيها يصدُّ العدى أصدى
٣٠
فضجت له الطرواد جهلًا وما دروا
بأن أثينا قد أضلتهم عمدا
وهكطور طرًّا وافقوا يغفلون ما
لهم فولداماسٌ بحكمته أبدى
ومالوا وما زالوا بملء انتظامهم
لزادٍ لهم ما بين تلك السرى مدَّا
وأما بنو الإغريق آناء ليلهم
فقد لبثوا في مأتم هدَّهم هدَّا
وبينهم آخيل في زفراته
يحن لفطرقلٍ وقد أكبر الفقدا
على صدر ذاك الإلف ألقى أكفه
يحاكي إذا ما أحدق الأسد الوردا
كأن ببطن الغاب أشباله بها
خلا قانصٌ فاربدَّ واشتدَّ واحتدَّا
وهبَّ على آثاره بحزازةٍ
تحدره وهدَّا وتصعده نجدا
فصاح: «ألا ربَّاه واعظم موعدٍ
وعدت منتيوسًا ولن أصدق الوعدا
٣١
بمنزله عاهدته لأفنطسٍ
أعيد ابنه من بعد أن يقهر الضدَّا
ويهدم إليونًا ويرجع غانمًا
وهيهات زفسٌ كلَّ آمالنا أسدى
بإليون قد خط القضاء بأنَّ من
دماء كلينا الأرض محمرة تندى
فلن يتلقاني أبي الشيخ عائدًا
وثيتيس أمي بعد أن أعظما البعدا
أفطرقل مذ سيقت لذا الترب أعظمي
وبعدك لي قد خط أن أنزل اللحدا
فلست متما مأتمًا لك قبل أن
أذيق الرَّدى هكطور قاتلك الجلدا
وشكَّتُهُ تلقى لديك ورأسه
فأذكي لك النيران مدَّخرًا حمدا
ومن حولها اثني عشر رأسًا بصارمي
أقضب من طروادة فتيةً مردا
٣٢
فظل إذن ملقى لدى الفلك ريثما
أبرُّ فذا عهدي ولن أخلف العهدا
فكم ثمَّ طرواديَّةً دردنيَّةً
سبينا بدارٍ بأسنا فوقها امتدَّا
ينحن عليك اليوم والليل كله
ويلطمن بض الصدر والنحر والخدا»
وأوعز أن يعلى على النار مرجلٌ
وفي غسل جسم الميت من حينهم يبدا
فلبوا وفيه الماء صبوا وأشبعوا
له النار تذكو من جوانبه وقدا
ولما غلى في ساطع القدر ماؤهم
ففي غسله جدَّوا وقد أحسنوا الجدا
ونقوه من تلك الدماء وبادروا
لزيتٍ كثيفٍ يدلكون به الجلدا
وفي كل جرحٍ أفرغوا بلسمًا مضى
لتسعة أعوامٍ تقادمه عهدا
وألقوه من فوق السرير وأسبلوا
من الرأس حتى تحت أقدامه بردا
ومن فوقه سترٌ من النسج أبيضٌ
وناحوا وآخيل مدى ليلهم سهدا
٣٣
فقال لهيرا زفس في قبَّة العلى:
«فلحت فآخيلٌ لقد أنف الصدا
فلا ريب في أن الأغارق قد نموا
إليك وأضحى منك طارفهم تلدا»
٣٤
فقالت: «ألا يا ظالمًا قد هزأت بي
وللإنس تلقى الإنس قد أحسنوا العضدا
ولم يبلغوا من راسخ العلم علمنا
ولا مثلنا أوتوا بأرضهم الخلدا
وإني وإن ما كنت أسمى إلاهةٍ
وبعلي أخي من لا أقيس به ندا
٣٥
فلم أعط أن أولي الطراود ذلةً
ولا قوم أرغوسٍ أنيل هنا رفدا»
•••
ذاك الحديث في السماء يجري
ونحو هيفستٍ ثتيس تجري
حيث بني الأعرج زاهي القصر
صرحًا من النحاس عالي القدر
٣٦
في الخلد يسمو راسخًا للدهر
ألفته سح عرقًا فوَّارا
يدير منفخًا ويذكي نارا
مناضدًا عشرين قد أدارا
على الجدار تبهر الأبصارا
٣٧
مرفوعةً على عجال تبر
حتى بها بأعجب العجاب
من نفسها لمجلس الأرباب
تسرع بالذهاب والإياب
تمت سوى مقابض الأجناب
مع عراها الشائقات الغر
أمامه قد حمي الوطيس
يشغله إذ أقبلت ثيتيس
فأبصرتها عرسه خاريس
فبادت بقرعها تميسُ
وصافحتها بعظيم البشر:
«يا ربة المقنعة المسدوله
ثيتيسُ يا خلتنا الجليله
علام أنت عندنا نزيله
على خلاف عادةٍ جميله
هيي بنا حيث الضيوف نقري»
وأجلستها طلقة الإيناس
عرشًا بديعًا محكم القياس
وزوجها نادت بصوت الجهر:
«هيفست قم ثيتيس عونك ابتغت»
فقال: «أهلا بإلاهةٍ سمتْ
٣٩
تلك التي الكربة عني فرَّجت
لما من السماء بي أمي رمت
تكتم عاهتي بشرِّ الكبرِ
فهي وافر ينومة الإحسان
بنت المحيط الجازر الهتانِ
بالبشر والأنس تلقتاني
أولا فما كان إذن أشقاني
ووارتاني في عباب القعر
حللت كهفًا حوله قد دارا
مجرى الخضم مزبدًا هدَّارا
كم صغت فيه لهما سوارا
خواتمًا قلائدًا أزرارا
تسعة أعوامٍ بطي الستر
سواهما في الأرض والسماء
لا أحدٌ درى مقام النائي
هما هما قد خففا شقائي
والآن ثيتيس هنا إزائي
أني أأدي حق فرض الشكر
خاريس وافيها بواجب القرى
حتى أريح منفخي وأحضرا»
منفاخه عن حر واري الجمر
وأودع العدة درج فضة
يعمد من ثم إلى إسفنجة
يمسح صدره وعالي الجبهة
كذا يديه ومتين الرقية
ثم اكتسى بردًا وعاد يسري
أعطيتا صوتًا وعقلًا وأدب
لخدمة الأرباب في كل أرب
كغادتين ازدانتا بالفكر
وليتا هيفست من حيث انثنى
حتى إلى ثيتيس بالجهد دنا
حل على عرشٍ بهيٍ معلنا
ترحابه لها ومن ثم انحنى
مصافحًا لها بقول الحر:
«يا ربة المقنعة المسدوله
ثيتيس يا خلتنا الجليله
علام أنت عندنا نزيله
على خلاف عادة جميله
مري فإنني رهين الأمر»
قالت تسيل الدمع: «هل مثلي ترى
شقية ما بين ربات الورى
دون بنات الماء زفس قدَّرا
علي أن أصيب بعلًا بشرا
فيلا وأمضى أمره بالقسر
فيلا لقد أقعده فرط الكبر
عجزًا وزفس كادني كيدًا أمر
أعطيت نجلًا فاق أبطال البشر
أنشأته كالغصن في روضٍ أغر
٤٢
فثارت الحرب على ما تدري
أنقذته في الفلك للطعان
آه فلن يعود للأوطان
قصَّر عن إمداده بناني
حيًّا ولكن ثائر الأشجان
يرى سنا الشمس قصير العمر
حبته غادةً بنو الآخاء
جزاء حسن الذود والإبلاء
فرامها أتريذ بالدهاء
أقعده الكيد عن الهيجاء
فشهر الطرواد سيف النصر
ودفعوا الإغريق للأسطول
فهبت الصيد إلى أخيل
تطمعه بنائلٍ جزيل
أبى قبول تحفة القيول
لكن دعا فطرقل للمكر
ألبسه شكَّتهُ سلاحا
فهبَّ في أصحابه وراحا
فكافحوا عداهم كفاحا
لسور إليونهم اكتساحا
فأوشكت تعنو لهم بالقهر
لكنما فيبوس فطرقل قتل
لما رآه مزَّق الجيش وفل
وخوَّل النَّصر لهكطور البطل
لذاك بادرت إليك بالعجل
أبسط فوق ركبتيك عذري
أحسن إذن لولدي الحبيب
من سيلاقي الموت عن قريب
تحرز ثنائي وجميل الأجرِ»
قال: «اطمئني آه لو يوم القدر
يتاح أن أقيه أهوال الخطر
كما يتاح الآن في هذا المقر
إعداد عدةٍ له أي نظر
إلى سناها بسواها يُزري»
ثم مضى يدير نحو الكور
منافخًا دارت بلا مدير
فأجَّجت بمثل لمح النور
عشرين موقدًا لظى السعير
تفرغ ما يحتاجه بالقدر
تهب طورًا هبَّة الأنواء
وتارة تنفخ بالإبطاء
ثم رمى بالعسجد الوضاء
للنَّار فوق الفضة الغراء
فوق فلزه وصلد الصفر
وإذ دحى سندانه المهيلا
ففي يدٍ مطرقه الثقيلا
وفي يدٍ ملقاطه الطويلا
أعلى وقام شاغلًا مشغولا
يشرع في المجن بدء الأمر
يكنفه مثلَّث الأطراف
على حمائل اللُّجين الصَّافي
يزهو على خمس طباق الظهر
أودعه نقشًا به تحار
لحسنه الأنظار والأفكار
فالأرض والسماء والبحار
منهن لاحت فوقه الآثار
وساطع الشمس وتم البدر
وصاغ فيه جملة الدراري
مثل الثريَّا الجمَّةِ الأنوار
والدبران ولقا الجبار
دبٍّ دعوا مركبةً دوَّار
من دونها لا يرتوي بالبحر
٤٥
وبلدتين غصتا بالناس
إحداهما بالبشر والإيناس
زف بها الزوجان بالأعراس
بين غناء وسنا مقباس
ونغمة الرباب والشباب
تصدح والنساء في الأعتاب
وقفن للزَّفَّة بالإعجاب
وغير هذا الحشد بانتصاب
حشدٌ بشوراهم عسير الحصر
هنالك اثنان استطالا جدلا
لدية حقّ قتيلٍ قتلا
هذا ادعى إيفاءها مكمَّلا
يعلن ذاك الأمر ما بين الملا
وذاك منكرٌ أشد النكر
كلاهما يطلب حكم القاضي
والناس بين ساخطٍ وراضِ
ضجوا لأي ساعة التقاضي
أحسن والفيوج باعتراض
تأمر بالصمت لحسم الأمر
هنالك الشيوخ من ضمن حرم
على مقاعدٍ من الصخر الأصم
قاموا بأيديهم على مرأى الأمم
صوالج الفيوج يبدون الحكم
قاضين عن روايةٍ وخبر
فردًا ففردًا الأحكاما
أمام هاتيك السرى قياما
وشاقلان ذهبًا تمامًا
بينهم قد أودعت إكراما
لمن محا بالعدل شَـير الوزر
٤٧
والبلدة الأخرى هفست رسما
جيشين حولها عليها هجما
جيشٌ لقد آلى بأن تُهدَّما
وذاك نصف المال يبغي مغنما
وأهلها تحصَّنوا بالسر
كمينهم بينهم أعدُّوا
وفوق سورهم أقام الولد
والأهل والشيوخ ثم امتدُّوا
أمامهم ربُّ الكفاح الصَّلد
كذا أثينا ملجأ المضطر
(كلاهما من ذهبٍ وضَّاح
بالجسم والملبس والسلاح
تراهما العين على البراح
أعظم قدًّا من سرى الكفاح
ما مسَّ آل الخلد شين الصغر)
فوقفوا بالرُّمح والبتَّار
ليرقبا عند ورود النهر
فأقبلت أمام راعيين
بنغمة المزمار لاهيين
عن ذلك الكمين غافلين
فوثبوا وقتلوا الغرَّين
ونحروا السوام شرَّ النحر
فارتفعت عجاعج الضوضاء
فبلغت مسامع الأعداء
فأقبلوا بغارةٍ شعواء
واشتبكوا وانهال باللقاء
غيثٌ من النصال فوق الثغر
بينهم فتنة والغوغاء
كذا مبيد الأمم القضاء
يعلو على كاهله رداء
تسيل من أطرافه الدماء
يفر عن هذا وذاك يفري
تلك رسوم بذكا الرسام
ترى على المجن كالأجسام
تسحب موتاها وبريًا تبري
ودون هذا الرسم رسم حقل
خصبٍ ثلاثًا حرثوا بالفعل
رجاله قامت بعبء الشغل
قد عمقوا الثلم بسطرٍ عدل
في منتهى الأرض انبرى غلام
إذا انقضى ثلمهم التَّمام
ناولهم كاسًا وهم قيام
فانقلبوا ونيرهم أقاموا
بكل وجهةٍ بملء الصبر
والأرض سوداء تلوح للنظر
وإن تكن من ذهبٍ تلك الصور
كأنما الفلاح في الحال عبر
نعم فذي معجزةٌ ممَّن قدر
أن يخضع العسر لأمر اليسر
وقربه يانع زرعٍ بادي
دارت به مناجل الحصَّاد
ومن وراها زمرة الأولاد
تجمع ما يُلقى على التمادي
وخلفهم ثلاثةٌ تستقري
تضم ما ألقوا لهم ضمن حزم
وثم رب الأرض ما بين الحشم
قد قام صامتًا يرى تلك الهمم
معتمدًا على عصاه فابتسم
ينظر بالبشر لوفر الذخر
وتحت سنديانةٍ قام الندل
يهيئون الزَّاد في ذاك المحل
٥٢
قد ذبحوا ثورًا به الكل اشتغل
وعاونتهم النساء في العمل
على لحومه الدقيق تذري
كذاك كرمٌ بدوالي ذهب
قامت فمالت تحت ثقل العنب
يكنفها وخندقٍ مغبر
ليس له إلَّا طريقٌ رسما
يعبره الكرام أيَّام النما
وللرد تبدي والعذارى الهمما
تجني وفي السلال تلقي كل ما
بينهم فتى بعود قاما
مرددًا بنقره الأنغاما
نشيد لينوس الذي تسامى
فرددوا النشيد والأقداما
٥٥
في الأرض دقوا وفق ذاك النقر
ودون ذا سربٌ من الثيار
من الفلز ومن النضار
مندفعٌ يزار للبراري
يرى لدى نهرٍ على مجار
محاطةٍ بالقصب المخضر
رعاته أربعةٌ من عسجد
وتسعةٌ كلابه للرصد
وثم ليثان مروعا المشهد
قد فرسا ثورًا فكرَّت تغتدي
رعاته وغضفه في الإثر
قد مزَّقاه مغنمًا بينهما
وازدردا الأحشاء وامتصَّا الدما
فأوغر الرعاة من خلفهما
كلابهم فهالها بطشهما
هرَّت رهدَّها شديد الذعر
لدى حظائرٍ تسرُّ الراءي
بين مراتعٍ لغر الشاء
كذا غياضٍ فوق روض نضر
وقرب هذا رسم مغنى طرب
كأنه نادٍ بديع العجب
من فتيةٍ ومن عذارى زهر
رداهم المنسوج كالزيت برق
وبرقع الحسان بالحسن نطق
وحليهم سيفٌ من التبر انطلق
على نجادٍ فضة هيفست دق
تعاضدوا بالكف والإبهام
فرقصوا بالعلم والإلمام
كأنهم بحقة الأقدام
محال خزَّافٍ رماه الرامي
٥٩
ثم جروا سطرٌ وراء سطر
حولهم حشدٌ وفي وسطهم
قام مغنٍ بشجي النغم
إن نقر العود فمن بينهم
قرمان دارا بخفيف القدم
رقصًا يرددان لحن الشعر
وعند ما أتم هاتيك البدع
مجاري المحيط في الحاف وضع
٦٠
فأكمل المجن من ثم ابتدع
درعًا سناها كسنا الشمس سطع
ما صلحت إلا لذاك الصدر
وخوذةً بقونسٍ جميل
من عسجدٍ ومحملٍ ثقيل
لاقت لذاك البطل الجليل
ومن نحاسٍ لينٍ مصقول
طرَّق خفين تمام البر
وإذ أتمَّ كل تلك الغرر
ألقى بها لأم آخيل السري
من لدن ربٍّ تحفةً للبشر
فانحدرت من الألمب الأزهر
واندفعت بها اندفاع الصقر