النشيد الثاني
مُجْمَلهُ
ظل زفس فاكرًا ليلته في التنكيل باليونان؛ إعلاء لشأن آخيل «فعن له إرسال طيفٍ مموهٍ» يحث أغاممنون على أن يشد بخيله ورجاله على الطرواد بغية أن يناله وجيشه الفشل فيرجعون إلى استعطاف آخيل، فاغتر أغاممنون وطمع في فتح إليون وآخيل بمعزل عن القتال، على أنه لم يكن على يقين من انقياد الجند إلى إشارته إذ كان مشفقًا من فتور هممهم على إثر الوباء والسؤم من طول مدة الحصار، وتثبط آخيل بقومه، فلما كان الصباح عمد إلى حيلة يختبر بها عزيمتهم، فجمع القوَّاد وكشف لهم عما داخله من الريبة، ثم قال لهم: إن في عزمه أن ينادي بالرحيل والانقلاب إلى الأوطان؛ ليرى ما يكون من أمر الجند؛ فإذا أنس منهم رغبة في معاودة الديار وترك الحصار بادر القواد إلى صدهم والهجوم بهم، فلما وافقوه على رأيه بلسان نسطور عقد المجلس العام، وخطب في الجند مناديًا بالقفول، وما انتهى حتى جرى كل فريق إلى سفنه يتأهب للإقلاع بها، فاعترضهم أوذيس عملًا بأمر أثينا، واجتر صولجان السيادة من يد أغاممنون وطاف فيهم يستنهض الهمم ويقوي العزائم بالوعد والوعيد، ولم ينثن حتى عاد بهم إلى مجلس شوراهم، فتصدى له ثرسيت السفيه بنفثات خبثه ولؤمه، فزجره أوذيس، وضربه ضربة أوهنت قواهُ، وغادره عبرة للمعتبر، والجمع يضج مستوصبًا العقاب، ولما انتظم عقد المجلس نهض أوذيس، فخطب وأطنب بذكر الأيمان ومواعيد الآلهة لهم بالظفر، ثم تلاه نسطور فشدد، وأرشد وأشار بحشد الجيش كتائب يزحف بكل قبيلة منها أميرها، ولما ثبتت قدمهم وذكت هممهم أصدر أغاممنون أمره بالتأهب للقتال، فضحوا بضحاياهم وتناولوا طعامهم، وقاموا إلى السلاح، وهنا أخذ الشاعر في سرد أسماء الملوك والأمراء وتعداد سفائنهم، وذكر بلادهم وقبائلهم، أما زفس فلم يكن غافلًا عما يعملون، فبعث بإيريس إلى فريام ملك طروداة توقفه على ما كان من عزم الإغريق، فعبأ هكطور جند الطرواد وأنصارهم على هضبة محاذية لإليون، وتربص فيهم إلى أن تلتحم الحرب، ثم ختم هوميروس نشيده بسرد قبائل الطرواد وحلفائهم.
لا يستغرق هذا النشيد إلَّا قسمًا من اليوم الثالث والعشرين، ومجرى وقائعه في معسكر الإغريق على جرف البحر ثم في معسكر الطرواد.
النشيد الثاني
القسم الجغرافي
•••
أحلاف الطرواديين
هوامش
وشتان على ما سنرى ما رب الوثنيين وربنا عز وتعالى الذي «لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ» فإن زفس يتنعم بلذيذ الرقاد إذا شاء، فنُئوِّل ذلك باستراحة البارئ تعالى من عناء الفكرة بأمر الخلق كما نصت التوراة عن استراحته في اليوم السابع على أنه من لنا بتأويل رقاد زفس في النشيد الرابع عشر، وقد استولى عليه الهجوع على غرة منه؟
«لم يكن أغاممنون يطمع في شيء طمعه في دفع الجيش إلى قتال عنيف، ومع هذا فقد كان يخشى أن تعييه الحيلة على أثر اعتزال آخيل، ويشفق أن تعصي الجنوب أمره لو أمر تشفيًا منه لما نالهم من الغيظ لاحتجاب آخيل عنهم، فعن له توصلًا لبغيته أن يعقد مجلس الشيوخ، ويسبر ضمائر الجند بحثهم على معاودة الأوطان ومغادرة الحرب، فينهض سائر الأمراء ويثنون عزمهم عن الرحيل، وإذا اعتُرض بأنهم لو تمسكوا بإنفاذ مضمون أمره لأخفق بمسعاه، فالجواب أنه يتطلع ببصيرته إلى وراء ما كانوا يبصرون، ولم يكن جل اعتماده على الخطاب الذي ألقاه لرد عزيمتهم بل خشي أيضًا إنهم ربما كانوا ناقمين عليه أمرًا كتموه إياه، فلم يكن له مناص من تبيُّن ميلهم قبل دفعهم إلى ساحة الحرب، ففتح لهم الباب لإعلان ما تكنُّه ضمائرهم، وأسرَّ بخفايا أفكاره إلى الأمراء؛ تلافيًا لسوء العقبى، ففاز فوزًا مبينًا، ولم تكد الجنود تهم بركوب البحر حتى أوقفها نسطور وأوذيس».
ويجدر بنا أن نبين في هذا الموضع أن تلك كانت طريقة العرب في تولية الزعامة الكبرى لواحد منهم إذا تعددت القبائل المتحالفة على الحرب، وسنذكر طرق تحالفهم في موضعها من النشيد الثالث، وحسبنا هنا أن نقول أنهم كانوا حيثما اجتمعت عدة قبائل منهم على حرب نهجوا هذا النهج، فرأسوا عليهم أميرًا واحدًا يأمر وينهى فيهم جميعًا، فإذا انتهت حربهم لم تبق له مزية على سائر الأمراء، وكان من عادتهم أن يقترعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرجت عليه القرعة ولوهُ الإمارة كبيرًا كان أو صغيرًا، ولكن حيثما اتفق أن يكون بينهم أمير أحرز المقام الأول بمكانته وسنه ونسبه، وأقرَّ الجميع له بالسبق كانوا يولونه بالإجماع بلا اقتراع ولا نزاع، كما ولَّوا حرب بن أمية على قبائل قريش في حرب الفجار.
ثم إنه ليأخذنا العجب من إغفال العرب نقل الإلياذة إلى العربية مع إنها نقلت إلى لغات لم تكن شيئًا مذكورًا بجانبها، قال ابن العبري في «مختصر تاريخ الدول» طبع بيروت صفحة ٤١: «وخربت مدينة إليون الخراب الذي هو من أعظم الرزايا عند قدماء اليونانيين، وقد رثاها أوميروس الشاعر في كتابين نقلهما من اليوناني إلى السرياني ثاوفيل المنجم الرهاوي» (توفي سنة ٧٨٥م وكان منجمًا للخليفة المهدي). وقال صفحة ٢١٩–٢٢٠: «وكان ثاوفيل هذا على مذهب الموارنة الذين في جبل لبنان من مذاهب النصارى، وله كتاب تاريخ حسن، ونقل كتابي أوميروس الشاعر على فتح مدينة إيليون في قديم الدهر من اليونانية إلى السريانية بغاية ما يكون الفصاحة». ولقد أكثر العلماء من البحث والتنقيب، فلم يعثروا على أثر لترجمة الرهاوي، قيل: «إن العلامة السمعاني الماروني عثر على نسخة منها، فحملها في ما حمل إلى رومية من نفائس المخطوطات في أواسط القرن الثامن عشر، وأصابته عاصفة في البحر فطغت المياه على السفينة، فعطلت كثيرًا من تلك النفائس ومن جملتها منظومات الرهاوي» ولم يتصل بنا منها غير هذين الشطرين اللذين يؤلفان البيت الذي نحن بصدد، وهما منقولان عن السمعاني.
وقد ذكر يعقوب برساخو المعروف باسم الأسقف ساوير «المتوفى سنة ١٢٤١م» وغيره من العلماء عبارات متقطعة ردها البعض إلى إلياذة الرهاوي، وهذا جل ما يعلم عنها.
التفاؤل والتشاؤم من غرائز البشر، وقد عجزت الحضارة والعلم من سمو مبلغهما عن استئصال شأفته، ولقد يحسب ذوو الأماني والحاجات حتى في عصرنا أنهم إذا ابتلوا بأمر أو راموا غرضًا تحوَّلت إليه أنظار القوى العلوية والسفلية، وعني به الحي والجماد فبات كل ما يحيط بهم رموزًا وأدلة تشير إلى ذلك الغرض، فلا لوم بعد هذا على جاهلية القوم إذا تفاءلوا أو تشاءموا بما يتراءى لهم من نجم وبرق، وطائر وحيوان، ذكر هوميروس في مواضع من إلياذته تفاؤلهم وتشاؤمهم بالرعد والبرق والطير، ولكن كل ما ذكره من هذا القبيل ليس إلا نذرًا قليلًا بجانب ما اتصل بنا من أسباب التفاؤل والتشاؤم عند قدماء العرب مما بادت آثاره وما لم تبد، من ذلك أنهم إذا كانوا حول مريض وسمعوا داعيًا يقول: «يا سالم» استبشروا بسلامة مريضهم، وإذا كان أحدهم طالبًا لحاجة وسمع قائلًا يقول: يا غانم أو يا ظافر أيقن بالفوز والظفر، وتلاعبوا بالألفاظ تيمنًا وإشفاقًا فسمُّوا الملسوع سليمًا، والتهلكة مفازة، والموت أبا يحيى وهلم جرًّا، واتخذوا من الأصوات والحركات دلائل ونبوءات، فقالوا: إن اختلاج العين يبشر بلقاء الحبيب ومنه قولهم:
وقد أباد الإسلام كثيرًا من هذه الاعتقادات وأضعف كثيرًا، ولكنه لم يحرّم التفاؤل على إطلاقه ومن المرويات المأثورة: «تفاءلوا بالخير تجدوه» وهي حكمة لا تخفى على اللبيب، ومن هذا القبيل ما روي في الحديث: «توقع خيرًا تلق خيرًا، وتوقع شرًّا تلق شرًّا» أما الطيرة فهي محرمة، وفيها ورد الحديث: «لا طيرة في الإسلام» وسنأتي في النشيد الثاني عشر على بيان أمرها.
ثم ما عتم بعد هذا أن شبه كثرتهم بورق الربيع؛ زيادةً لهيبتهم هذه، وهنا أيضًا توطئة لتعداد فرقهم كما سترى.
وزاد بوصف أقدامهم فقال: إنهم كالذباب المتهافت على الألبان بحظائر الرعاة في الربيع، وقد عيب على هذا القول؛ لأنه وإن كان صادقًا في حد نفسه فهو دون سائر التشابيه سموًا خصوصًا؛ لأن المقام مقام مدحٍ وإعجابٍ، وهذا الانتقاد على هوميروس قديم العهد ذكره أفستاثيوس وغيره، على أن الشاعر كما تقدم كان يمثل الطبيعة على علاقتها وفي ذلك سر طلاوة شعره، أفلا ترى أن عنترة ترنم بذكر الذباب ترنم هوميروس، فأورد معنى الشعر اليوناني وزاد عليه بقوله:
وبعد أن تكامل الجند شرع الشاعر في تنظيمهم كل فئة بإمرة زعيمها، وأي تشبيه أصدق من الرعاة التي تتبين خرافها من بين القطعان والقطيع الذي يحن إلى التحيز إلى راعيه، ولم يفته بعد كل ما ذكر أن يختم المقال بوصف القائد العام أغاممنون، فوصفه وصفًا بالغًا في الأبهة والكمال، وشبهه بأعاظم الآلهة، وانتقى له من كل إله أعظم صفة فيه وجسَّمها جريًا على سنن الميثولوجيا، فجعل له هامة زفس وعينيه، وزفس زعيم الآلهة ففي ذلك إشارة إلى الرئاسة، وفي الهامة والعينين رمز إلى الحكمة وبُعد النظر، وفوسيذ إله البحار والصدر إشارة إلى السعة، وفيه رمز إلى اتساع سلطته، وأريس إله الحرب اتخذ له منه قوة الجسد، وتشبيه البشر بالآلهة كثير في شعر اليونان، ومثله التشبيه ببعض صفات الأنبياء والأولياء بشعر العرب كقولهم في القصيدة المنسوبة إلى يزيد، وما أخالها إلا للوأواء الدمشقي صاحب الدالية التي مطلعها: نالت على يدها
ولقد يجد المطَّلع على أيام العرب بعض الشبه بين هذا الترتيب في قبائل الإغريق والطرواد، وترتيب أخلاف العرب وعشائرهم بحسب نص كتبتهم ومؤرخيهم، وإن كان هوميروس يتعدَّاهم بمراحل بما أضاف إلى نبأ التاريخ والجغرافية من زخرف الشعر الذي يقتضيه موقفه، قال ابن الأثير في يوم الفجار الثاني: «ثم إن قيسًا جمعت جموعها ومعها ثقيف وغيرها، وجمعت قريش جموعها منهم كنانة جميعها، والأحابيش وأسد بن خزيمة، وفرقت قريش السلاح في الناس فأعطى عبد الله بن جدعان مئة رجل سلاحًا تامًا، وفعل الباقون مثله، وخرجت قريش للموعد على كل بطن منها رئيس، فكان على بني هاشم الزبير بن عبد المطلب، ومعه رسول الله ﷺ «وعمره عشرون سنة» وأخوة الزبير أبو طالب وحمزة والعباس، وعلى بني أمية وأحلافها حرب بن أمية، وعلى بني عبد الدار عكرمة بن هاشم، وعلى بني أسد بن عبد العزَّى خويلد بن أسد … وعلى الأحابيش الحُلَيس بن يزيد وسفيان بن عويف هما قائداهم، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة من كنانة، وعضل والقارة والديش من بني الهون بن خزيمة، والمصطلق بن خزاعة سموا بذلك لحلفهم بني الحارث والتحبش التجمع، وعلى بني بكر بلعاء بن ڨـيس … وكان على جماعة الناس «كلهم» حرب بن أمية لمكانه من عبد مناف سنًّا ومنزلة». ثم أتى على تعداد قبائل قيس ورؤسائها كما فعل بذكر قريش.
على أن بدو العرب الآن يطلقون في الغالب كل شعر الرأس، ويضفرونه غدائر يسمونها قصائب يرسلونها وراء ظهورهم، فإذا أقدموا على الكفاح حلُّوها وأطاروها فوق رءوسهم، فتنتشر على هاماتهم كالرايات يعتزُّون بها ويتنافسون، وكأن في طيرانها فوق رءوسهم محمَّسًا يستفزهم للبطش وتكرار الكرة، وفي هذا المعنى يقول أحد شعرائهم:
وسترى في ما يلي من شعر هوميروس ما كان للفرس من علو المنزلة عند اليونان، حتى لقد نراه في مقام الصديق الحميم يجذل لطرب صاحبه، ويتفجع لأساه، ويستبسل في سبيل إنقاذه، وزد على هذا أنه قد أنطقه بلسان البشر، وساواه بعليَّة الناس بأن جعل منه فئة من نسل الأرباب أنزل عليها شيئًا من أنباء الغيب.
وما أحسن قول عنترة في معنى هذه الأبيات الثلاثة: