النشيد الثاني والعشرون
مُجْمَلُهُ
لم يبق من الطرواد خارج الأسوار إلا هكطور، فانقض أخيل عليه فشهد فريام ذلك واستحلف ابنه أن يتقي الخطر ويدخل السور فلم يصغ هكطور إلى كلام أبيه، فأخذت أمه هيقاب تتوسل إليه وتنذره بالخطر المحدق به فلبث مكانه لا يتزعزع تتقاذفه الأفكار، وإذا بأخيل كاد يدركه فانهزم مرتاعًا، فجرى أخيل في أثره حتى دار ثلاثًا حول إليون، فرقَّ زفس لهكطور ومال إلى إنقاذه فعارضته أثينا وأبت إلا إنفاذ القدر المحتوم، فأذعن زفس لها فاندفعت أثنيا من السماء وحاول أفلون أن ينقذ هكطور، فأخذ زفس فسطاسه فوزن قدر الفريقين، فإذا بأجل هكطور قد حل فتخلى عنه أفلون، وتمثلت أثينا بصورة ذيفوب أخي هكطور فحسنت له التربص لملاقاة أخيل، ولما التقى البطلان رام هكطور أن يتواثق وأخيل، على أن القاتل منهما لا يدنس جثة القتيل، فأبى أخيل مواثقته على شيء فتبارزا فأطلق هكطور رمحه فلم ينل من خصمه إربًا، فالتفت إلى أخيه وإذا به قد توارى فعرف الخدعة واستبسل وقاتل حتى خر صريعًا، وقبل أن تفيض روحه سأل آخيل أن يعيد جثته إلى أهله، فشتمه آخيل فتنبأ له هكطور ساعة الموت بالحمام القريب، فاجتمع الإغريق حول الجثة ومثلوا بها، ثم ربطها آخيل إلى مركبته ودار بها حول البلد والطرواد ينظرون ويتوجعون والنساء يندبن وينتحبن، وكانت أنذروماخ امرأة هكطور غافلة لا تعلم بما جرى فسمعت عويل حماتها فصعدت إلى البرج تستطلع الخبر فرأت الجثة، فأغمي عليها ورثت زوجها رثاء تتفطر له الأكباد:
لم تنته حتى الآن حوادث اليوم الثلاثين.
النشيد الثاني والعشرون١
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
هوامش
والثانية: أنه جمع بين السهولة والبلاغة والشدة والرقة، وأحاط بكل ما يتسنى للمخيلة أن تدركه في جميع الأبواب التي طرقها الشاعر، فبينا تراه يصعد إلى قمم الهام المنتصبة على الهمم الشماء، إذا به ينحدر إلى أعمال القلب فيثير العواطف ويهيج البكاء؛ ولهذا قال كثيرون: إنه أجمل الإنشاد.
ولست أرى نشيدًا يصلح مثله أن يكون منظومة مستقلة لا تفتقر في تلاوتها إلى ما قبلها وما بعدها، فأناشد المطالع اللبيب إذا وقع نظره على هذه الحاشية أن يتصفح هذا النشيد دفعة واحدة من أوله إلى آخره، فإذا صدق ظني به وظني أنه بصدق فليقل لله در هوميروس على هذا الاستنباط البديع الغريب، وإلا فليقل سامح الله الناقل فقد قصر في التعريب.
قالت مريم بنت جرير ترثي أخاها:
وفي كتب العرب من مثل هذه المبارزات أشباه لا تحصى ببعض خلاف. ذكر صاحب الأغاني (٨٠:١٠) برازًا لجميل وتوبة من أجل بثينة نورده لغرابته، قال: «كان توبة قد خرج إلى الشام فمر ببني عذرة، فرأته بثينة فجعلت تنظر إليه فشق ذلك على جميل، وذلك قبل أن يظهر حبه لها فقال له جميل: من أنت؟ فقال له: أنا توبة بن الحمير. قال: هل لك في الصراع؟ قال: ذلك إليك، فشدت عليه بثينة ملحفة مورسة فاتزر بها ثم صارعه فصرعه جميل، ثم قال: هل لك في النضال (رمي السهام)؟ قال: نعم، فناضله فنضله جميل، ثم قال: هل لك في السباق؟ فقال: نعم، فسابقه فسبقه جميل. وقال له توبة يا هذا إنما تفعل هذا بريح هذه الجالسة ولكن اهبط بنا الوادي فلما هبطا صرعه توبة ونضلهُ وسبقه»
وفي وقعة بدر الكبرى جرت مبارزات كثيرة بما يدل على شيوع تلك العادة في الجاهلية، ثم بقيت في الإسلام، وكان لها فيه شأن عظيم.
أبرز لنا بادئ بدء فريام الشيخ يستطلع طلع الأخبار شأن الملك الساهر على رعيته، فكان أول شاهد لمقتل ابنه فأخذه الجزع واليأس، وما بعد ذلك إلا أن يتمرغ على الأرض ويلتطم وينوح، ويهم بالإلقاء بنفسه إلى خارج الأسوار بغير هدى فرارًا إلى قاتل ابنه، يستوهبه إياه ميتًا ليحتفل بمأتمه قيامًا بواجب الملك القاضي بإجلال ذكر الأبطال، وواجب الأبوة القاضي بإعلاء ذكر البنين، ثم بدت لنا إيقاب تندب ابنها ندب الأمهات اللائي علمن بعجز رجالهن ورمين بكل أبصارهن إلى أبنائهن البارين بهن المشفقين عليهن، وإذ انتهى من ذلك مثل لنا أنذروماخ فكان بمرآها ومبكاها صورة ناطقة للمرأة الأيتم وبين يديها طفلٌ يتيم، لا يعي شيئًا من ذلك المصاب الأليم، وإنما ستكون حياته كلها ألمًا ومصابًا، فكان حزنها فوق حزن الأمهات والآباء، وبلاؤها فوق كل بلاء، ولم يوقفها مع من وقف على السور؛ إذ أراد أن يبين أنها أشغل بزوجها منه بسواه حيًّا وميتًا، فهي تنسج له (أو لابنه) ثوبًا من البرفير، وبين يديها الجواري يعدون له الماء ليغتسل من غبار المعارك، وله بذلك مأرب آخر وهو أن يوطئ تلك التوطئة ليبلغها الخبر فجأة، فيكون له في نفسها ذلك الوقع ليرسم الحزن بأشقى حالاته، وما هي أن بصرت بزوجها صريعًا حتى شهقت «وأهوت فوق وجه الأرض لا حسًّا ولا بصرا»، وما انفتح جفناها حتى أخذت تنوح تلك المناحة التي تتفتت لها الأكباد، ويتفطر الجماد بعبارة ترى على سذاجتها صاعدة من لب الفؤاد.