حبت فالاس ذاك اليوم عزمًا
وبأسًا لابن تيذيُسٍ مَنِيعا
١
ليعظُمَ في بني الإغريق شأنًا
ويبلغ فيهم الشرف الرَّفيعا
وفوق صِفَاح مغْفرِهِ أفاضت
وفوق مجنِّه قَبَسًا بديعا
فَشَبَّ بِرَأْسِه وبِمَنْكبَيْه
شعاعٌ فاض مندفقًا سطيعا
ككوكبة الخَرِيف قد استحمَّت
بلُجِّ البَحْرِ وامتطت الرَّقيعا
٢
وألقته إلى حيث الأعادي
تُكثِّف من كتائبها الجموعا
«وكان بزمرة الطرواد شيخٌ
وفير المال لم يُدْنَس صنيعا
بذارس عرَّفوه وكان إلفًا
لهيفستٍ وكاهنه المُطيعا
كذا ولداه إيذيس وفيغس
ضروب الحرب قد بلوا جميعا»
فكرَّا فوق مركبةٍ عليه
وأقدم راجلًا يطس الرُّبوعا
٣
وبادر فيغسٌ لمَّا تَدَانَوا
إلى مزراقه طعنًا مَرُوعا
فعن كتفيه مُنعطفًا يَمينًا
مضى ونبا ولم يسل النَّجيعا
فزجَّ ذيومذٌ بشحيذ نصلٍ
فشقَّ الصدر واخترق الضُّلُوعا
فَخَرَّ إلى الحضيض وَخَارَ عَزْمًا
أخوه ففرَّ مُنْهَزِمًا هَلُوعا
فغادر متن مركبه ولولا
إلهُ النَّار أدْرَكَهُ صَرِيعا
فَهِيفستٌ هُنا واراه حَتَّى
يُخَفِّف عَن حشا الشيخ الصُّدُوعا
وصاح ذيومذٌ بذويه هَيُّوا
إلى السفن الجياد خذوا سَرِيعًا
٤
فَجَلَّ الخطبُ بالطرواد لمَّا
عَنَا بطليهما جُهدًا أُضِيعا
فذا مُلْقًى تخضَّب من دماهُ
وذا لاوٍ بخيبته رُجوعا
بَكَفِّ إله الحرب فالاس أمسكت
وقالت: «إلى مَ الفتك يا سافك الدِّما
ويا هادم الأسوار يا باعث الفنا
ألا ما تركنا الحرب للنَّاس مَعْلمَا
بشأنهم دَعْهُم ونحن بمعزلٍ
ومن شاء زفس فليعزَّ مُحكما
بذا نَتَوَقَّى غَيْظَهُ» وَمَضَت به
لضفَّة إسكامندر حيث أحجما
فَوَلَّت لدى الإغريق طروادة العدى
وكل زعيمٍ منهم اجتاح أيهما
فكان أغاممنون أوَّل فاتكٍ
بأوذيسٍ من للهليزونة انتمى
فألقى إليه طعنةً وهو مدبرٌ
بمركبةٍ يبغي الهزيمة مَغْنَما
فَقُوِّض مبتتًّا إلى الصَّدر ظَهْرُهُ
فَجُندِل مَصْرُوعًا على الأرض وارْتَمَى
فَصَلَّت عليه شكَّةٌ وإذُومنٌ
على ابن الميوني بورسٍ كرَّ مُقْدِما
فمن أرْض طَرْنا كان فَسْطُس قد أَتى
فَرَاحَ ونُورُ الطَّرف بالحتف أظْلَما
لقد كاد يعلو مَتْن مركبِهِ على
رجاء نجاةٍ والحمام تَقَدَّما
على كتفٍ يُمْنَى تولَّته طَعْنَةٌ
فألْقَتْه في تُرب الحضيض مُيَمَّمًا
فَبَادَرَ أصحابُ المَلِيكِ إذومنٍ
لنزع سلاحٍ عنه كسبًا مُسَهمَّا
ورام منيلا إسكمندر ستْرُفٍ
فبادره طعنًا برُمحٍ تَقَدَّما
«لقد كان بالأنضاد هَوْلًا مروعًا
لوحش الفلا والرَّمي بالنَّبل أَحْكمَا
وقد علَّمته أرطميس فنونها
فلم يغن بأسٌ فيه بالشُّمِّ قَدْ سما
٥
فمن منكبيه أولج الرُّمح نافذًا
إلى الصَّدر لمَّا للفرار تَجَشَّما
أكب على وجه الحضيض بوجهه
ومن فوقه صوت الحديد تَهَزَّما
وأقبل مِرْيونٌ وراء فركلسٍ
وبادره طعنًا بردفٍ تهشَّما
فأنفذ تحت العظم نصلٌ مُمزَّقصا
مثانَتَه فانقض يجثو مُهَمْهِما
هو ابنُ السَّرِي هَرْمُوْنذَ الصَّانع الذي
أَجَلَّتْه فالاسٌ وزادته أنْعُما
وقد عَلَّمَتْه شائق الذوق وابنه
حكاه وأعمال اليدين تَعَلَّما
فأتقن صُنعًا فُلك فاريس جُمْلةً
فكانت عليهم وبل شرٍ مُعَممَّا
وفارقه نور الحياة ولم يكن
ليفقه أنباء السماء مُقَدَّما
وفيذيس وافاه ميجيسُ طاعنًا
فَذَالا بِمَسْقي السنان تفصَّما
٦
فَمَرَّ سنانُ الرُّمح بالفَكِّ خارقًا
ثناياه واقتبَّ اللِّسان مُصَرَّما
فَخَرَّ يعضُّ النصل في التُّرب خابطًا
ومُهْجَة أنطيْنُور بالحزن أَضْرَما
«هو ابنٌ له من غير زوجٍ حليلةٍ
وعند ثيانو زوجه الحلِّ قد نما
فحُبًّا بأنْطِينُور مثواه أكْرَمَت
فَشَبَّ ربيبًا كالبنين مكُرَّمًا»
تلاه ابن ذولفُيون كاهن زنثسٍ
ومن كان كالأرباب فيهم مُعَظَّما
تأثَّرَه أوريفلٌ وهو قافلٌ
فلم يجده أن يُسْتذَلَّ وَيُهْزَما
فأدركه يبتتُّ بالسَّيْفِ كَتْفهُ
فَمَاتَ ولم يُدْرِك مَرامًا تَوَهَّمَا
لو تَرَبَّصْتَ والعَجَاج اسْتَطارا
ونجيع الدِّماء سال وفارا
٧
وتَبَصَّرت بابن تيذيسٍ لم
تدر أيُّ الجيشين منهُ أغارا
مُسْتَشِيطًا ينقض فوق الأعادي
ينهب السهل بين عادٍ وغاد
كخليج يضيقُ بالسَّيل مَجْرَا
ه فيستأصل الجُسُور الكبارا
ويقضُّ السدود والزُّبد يدفع
ومباني الحُرَّاث منه تُزعزع
فصفُوُف العَدَى وإن زِدْنَ عَدَّا
ضِقْنَ ذَرْعًا عَنْ صَدِّهِ اليَوْم صَدَّا
شُتِّتُوا حيث ثار يُعْملُ سُمْرًا
فارياتٍ وصارمًا بتَّارا
ساء صنديد ليقيا أن رآه
يخرُقُ الجَيْشَ صَائِلًا بِقُواهُ
٩
فَعَلَيْه مُسَدِّدا مد قوسًا
وإِلَيه أمَرَّ سَهْمٍ أطَارا
لخلايا الدُّرُوع سار وأُوْلِجْ
وَبِيُمْنَى الكتفين غار يُهَمْلِج
فَجَرَت تَخْضِب الدروع دماءُ
ودعا فندروس ينمي الفخارا:
«يا خيار الفرسان قوم الولاء
بادروا قد أدميت خير أخائي
إن يكن صادقًا دعاء ابن زفسٍ
لي فبالسَّهم سوف يَلْقى البَوَارا»
١٠
إنما الجرح لم يكن قتَّالا
والجريح انثنى يروم العجالا
جاء أسْتِينْلًا وقال: «أخي با
دِرْ وأخرج سهمًا بكتفي غارا»
فإلى الأرض واثبًا مال يجتر
ذلك السَّهْم والنَّجِيع تَفَجَّر
١١
قام يدعو ذيُومذٌ ودماهُ
صبغت حلَّةُ الزُّرُود احمرارًا:
«إن تكوني يا بنت ربِّ التُّروس
زدتني البأس يوم قَرْعِ البُئُوس
١٢
وأبي قَبْلُ عنه لم تَتَخَلَّى
لا ترومي عن مبتغاي استتارا
قربي من مرمى حرابي غرورًا
صال وليلق من ذراعي الثُّبورا
قد رماني وظنَّ يَفْخر أَنِّي
من سنا الشمس لن أرى الْأنْوَارا»
فأصاخت وَجَدَّدت فيه حَزْمًا
ونشاطًا وشَدَّدَت مِنهُ عَزْمًا
وإليه مَالَت تَقُولُ: «ألا كـ
ـرَّ على موقف العِدى تَكْرارا
فيك أنزلت كُلَّ بأس أبيكا
وأزلتُ الغَمامَ حَتَّى أُرِيكا
فالحِجابُ انجلى فَتَعْرِفُ من تلـ
ـقى أإنسًا أم خالدًا قَهَّارا
١٣
فلئن خِلْتَ خَالدًا جَاءَ يَبْلُو
فاجْتَنِبْهُ ما أنت لِلصَّدِّ أهْلُ
غير قبريس إن تلح لك فاطعنـ
ـها ولا ترهب انتقامًا وثارا»
١٤
وتوارت عنه فهَبَّ مُغِيرًا
مذ أثارت للبطش فِيهِ سَعِيرا
ثَلَّثَت عَزْمه فَكَرَّ يُحَاكي
بأعاديه ضَيْغمًا هَصَّارا
كَهِزبر بين المراعي يفاجي
واثبًا فوق راتِعات النِّعاج
يبتليه الرَّاعي بسهمٍ فَتَزدا
د قواه وينثني لا يُجَارى
يَتَخلَّى الرَّاعي سحيق الفُؤَاد
ولمأواه يلتجي بارْتِعَاد
فَتُراع الشياه مرتمياتٍ
جازعاتٍ ينفرن منه نَفَارا
عائثًا عابثًا منى النفس يقضي
ثُمَّ عنهنَّ بالمفاوز يَمْضِي
هَكَذَا في العدى ذيُومِيذُ أَلْقى
رَوْعَه كالأُسُود لَيْسَ يُبَارى
١٥
فبهيفيرنٍ وأسْتِينُوُوْس
بادئًا حام حَوْلَ قَتْلِ النُّفُوس
فَرَمى عُنْقَ ذاك بالسَّيْفِ والبأ
ديل بالرَّأس عن عُرى الجِيد طَارا
١٦
وعلى ذا بالثَّدي مَدَّ قناه
فرماه ثم انثنى لسواهُ
وعلى ابني أفريذماسٍ أباسٍ
وفليذ كأس الحتوف أدارا
«لم يفده أن كان شيخًا خبيرًا
من رؤى الخلق يَفْقَه التَّعْبِيرا
لم ينل ما أغناه عن مصرع ابنيـ
ـه على حين للقتال أسارا»
بهما فاتكًا ذِيُوميذ أتْبَع
زنثسًا مع ثوُوْن وَانْسَاب يَهْرَعْ
بهما للهلاك ألقى وأَبْقَى
لِفنُبْسٍ أبيهما الإِدْبَارا
فَهُما عَزَّ عُمْرِهِ ومُنَاه
وارثًا كُلِّ ذُخْرِهِ وَغِناهُ
لم يُؤَمِّل سِوَاهُما من وَلِيٍّ
وبه العَجْزُ أنْشَبَ الْأظْفارا
بقي اليأس والتَّحرُّق فيه
حظَّه والأموال حَظَّ ذَوِيه
١٧
وَذِيُوميْذُ حَظُّه الفتك فانقـ
ـضَّ على ابني فريام يُهِمي التَّبَارا
نَحْوَ إيخيمون وأخْرُ ميُوس
شَبَّ كاللَّيث فوق قَطْعِ الرُّءُوس
ذاك لما في الغاب يسحق عُنْقَ الـ
ـثَّور سَحْقًا وينثني مُمْتَارا
١٨
هَبَّ يَرْمِيْهما بِمَرْكَبَةٍ قَدْ
رَكِباها وَعُدَّةَ الْحَرْب جرَّد
وإلى صَحْبِهِ أشار بأن سو
قوا إلى الفلك خَيلَها إلا حرارا
فرأى آنياس فَتْكًا ذَرِيْعا
منه بالقوم راح يجري سَرِيعَا
١٩
تحت وقع القَنا وَوَقْع السِّهام انـ
ـساب يبغي ابْن لِيْقَوُوْن اغْتِرَارا
فأَتَاهُ مِن بَعْدِ جهدٍ جَهِيدِ
مستجيشًا بالبأس بين الجُنُود
قال: «يا فندروس حَتَّى مَ قَوْسًا
وسهامًا قد ادَّخرت ادِّخارا
وإلى مَ احْتويت مجدًا قديمًا
هلْ هُنْا مَن حكاك شَأْنًا عظيمًا
وأَشَدُّ الرُّمَاة فِي لِيْقِيا هَلْ
بكَ قِيْسُوا مَهَارةً واشْتَهَارا
دُوْنَك القَرْمَ ذا الذي غاب عنِّي
نور عرفانه أحقَّقت ظنِّي
وَلِزَفسٍ بسطت كفًّا وأنْفَذْ
ت له سهمك المريش اهْتِوارا
٢٠
كم رقابٍ رمى وكم من ركاب
قد لوى من بواسل الأتراب
فعسى لا يكون ربًّا مغيظًا
لم نقدِّم له الضحايا الكثارا
إنَّ غَيظَ الأَرْبابِ أدْهى الشُّرُور»
قال: «يا آنياس خَيْرَ مُشِيرِ
٢١
إن يكن صادقًا مَقَالي وظَنِّي
فأرى ذا ذِيُومِذَ الجَبَّارا
ذاك حتمًا مِجَنُّهُ والقَتِيرُ
هذه خَيْلُهُ السِّراع تُغِيرُ
هذه الخُوْذَةُ المُثَلَّثَةُ الأطـ
ـراف لكن لا أجْزِمنَّ ائْتِرَارا
٢٢
فهو إمَّا ربُّ ذِيُوْمِيْذَ مَثَّلْ
أو إلى جانبيه في الغيم أقْبَلْ
فَيَلِيهِ ويدفع الصمَّ عنه
ويقيه ويرفع الأخطارا
كاد سهمي يُذيقه الحَتْفَ لما
غار في الكتف والدَّم الجَمَّ أهمى
خلْتُهُ للْجَحِيم يَمْضِي وَلكِن
كَرُّهُ الآن كَذَّبَ الأَفكارا
آه أين العجالُ أين جِيادي
راجلًا جئت طامِعًا باشتدادي
وعلى الرُّحب مَرْكَباني إحدى
عشرة فوقها سدلتُ السِّتارا
ولكلٍ مُطَهَّمان وأكثر
تقضم الدَّوم والشَّعير المُقَشَّر
لم أعِ النُّصح من أبي الهمِّ لمَّا
قد تجشَّمْت لِلْوَغَى الأسفارا
قال فاذهب وكُنْ بِصَدْر الكُمَاة
وعلى القوم كُرَّ بالمركبات
فهو بالحقِّ قد أشار ولكن
قد رأيت العُدُول عَمَّا أشارا
قلت تَضوَى الجِيادُ في تي الديار
لامتناع الكلاء تحت الحصار
راجلًا جئت أرئس القوم مغتـ
ـرًّا بقوسٍ منها لقيت الشنَّارا
قد رميت العميد أتْرِيذ عَنْها
وذِيُوميذ نَالَه الجُرْح منها
فجرت منهما الدماء ولكن
فيهما البأس زاد والجأش ثارا
ساد لا شك طالعُ السُّوءِ لمَّا
قد تناولتُ هذه القوس وَهما
ولإليون قُمْتُ حبًّا بهكطو
ر بقومي إلى الوَغى أمَّارا
فلئن جئت زوجتي وأليفي
وصروحي بعاليات السُّقُوف
لا تخلَّى عن قطع رأسي عدوٌّ
إن بخبري لم أنفذ الأخبارا
هذه القوس شرَّ سَحْقٍ سأسحق
ولجوف النِّيران ترمي فَتُحْرَق
راح كالرِّيح نَفعُها في لا تُجـ
ـدي ائتمارًا كما علمت اختِبارا»
٢٣
قال: «يا فندروس مهلًا وهيَّا
بعجالي لكَبْحِه نتهيَّأ
فَهي أولى للصَّدِّ أقْبِل وبادر
نَتَرَبَّص لِمُلْتَقَاه ابْتِدَارا
فجيادي لسوف تَخبْرُ خُبْرا
جَرْيها في السُّهول كرًّا وفرَّا
وإذا زفس شاء نصر ذيوميـ
ـذ بها عن مناله نَتَوارى
فخذ السوط ثم أجر الخيولا
وأنا للكفاح أبغي سبيلا
وإذا تبتغي النزال فلي الخيـ
ـل فما شئت فاتَّخذه اختيارا»
٢٤
قال: «يا آنياس عندي أحرى
أن تسوق الجياد مذ كنت أدرى
خشيتي لا تَنْقَاد لي ولصَوْتِي
إن دُفعنا إلى الفِرَار اضطرارا
جامحاتٍ تُغِير بين الجنود
فَيُوافي ذيومذٌ بالحَديدِ
وكلينا يَجْتَاحُ والخيلَ يَقْتا
د فسقُها فأنت أكْفى اختبارا
٢٥
وليَ الطعن بالقنا والحراب»
ثمَّ ساقا بشدَّةٍ واصْطِخَابِ
لذيوميذ قال إستينلوسٌ
عند ما أقبلا يشُبَّان نارا:
«يا حليف الفؤاد نِدَّيْن أَلْقى
نهضا الآن يطلُبانك حقَّا
آنياس بن عفْرُذِيْتَ وأَنْخِيـ
ـس كذا فَنْدَرُوسًا المِغْوَارا
فاتَّقِ الآنَ فاجِعات المَنَايا
لا تكن في مُقدَّمات السَّرايا
وَخُطَى الجُرْدِ فَلْنُؤَخر» فَوَافَا
ه ذيوميذ بالمَقَال ازْوِرارا:
«لا تُحدِّثني بالفرار فإني
لا إخال المرام تبلغ مِنِّي
ليس شأني وشأن أهلي قبلي
أن نُوَلِّي يوم الوغى الإدبارا
لي عزمٌ لا ينثني للخطوب
جل عن سوق مركبات الرُّكوب
هاكها راجلًا أصول مكرَّا
وأثينا قد حرَّمت لي الفرارا
لن تُنَجِّيهما الجياد جَمِيعا
إن نَجا ذا فذَاكَ أُلْقِي صَرِيعا
إنَّما لي بالأمْر غير مَرامٍ
فادَّكِرْه إذا بطشت ادِّكارا
لَهُمَا إِنْ أَذَقْتُ كأْسَ الحِمَامِ
وأثينا بذاك أَعْلَت مَقَامي
ألقِ حَالًا صُرُوع خَيْلِي في مر
كبتي واجرينَّ منها ائتثارا
٢٦
وامض وافتد مُطَهَّمِي آنياس
خير ما في الدنيا من الأَفْراس
نُتِجا من جياد زَفْسَ التِّي للمـ
ـلك أطروس أُهْدِيَت تَذْكارا
عن غنيميذٍ ابنه المَرْفُوعِ
عوضًا نال أصل خير الفروع
٢٧
رام أنْخِيْسُ نَسْلَها فَبَغَاها
خِفْيَةً حيث أَلْقَحَ الأَحْجَارا
ستَّةً أَنْتجت فَزَوْجَيْن أبْقى
وإلى آنياس ذا الزَّوج أَلْقى
هاكَهُ يَنْهَب السُّهُول انْتهابًا
آه لو منه أبلغ الأوطارا»
هذا حديثهما انتهى وعليهما
بطلا الطرواد بالعجاجة أقبلا
حتَّى إذا وقفا على مرمى القنا
دُفع ابن ليقاوون يُنْشِدُ أوَّلا:
إن طاش سَهْمِي يا ذيوميذ ففي
ظبة السِّنان لك الحمام مُعَجَّلا»
ورمى القتاة فأولجت بمجنِّه
وتخلَّلته إلى الدُّرُوع تخلُّلا
فَغَرَ ابن ليقاوون فاه كأنَّه
رَعْدٌ دَوَى مستبشرًا مُتَهَلِّلا:
«ولجت حشاك فأنت حَتْمًا هالك
وأنا أنا نِلْتُ المَفَاخِر وَالعُلا»
قال ابن تيذيُس: «هنا ربُّ الوغى
يسقى الدِّما من جوف مفريِّ الكلى
إن فاز بعضُكُما وَفَرَّ مُوَلِّيا
من صولتي لا فوز لِلثَّاني ولا»
وعليه صوَّب طعنة قذفت بها
تفري وتيرته فلاس من العلى
٢٨
خرقت ثناياه وجذع لسانه
للحي حيث بَدَت فَخَرَّ مُجَنْدَلا
٢٩
فتصلصلت نثراته بسلاحه
والخيلُ شَبَّتْ تَقْشَعِرُّ تَجَفُّلا
فانْقَضَّ يَحْمِي آنياس رَفِيقَهُ
خوفًا عليه من العدى أن يحملا
متدججًا كاللَّيث حام عَلَيْهِ لا
يَخْشَى ولا تلويه جَمْهَرَةُ الملا
وعليه مَدَّ قناته ومجنَّه
بهديده متشوِّفًا مُتَبَسِّلا
عمد ابن تِيْذيُس لهائل صَخْرَةٍ
في عصرنا بطلان لَنْ يَتَحَمَّلا
٣٠
حَنِقًا رماه بها بغير تَكَلف
بالفخذ يَسْحَقُ حُقَّهُ مُتَعَجِّلا
برز الأديم ومُزِّقت عضلاته
فجثا على وجه الحضيض مُثَقَّلا
مُسْتَقْبلًا وجه الثرى بذِراعه
والحتف إثر سقوطه مُسْتَقبلا
فَارْبَدَّ ناظِرُهُ ولولا أُمه
قبريس مُبْصِرَةٌ لأدركه البلى
عَشِقَت أباه قَبْلُ وَهْوَ بأَرْضِهِ
يَرْعى العُجُولَ فَرَاودته تَمَحُّلا
والآن عطف الأُمَّهَات على ابْنِها
عَطَفَت تبادر حيث مصرعه انْجَلى
ألقت عليه بضَّ أذْرُعها وقد
خشيت عليه طعن مطلب قلا
سترته في بُرْدٍ زَهِيِّ خُوِّلت
رصدًا يصدُّ العاليات الذُّبَّلا
٣١
ومضت به من ساحة الهيجاء تحـ
ـمله عن الأعداء تطلُبُ مَعْزَلا
وَوَعى ابن قافانِيْس ذِيُومذٍ
فاستوقف الأفراس ثُمَّ تَرَجَّلا
٣٢
وَسَعى إلى خيل الصريع يَحُثُّها
حَتَّى بها بين الأغارق أُدْخلا
وَدَعا أحب رِفَاقَه ذِيْفيلسًا
لِدَةٌ له حاكاه مَعْنًى مُجْمَلا
لِلْفُلْكِ سَيَّره بها وهو انثنى
لحثيث مَرْكَبَةٍ لَهُ مُسْتَعْجِلا
أخذ الصُّروع السَّاطعات بِكفِّه
واستاق بالعنف الجياد مُجَفِّلا
ومضى يروم ذِيُوْمِذًا وذيومذ
في إثر قبريس يشقَّ الحَجفَلا
مُتَقَصيًّا يَجْرِي ويعلم أنَّها
ليست على بأسٍ يَرُوْعُ مهوِّلا
ليست كإينيَّا مهدمة الفنا
أو مثل آثينا وربَّات البلا
وإذا بها في لُبِّ أوْزَاع العِدَى
فَعَدا إليها طاعنًا مُسْترسلا
٣٣
نفذ السِّنان بِبُردها البهج الذي
نسجت لها البهجات حتَّى تَرَفلا
٣٤
وجرى لمعصمها اللَّطيف فَفُطِّرَت
بَشَرَاتُهُ بِدَمٍ عليه تَهَيَّلا
بدم نقيِّ بل عصيرٍ رائقٍ
بِعُرُوق أرْبَاب العِباد تَسَلْسَلا
فهم ولا خبز ولا خمر لهم
خَلَدُوا وَمِنْ دَمِنَا وجودُهُمُ خَلا
٣٥
صَاحَت وَأَفْلَتَ آنِياسُ فَقَلَّه
بيَدَيْهِ فِيْبُسُ بالسَّحابِ مُظلِّلا
وَمَضَى به طَمَعًا بِحِفْظِ حَياتِهِ
وذِيُوْمذٌ بجهير مَنْطِقِهِ تَلَا:
«يا بِنْتَ زفسَ كفى فكُفِّي وارْعَوِي
لن تَخْدَعِي إِلَّا النِّسَاء الخُمَّلا
فلئن رجعت إلى الحروب فَذِكْرُها
سترين يُوْلِيك الوَبَال الأَثْقَلا»
مضت وفي قَلبها من غَلْبها غُصَصٌ
ما بين مضطرب أمسى وملتهب
وناصع الجسم دامٍ كادَ يُلْبِسُهُ
ثَوبَ السَّوَادا اشتداد الغَيْظِ والكَرَبِ
فبادرتها تُجَارِي الرِّيح طائِرَةً
إيريس تَدْفَعُها عن مضْرَبِ القُضُب
إذا بآريس يسرى القوم تحجبه
والرمح والخيل أرْكَام من السُّحُب
أحنت على رُكْبَتَيْهِ تَبْتَغِي عَجَلًا
خَيْلًا لَهُ مُلْجَمات خالص الذَّهَب
قالت: «أخي أعرنيها لتذهب بي
لِمَرْتَع الخُلْدِ إنَّ الجُرْح بَرَّح بِي
أنالنيه ابن إنسيٍّ أخُو قِحَةِ
لا يَنْثَنِي جَزَعًا حَتَّى لِزَفسَ أبي»
فقال: «دونك أفراسي ومركبتي»
حلت بها بفؤاد خار مكتئب
وإيرس وصُروع الخيل في يدها
تستاقها وهي أجرى من سنا الشُّهب
حتى إذا لذُرَى شُمّ الأُلمب عَلَت
فاستوقفتها وحلَّتها من القَتَب
وبادَرَتها بقُوت الخُلد وانْطَلَقَتْ
لأُمِّها قبْرسٌ تَحنُو على الرُّكَب
٣٦
هَشَّت لها واسْتَضْمَّتها لمهجتها
ذِيُونَةٌ تَسْتَقِصُّ الأمر بالعَجَبِ
«وأيُّ رَبٍّ كما لو كنت جانيةً
جنى عَلَيْك كَمَا ألْقاك أيُّ غَبي»
قالت: «فَمَا كان رَبًّا جَلَّ بَلْ بَشرًا
ذاك ابن تيْذيسٍ مُسْتَمطِر النُّوبِ
لأنِّني آنياس رُمْتُ نَجْوَتَهُ
أعَزّما لي بأهل الأرْض من نَسَبِ
٣٧
فالدَّانَويُّون بالطُّرواد ما اجتزءوا
حتى إلينا انْثَنَوا بالبيض والشُّهُبِ»
قالت ذيونة: «صبرًا كم لنا مَثَلٌ
بالناس يَبْلُونَ أهْلَ الْخُلْدِ بالنَّصَبِ
فإسوَةٌ لكِ آريسٌ وَهَيْبتُهُ
عامًا وشهرًا ثَوَى في السِّجْن لم يُهَبِ
أَلْقاهُ فيه ابن ألوِيسٍ أُتُوس كذا
أخوه إفْيَلْطُس بالذِّل والحرب
وكبَّلاه بأغلال الحديد وما
أجْدَاه من غضب يشتدُّ أو صخب
وكاد يَهْلِكُ لو لم تُنْم مخْبَرَه
إيريب إذ صانَهُ هِرْمِيس بالحُجُبِ
٣٨
وهيرَةٌ فابن أمْفِترونَ أَلَّمها
بشرِّ سَهْمٍ بأعلى الثَّدي مُنتشب
ونفس آذيس ذاك القرم أورثه
مر العذاب بسهم عنه لم يخب
أطاره دون أبواب الجحيم له
عمدًا فنكص ملتاعًا على العقب
فأم صَرْحَ أبي الأرباب زَفْسَ أخا
بؤسٍ بِنَبْلٍ بِعَظم الكتف مُنْتَصِب
فذرَّ بَلْسَمَه فيُّون يبرئه
مذ كان من خالدي الأَدْهارِ والْحَقب
٣٩
فيا لويل بني الإنسان إن حملوا
على بني الخلد عن حمق وعن غضب
فالاس أغْرت ذِيُوميذا عَلَيْك ولم
يعلم لصُنْعِ يَدَيْهِ أيَّ مُنْقَلَب
٤٠
لم يَدْرِ أنَّ على الأرباب من كَسَبَت
يداه شرًّا إلى الْأوطان لم يَؤُبِ
فلا يَهُشُّ لَهُ من فَوْقِ رُكْبته
طفل يقول بلطف يا أبي أجب
فليخش بطش أخي بأس أشد قوًى
وصولة منك يستقريه بالطَّلَب
ولْيَفكِرَنَّ بأغْيَالا حليلته
ذات الجمال وذاتِ العَقْل والحَسَب
٤١
وسنى تؤرِّقها الرُّؤيا فَتُقْلقها
فَتَستفيق بقلب ريع مُضْطَربِ
من ثَمَّ تُوقِظ في لهف جَوَاريها
وينتحبن بدمع فاض مُنْسَكب»
٤٢
وطهرت بيديها الجرح فانفرجت
آلامها واستكنت ثِقْلة الوَصَب
لكن أثينا وهيرا مذ تَعَمَّدتا
إغضاب زَفس لما في النَّفس مِنْ أَرَبِ
قالت أثينا: «أبي هل لا يسوءك أن
أقول ما كان في ذا الجرح من سبب
لا شك قبريس رامت دفع غانية
وجد الصبِّ من الطُّرواد ذي نشبِ
فأنشبت بعرى الإبريز راحَتُها
فَمَزَّقتها فرامت نحلة الكَذِب»
٤٣
أصاخ يَبْسم واسْتَدعى الجريح على
رفق وقال لها: «يا مُنْيَتِي احتسبي
دعي لآرس وآثينا الحروب ولا
تُعني بغير لذيذ الحبِّ والطَّرب»
لهم في السَّما هذا الحديث وفي الثَّرَى
ذِيُوْميذُ لا يَنْفَك إيْنَاس يَطْلُب
تَحَدَّم يبغيه ويعلم أنما
يقيه أفلُّون ولم يك يرهب
ثلاثًا عليه كر يأمل قَتْلَه
وشكَّته الغَرَّاء بالعنف يَسْلُب
وَلكن ثلاثًا ترسُ فيبُوس صَدَّه
ورابعةً قد كاد يسطو ويَضربُ
فقال له والصوت يدوي رَعيدُهُ
ويعلو مُحَيَّاه العَبُوس تَقَطُّب:
«مهٍ فتربَّص يا ابن تيذيس فَعَن
بني الخلد للإنسان قد عزَّ مَطْلَب
فَشَتَّان بين الناس والتُّرب أسكنوا
وقوم بني الإسعاد والنُّور ألهبوا»
فَكفَّ ذِيُوميذ وما كاد ينثني
مَخَافة يَشْتَد الإله ويغضب
٤٤
وسار أفلون بأنياس مسرعًا
لمعبده في طود فرغام يذهب
فوافته أرْطَامِيْس في بلسم الشِّفا
وذيتا بإكسير المحاسن يسكب
وما شاء فيبوس يشيع انقلابه
فأرسل طيفًا مثله يَتَقَلَّب
٤٥
ومن حوله بين الفريقين مُزِّقَت
مُسَرَّدة حصداء وافتُلَّ مجوب
٤٦
وَمِن ثَمَّ فِيبُوس إلى آرس انثنى
يحُثُّ خطاه لِلْوَغى ويثرِّب:
«أيا ممطر الأهوال يا باعث الرَّدى
ويا هادم الأسوار حتَّى مَ ترقُبُ
ألا ما اندفعت الآن فوق امرئ عتا
يكاد على زفس يَصُول ويصخبُ
تأثَّرَ قِبْريسًا وأدمى يمينها
وأقبل نحوي بعد ذلك يَقْرَب»
فأغراه ثم اختار فرغام معزلًا
وآريس للطرواد راح يُؤنِّبُ
٤٧
فماثل آكاماس شكلا وهيبةً
وصاح: «ألا فاسطوا على القوم واضربوا
إلى مَ التراخي والعدى فتكها أبدًا
أفالجبن حتى دكَّة الحُصْنِ تَرْكب
فأنياس والفتَّاك هكْطُور قَدْ حَكى
طَرِيح بسيَّال الدِّماء مُخَضَّب
ألا ما أخَذْتُم من عداكم بثأره
وأنقذتموه فاستجيشوا وصَوَّبوا»
فَهَاجَت بِهِم كُل النُّفوس حَمِيَّة
وأقبل سَرْفِيدون بالعنف يَخْطُب:
«أيْنَ هكطور هِمَّة لَكَ قِدمًا
أين بأسٌ وَبَاعُ عَزْمٍ متين
قد زعمت الحُصُون تَحْمي ولا أنـ
ـصار لا جيش بل بآل الحُصُون
أين هُم أين لست ألقى كَميًّا
كالكلاب التووا لأسد العَرِين
إنَّما نَحْن نَجْدَةٌ وَعَلَينا
أنت ألْقَيْت كُلَّ ثقل المنون
أنت تدري في أي بونٍ بلادي
ليقيا أرض زَنْثُس المَيْمُون
فبها زوجتي تخلَّيْتُ عَنْها
وغُلامي وذُخْرُ مالٍ ثمينِ
وهنا ليس لي متاعٌ ولا ما
ل فأخشى أنَّ العدى يَسلبُوني
كُلُّ هذا ما كفَّ بالبَطْشِ كفِّي
وأَرَاكَ اعْتَزَلْتَ بادِي السُّكون
فلماذا لا تُنْهِضُ العزْم والأَعْرا
ض تَحْمِي مِنْ هَوْلِ هُون مُبين
أفلا خِلْت أن ثَمَّ شراكًا
كامنات لكم وأيَّ كمون
وبها تؤخذون أخذًا ذَرِيعًا
وتُدَكُّ الحُصُون فوق المُتُون
زُعَمَاء الْأَنْصَار دُونَك فادْفَع
عنهم بالثَّبات سوء الظُّنُون
ذاكَ ذاكَ اعتبر نَهارًا وليلا
نُصب عَيْنَيك فليكن كُلَّ حين»
لمهجة هكطور الحديث مُؤَلِّمًا
جرى جري سهم بالمفاصل يَنْشَبُ
٤٨
ترجَّل مُصطكَّ السِّلاح مُطَوِّفًا
وفي يده سُمْرُ القنا تَتَلَهَّب
يشدِّدُ همَّات الفَوَارس منهضًا
عزيمتهم حتى انْثَنَوا وتَصَلَّبوا
فَكَرُّوا ولكن الأغارق جملة
على صدهم بالعزم طرًّا تألَّبوا
فلم يك في القومين خامل همة
ولم يك فيهم من يراع فيهرب
وعند اشتباك الجيش بالقضب والقنا
جرت مقربات الحملة الأرض تنهب
وقد كست الإغريق ثوب عجاجة
فتحت الخُطى وقعٌ ومن فوق غَيْهَب
٤٩
كأن مَذَاري ذِيمتير بِبَيْدَرٍ
تثير سحيق التِّبن والحَبُّ يرسب
فتذري السحيق الريح ثم تهيله
غبارًا كثيفًا وهو أبيض أشهب
٥٠
كذا اندفع الإغريق من تحت قَسْطَل
علاهم وآرِس للعدى يَتَعَصَّب
أطاع أفُلُّونًا وشدَّد عزمه أحـ
ـتجاب أثينا فاستقر يُكَوْكب
٥١
وأرسل من فوق الجُيُوش غَمَامَةَ
تُظَلّل دُرَّاع الحديد وتحجُبُ
وَلَمَّا علا وقع القنا انْقَضَّ عائثًا
إلى ساحة الهيجاء أنياس يلجب
به جاء فيْبُوس سليمًا من الأذى
شديدًا حديدًا يستجيش ويلغب
فخف وأحيا خفق أكباد قومه
وحف به من صفوة الصيد موكب
فلم يسألوا علمًا ولم يتساءلوا
ودون التَّحَرِّي من لظى الحَرْب أضْرُب
عَوَاصِفُ فِيْبُوس وَصَعْقَة فِتْنَة
وآرس ووبلٌ بالذَّوَابل صَيِّبُ
وآياسُ آياسٌ وأُوْذِس ذيُومِذ
يَهُزُّهم داعي الكفاح وَيُطْرِب
يُنَادُون بالإغريق لِلْحَرْب نَهْضَةً
إذا هم لِكَرٍّ أو لصد تكتَّبُوا
فَلِلصَّدِّ دُفَّاعُ الجُنُود تَثَبَّتُوا
صَنَاديد لم يخشوا ولم يَتَهَيَّبوا
كَأَنَّهم والجرُّ صافٍ رَقِيْعُهُ
غَمَائِمُ مِنْ فَوْق الشّوامخ تَقْطِب
وقد هَجَعَ الأنواء لا ثم ثمأل
تثور ولا الأنواء فيهنَّ تَلْعَب
٥٢
يجوب أغاممنون بين صفوفهم
يصيح وأعقاب الخطى يتعقَّب:
«شدَّدوا عزمكم وكونوا رجالا
فوطيس الوغى عظيم الشُّؤون
وليقم بعضكم بحرمه بعض
فلكم بالوفاق خير قرين
والتَّأَخِّي بين النُّفوس نَصِيرٌ
ولحفظ الرُّؤوس أقوى ضَمِين
للجبان المهزوم موتٌ وعارٌ
والهُمام العَزُوم رَفْعُ الجبين»
٥٣
قال هذا وانقضَّ يطعن ذيقو
ن بن فِرْغاسَ بادئًا بالهجوم
ترب أنياس كان وهو لديهم
كابن فِرْيَامَ ذُو مقامٍ قديمٍ
للنِّجاد السِّنان أوْلج يفري الـ
ـتُّرس حَتَّى حَشا الفُؤَاد الصَّمِيم
فالتوى تحت طعنةٍ وكُلُوم
وصليل السِّلاح فوقَ الكَلِيم
كر نحو الإغريق يطلب ثأرًا
آنياس كرور ليث غشوم
ثم أردى أرْسِيلُخُوس وإكريـ
ـثُوتًا ابني ذِيُوكَليس الحكيم
وحفيدي أرسيلُخُوس الذي كا
ن أخا صولة وملك جسيم
وهو ابن للنَّهر ألفاس أبقى
لابنه ثروة الغنا المركوم
نشأا في فيرس وألفاس فيها
فاض في فيليا بخير عميم
توأما شدة حديثان لكن
بلوا بالنزال كل العلوم
ركبا لجة البحار انتصارًا
لمنيلا وعرضه المثلوم
سدل الموت فوق عينيهما السـ
ـتر بحكم المَنَيَّة المَحْتُوم
شبه شبلين قد غذت لَبْوَةٌ في
أكم الغاب فوق طود عظيم
عبثا فيه في شياه سِمانٍ
وعُجُول بمنعة ونعيم
واستطالا حتى الرُّعاة أعدَّت
لهما الحتف بالسِّنان القَوِيم
هويا مثل أرزتين على التُّر
فمنيلا انبرى يُجيل قناه
شائكًا في سلاحه الموسوم
ساقه آرس لأنياس يبغي
لمنيلا شرًّا لسبق الغَرِيم
بيد أن ابن نسطر أنطِلُوخًا
هبَّ في إثره هُبُوب النَّسيم
خشية أن يمس بالضيم والآ
مال تفنى بقتل ذاك الزَّعيم
فمضى والقرنان كادا اشتباكًا
يقرنان القنا بصدر الجُسُوم
فالتوى ثمَّ عَزْمُ أنياس لَمَّا
لقي اثْنَيْنِ فانْثَنَى للتُّخُومِ
٥٥
دفعا جثة القتيلين للقو
م وعادا بصولة وهزيم
جندلا قيل بفلغونة فيليـ
ـمين روَّاع كل شَهْمٍ عَزُوم
فمنيلا عليه مال بطعن
وأقرَّ السَّنان بالبلعوم
وابن نسطور صدَّ خادِمه ميـ
ـذون مذ رام نجوة المهزُوم
وَرَماه بفهر صخر شديد
فتوارى بزنده المقصوم
فاستطارت أعِنَّة الخيل منه
سابحات تخُبُّ فوق الأديم
فعليه بالسَّيف بالصُّدغ ثنَّى
فثناه للأرض حد الصَّرُوم
٥٦
ناشرًا للهواء رِجْلَيه لكن
رأسه تَحْتَ رَمْلِها المركُوم
ظل حتى جِيَاده بِخُطاها
طرحته للأرض دَامي الكُلُوم
٥٧
وابن نسطور ساقها لحماه
مَغْنَمًا من أجل أصلٍ كريمِ
تَحَدَّم هكطُورٌ لما هُوَ باصرُ
فصاح مغيرًا واقتفته العساكر
وفي صدرهم ربُّ الوغى يستحثهم
وإنْيُو تثير الشَّغب والشَّغب ثائرُ
٥٨
وآريس هكطُورًا يلي فَهْوَ تَارَةً
ظهير وطورًا دُونه مُتَظَاهِرُ
يجيل قناة أثقلت كُلَّ كاهل
وَيَفْعَل ما لا تستطيع القَساوِر
ولكن ذيوميذ الإله له انجلى
فأحجم كرَّات الإله يُحاذر
كطاو بُطُون البِيد صَدَّتْهُ عَنْوَة
سُيُول غَثَت عنها تزوغ النواظر
فيعلوه إشفاق وتغشاه خشية
فينكص مُنْهَدَّ القوى وهو حائرُ
٥٩
قال صَحبي: «هَكطور هولا ظَنَنْتُم
بِقَناه وَالعاسل المسنون
فاتَكُمْ أَنَّهُ أوان الوَغى لم
يخل يومًا من مُرشدٍ ومعينِ
هاكم آرِسًا بهيئة إنس
حوله حام كالنَّصير الأمين
فارجعوا والصُّدور مُنْقَلِباتٌ
للعدى واتَّقوه واتَّبعوني»
٦٠
وخفَّت بنو الطرواد زحفًا بصدرِهم
يصادم هكطور العدى ويُصَادِر
فَأَرْدى مَنَسْتيسًا ونَخْيالسًا معًا
بمركبة قلَّتْهما وهو سائر
فهاجت بآياس العواطف فانبرى
يطير قناةً فَرْعُها مُتَطاير
فاصمى ابن إسْلاغُوس أمفيُّس الذي
بفيسوس قد فاضت عليه الذَّخائر
بَغَى نصرة الطرواد والحتف ساقه
إلى حَيْثُ شكَّت بالنِّجاد الخَوَاصر
فأهوى وأهوى طامعًا في سلاحه
أَيَاس فَصَدَّته السِّهام المواطِر
على جثة المقتول أثبت رجله
يجر سنين النصل والفتك دائر
وكف يباري بالمجنِّ نِبالَهُم
مَخَافَة أن يلهو فَتَدْها الجَماهرُ
٦١
وعند التحام الحرب ساقت يد القضا
لسرفيدن إطلوفُلِيم يُبادر
نظيران في زفس ابنُهُ وحفيده
سليل هِرَقْل والقرين المناظر
وَلَمَّا عَلَى مرمى القُنِّي تدانيا
عليه الهِرَقْليُّ استطال يفاخر:
«أيُّ جهل مشير ليقية أغـ
راك حتى استهدفت أيُّ جنون
أنت والكر فيه مذ كنت غرًّا
قد تَوَرَّطْتَ وَرْطَةَ المَغْبُون
مان من قال أنت من نسل زَفْسٍ
أين أبناء زفس من سرفدون
بهرقل أبي كفاك مثالا
قلب ليث وهول كل القرون
بسفين ستٍّ ونزرٍ قليلٍ
أمطر الويل في حما إليون
أين شتَّان أنت والحتف أفنى
منك قومًا وأنت بادِي الشُّجُون
ليس في رفدك الطراود جدوى
ولئن صلت فالرَّدى بيميني»
٦٣
قال سرفيدون ومَيَّزه الغيـ
ـظ: «نعم بالحديث قد أنبئوني
فهرقل قد دك إليون لا بل
دكها حمق لَوْمِدون الرَّعون
لهرقل ما برَّ بالوعد لكن
متع الخيل عنه منع الضَّنين
ورماه وكان قبل دعاه
من بعيد بسهم شتم مُهِين
إنما أنت والسِّنان بِكَفِّي
سوف تُصْمَى بَرَأس نَصْلِي السَّنين
ولرّبِّ الجحيم نفسك تزجي
ولي الفخر بالمنار المصون»
٦٤
وكلٌّ رمى بالزُّج يحكم رَشْقَه
فبالعنق مزراق وبالفخذ آخر
فمزق أفْطُوْلِيم بالنصل عنقه
فعض الثَّرى تَنْغَضُّ مِنْهُ النَّواظرُ
ومزق سَرْفِيدُون لِلْعظم حُقُّه
وَلَوْلا أبوه بادرته البَوَادِر
٦٥
فأصحابه اجترُّوه مِن ساحةِ الوَغَى
لساعَتِهِم والنَّصل في الجسم غائر
وقد شغلوا عن نزعه لذهولهم
فأركب بالآلام والعَزْمُ خائر
كذاك ارتمى الإغريق فوق قتيلهم
يرومونه فيهم وأوذس ناظر
فَهَبَّ به الغيظ العنيف فهاجَهُ
وردَّد فكرًا ردَّدته الخَوَاطِرُ
أيطلب سرفيدون أم جُنْد قومِهِ
لِتَفْتُك فيهم من يديه البَوَاتر
فعن سرفدون أشغلته يد القضا
فمال إلى حيث التقته العشائر
وساقته فالاس لمجتمع العدى
وما راعه منهم نصال شَوَاجر
فَجَندل كِيرَانُس أَلَستر هلْيُسا
وإخْرُو ميوسًا وهو كالليث كاسِرُ
وألكندرا إفْرِيتنيس نويمنا
صناديد لبقيُّون صيدٌ جَبابِرُ
وكاد يزيد الفَتْك لو لم يثب إلى
طلائعهم هكطور والنقع فائر
رأى فجرى يلقى الصدور مدجَّجا
فضاقت بهم عن مُلْتَقاه المَعَابِرُ
وعن سَرْفِدون غُصَّة الكرب انجلت
فنادى برفق والدموع بوادِرِ:
٦٦
«أغثني ابن فريام ولا تُوْقِع العِدَى
عَليَّ فإني بالمنية شاعر
ولن يتلقَّاني على الرحب مَوطني
وزوجي وطفلي والكرام الأكابر
فدعني بإليون أمت ذا كرامة
وثمة لي في لجة القبر ساتر»
فأعرض هكطور وفي القلب غُصَّة
تحث خطاه وهو للفتك طائر
٦٧
تسير دعاة الموت طوع حُسَامه
ومن كَفِّه جَمْرُ الرَّدَى مُتَنَاثر
وأصحاب سرفيدون في الحال أسرعوا
لزانة زفس فيه والزَّانُ ناضرُ
فبادر فِيْلَاغُون إِلْفُ وَدادِهِ
وأخرج نصلًا أغفَلَتْه البَصَائر
فَغَشَّت على أبصاره ظُلم الرَّدى
وخُيِّل أن قد فارقته المَشَاعر
فَهَبَّت لبُرْياس من الريح نَسْمَةٌ
فأنعش وارفضَّت تَزُول المخاطر
٦٨
ودارت على الإغريق في دارة الوغى
بآرس وهكطور الدَّوَاهي الدَّواثر
ولكنهم بالصبر طُرًّا تدرَّعوا
وكل على دفع العدو مُثَابِرُ
فلم يك فيهم ناكصٌ نحو فُلْكه
ولا لِلقا الأعْدَاء بالصَّدِّ جاسِرُ
وتحت الدِّفاع الثَّبْت مَهْلًا تَقَهقروا
يروعهم أن المهدِّم حاضر
٦٩
فأثخن آريس وهكطور فيهم
فمن أوَّل القتلى ومن هو آخر؟
٧٠
فأولهم تثراس نِدُّ ذوي البقا
فأورست روَّاض الجِياد المُكابر
فإتريخ أونومٌ هلين أُرسْبُسٌ
وكلهم ذاق الرَّدى وهو صاغر
فأورسبسًا لم يجد وافر ماله
وملك على أكناف كيفس وافر
ففي هيلةٍ قد كان حيثُ ثوَى الغنا
وبحر البيوتيين بالمال زاخر
فدارت عليه عندهم أكؤس الصَّفا
(ودارت عليه بالنِّزال الدَّوائر)
رأت هِيْرَةُ الفتك بالقوم دارا
وجيش الأغارق سيم البَوَارَا
٧١
وصاحت بفالاس: «يا للمصاب
أيا بنت زفس وشر المآب
فإنا منيلا جزافًا غررنا
بوعد ولكننا ما بررنا
جزمنا بأن لا يعودن ما لم
ينل مبتغاه وإليون تهدم
نعم سوف يَحْبِط وَعْدٌ وعهدُ
إذا ظل رب الوغى يستبدُّ
فهيِّي الحقي بي له نَتَصَدَّى
فَمِنَّا يُلاقي اقتدارًا أشدَّا
وَفَالاسُ أحرَص من أن تُحرَّص
فَهَبَّت وَلَبَّت ولم تَتربَّص
وهيرة قامت على العجلهْ
تقود الجيادَ إلى العَجَلَهْ
وقوَّمت الجِذْعَ هيبا إليها
تضم الدَّواليب من طَرَفَيْها
فذاك حديد متين صقيل
وهذي نحاس نقي جميل
تدور على عارضات ثمان
تطوقها حلقات ثمان
ومن فوق أطواقها الذَّهبيه
عصابات صفر بديع المزيَّه
لقد أحكمت دائرات عليها
تقرُّ العيون ارتياحًا إليها
ومحوَرُها من لُجين بديع
ومن فوق ذلك عرش رفيع
يقوم على حلق من نُضَار
وصافي لجين صُفُوفًا يدار
فذا من حلي الذهب اللامعه
وذاك من الفضة النَّاصعه
وشدَّت عصابات صافي الذهب
وهيرة تَصْلَى أوار الغَضَب
وفالاس أحشاؤها تتأجَّج
فقامت على فورها تتدجَّج
أماطت نقابًا لطيفًا عليها
بديع المحاسن صُنع يَدَيها
وألقته بالعنف في صرح زفس
بأعتابه عن حزَازةِ نَفْس
وقامت ومُهْجَتُها اضطَرَمَت
لدرع أبيها بها استلأمت
وألقت على منكبيها يميد
مجنًّا يبيد قلوب الحديد
وأهدابه الدُّهم فيه تحوم
وفيه من الرُّعب كلُّ الرُّسُوم
وفيه الشِّقاق وفيه القُوَى
وفيه اللَّحاق مَهُولًا ثوى
وفيه كذا هَامَة المارد
أبي الهول والأروع الواحد
٧٤
وألقت على الرَّأس أعظم مِغْفر
لزفس نضارا تألَّق أحمر
له طرر أربع باتَّقاد
يقي مئة من جيوش البلاد
ولما استَتَمَّت عَلَت تَرْكَبُ
براحتها عامل أشْهَبُ
وهيرة ساطت جياد الأَثير
فراحت بلبِّ الرَّقيع تطير
لأبواب أقصى السَّما سَبَحَت
فمن نفسها لهُما انفتحت
وأعلت صريفًا يَهِزُّ الجبال
وثمَّة ساعاتُها باتَّصال
٧٦
وقوف بها أبدًا حضَّر
على كل ذاك الفضا تَخْفُر
فَتَركم غيمًا فيعلو القتام
وتقشعه فيبيد الظلام
فشقَّ السحاب وبُلِّغتا
مقامًا به زفس قد ثبتا
بأعلى الألمب على ذروته
يجلله المجد في عزلته
هنا وقفت هيرة بالجياد
وراحت إلى زفس تُنَمِي المراد:
«إلى مَ تُرَى يا وليَّ الخلود
مظالم آرس تَجُوز الحدود
ألست ترى كم دما قد سفك
وكم بالأغارق ظُلْمًا فَتَك
وهذا دمي كاد حزنًا يفور
وقبرس وفِيْبُس بملء السُّرُور
٧٧
لقد بلواه أليف النفاقْ
يسوقانه وهو طبعًا يُسَاقْ
ألا فا أذنَنَّ بأن أتأهَّب
وأدفعه بالدماء مخضَّب»
فقال: «عليك بفالاس تَكْبَح
مظالِمَهُ فَهْيَ أولى وأصلح
فتلك التي عوَّدته النكال
ومُرَّ العذاب بيوم النزال»
٧٨
فسُرَّت وَسارَت بأحداسها
تشق الرقيع بأفراسها
سراعًا تطير كَبَرْق أَضا
لأدنى الثَّرى مِن أعالي الفَضا
فما نظر النَّاظر المعْتَلي
على صخرة فوق بحر جلي
من الجو حتى الحصى الرَّاكِدَه
تَخَطَّاه في عدوة واحده
٧٩
فما لبثت أن رَسَتْ بالمَقَر
إلى حيثُ سِيقَت كَلَمح البَصَر
وحلت لدى الحُصن بالرَّبَّتين
على ثغر مُجْتَمَع الجدولين
هنا هيرة استوقفتها وحلت
وتحت ضبابٍ كَثيفٍ أحلَّت
وسِمْوِيسُ أَخْرَجَ من تُرْبَتِه
لها خَالِد النَّبْتِ في ضَفَّتِه
٨٠
وسارت على الأثر الرَّبَّتان
تَرُفَّان رَفَّ حمام الجنان
٨١
ترومان في خَفَّة السَّيْر عن
جيوش الأغارق دَرْءَ المحن
فَبَادَرَتا نَحوَ أوفى السَّوَاد
إلى حيث أبسلُهُم باشتِداد
وحول ذيوميذ كُلٌّ يذود
ببأس ولا بأس جيش الأسود
وعزم ولا عزم خرنوص برْ
يَصُول ويَسْطُو ويُبْدي العِبَرْ
فهيرا عليهم هنا أقبلت
وهيئة إستنتر مَثَّلَت
بصوت جهير كقرع الحديد
له صوت خمسين صوتًا شديد
٨٢
وصاحت: «فواعار جيش جبان
وجيه الوجوه ضعيف الجنان
نعم حين كان أخيل يقف
بكم كان جيش العدى يرتجف
ولم يك من منهم يجسر
إلى باب دردنس يعبر
وهاهم وراء الحُصُون انْبَرَوا
لكم وإلى فلككم قد جَرَوا»
ففيهم نيار الحَمِيَّة ثارَت
وفالاسُ نَحْوُ ذيُومِيذَ سارَت
فوافته معتزلا بالجياد
يرطِّب جرحًا قواه أباد
على صدره عرق يرشح
به كله جالسًا يسبح
يزيح على عيه بيديه
حمائل ترس ثقيل عليه
ويمسح جرحًا به فَنْدَرُوس
رماه بأثناء قرع البؤوس
فمدت إلى نير مركبته
يدًا ثم مالت لِتَخْطِئته:
«أذا بابن تيذيس عُلِمَا
فشتان شتان بينهما
نعم ذاك كان قصيرًا صغيرا
ولكَنَّه كان صلبًا جسورا
تهيج به نفسه للقتال
ولو عنه يومًا حظرت النِّزال
فلم يك بين بني أرْغُس
سواه يؤم بني قَدْمُس
إلى ثَيْبَةٍ وَحْدَه أرسلا
سفيرًا فراح وما هُوِّلا
فقلت اتقي بأس تلك القُرُون
وكن بالمآدب إلف سكون
فلم يملك النَّفس عَمَّا تَعَوَّد
وَرَاحَ برازهُمُ يتعمَّد
وفاز عليهم بنصر مبين
وكنت له خير عون مكين
فذاك أبوك وأنت بعكسه
كأنك أنتجت من غير جنسه
فإما العَيَاء أباد قَوَاكا
وإما جَزِعْتَ لبأس عَدَاكا
أقيك الرَّدى وأليك وأُنْهِض
قَوَاك وأنت عن الحرب مُعْرِضْ»
فقال: «نعم كل ذا أعلمُ
وعنك الحقيقة لا أكتمُ
فلا عَيَّ لا جُبْنَ قَلْبي يُخَامر
ولكِنَّني قَد أطَعْتُ الأوَامِر
أما قلت إن تلق قبريس فاضرب
وعن غيرها من بني الخلد أضْرِبْ
وهاك إله الْوَغى أبدا
يقاتل بالنَّفس صَدْرَ العِدى
لذاك أمَرْت الجُنُود تَقَهقر
ويبقى هنا للدفاع المعسكَرْ
٨٣
فقالت: «إذا يا أعز البشر
إليَّ فَدُونَك فصلَ الخَبَرْ
فلا تَخْشَه الآن حيث استقرَّا
ولا غيرَ رَبّ وكل لي أمرا
تقدم إليه لقرب المجال
بخيلك واطعنه غير مُبَال
ولا تَرْعَ ربًّا عتا لا يَبَرُّ
فَمِن قبلُ واثقنا بالعُهُود
بصدر سراياكم أن يذود
وها هو بين الطراود قاما
يصول ولم يَرْع ذاك الذِّماما»
ومن بعد ذا دَفَعَت إستنيل
فَهَبَّ إلى الأرض حالا يَمِيل
٨٥
وقامت بمجلسِهِ مُغْضَبَه
حذاء ذيوميذ بالمركبه
فأثقل يرتج جذع يميد
بربة بأس وقرن شديد
مضت بالأزِمَّة والسوط تجري
تروم لربِّ الوَغَى شَرَّ قَهْرِ
وكان ابن أوْخسيوس البطل
بريفس أَشَدَّ الأتُول قتل
وبادر والدَّم يخضبه
يصول وفالاس ترْقُبُه
فخوذة آذيس ألقت عليها
لتخفَى عليه وَيَبْدو لَدَيها
٨٦
وغير ذيوميذ ما نظرا
فأبقى القتيل طريحَ الثَّرى
وكرَّ كذاك ذيوميذ كر
وكل سلاح البراز شَهَر
فأرسل ربُّ النزال السنان
يَمُرُّ على النِّير فوق العنانِ
ولكن فالاسَ مدَّت يدا
وعنه أطَاشَتْه فابْتَعَدا
٨٧
وذوميذ بالرُّمح حالا طعن
فألقته في خصر رب المِحَن
فتحت الحِزَام الأديم تخضَّب
وهم ابن تيذيس الرُّمح يسحب
فصاح أريس بصوت دَوَى
يزعزع أركان ذاك الفضا
كعشرة آلاف قرنٍ يصيح
معًا فوق ذاك المجال الفسيح
٨٨
فخار الفريقان واضطربا
وآريس بالسُّحُب احتجبا
رآه ذيوميذ وهو يطير
بقلب الغمائم بادي الزَّفِير
بُخارًا تَقَتَّم تحت الغُيُوم
تَهُبُّ به عاصفاتُ السَّمُوم
فأدرك أولمبسًا بالعجل
وجاء إلى زفس جم الوجل
وقَرَّ لديه يريه دماه
يبثُّ له حَنِقًا مشتكاه:
«أترضى ولي البرايا بما
ترى من فظائع آل السَّما
على بعضنا بعضنا يفتري
جزافًا لأجل بني البشر
ولوم الجميع عليك استقر
لأنك أنتجت رَبَّة شَرْ
أليفة حمق حَلِيفة نكر
وليست لغير المفاسد تجري
فكل أهالي السَّما لك تخضع
أنت لها كلما شئت تردع
سوى فالس عن مجازاتها
تجاوزت تُغْفل زلَّاتها
فلست لها أبدًا تنتهر
ومن نفسها هي لا تَعْتَبِر
وتطمع مغترة بأبيها
لأن قواه الشداد تقيها
فها هي تغري ابن تيذيس أن
يصول علينا ويرمي ويطعن
فأقبل يطعن قبريس باليد
وصال عليَّ كربٍّ مخلد
فأطرق زفس مغيظًا وقال:
«عتوت ولا تستقر بحال
فلا تشك أمرك بعد إليا
فإنك أبغض ربٍّ لديا
فدأبك ما زال بين الأنام
شقاقًا ومفسدة واختصام
فأمك هيرا وعرق العناد
سرى لك منها وهذا الفساد
يثقلني ردعها وإخالك
تقفَّيتها وبذاك وبالك
ولكنني لست أرضى عذابك
لأن لزوجي وصلبي انتسابك
فلو كنت ما أنت من غير رب
لأهبطت من قبل أدنى الرتب
وسفلت بالذل والهون عن
بني أورنس من قديم الزمن»
٩١
وفيون نادى فبلسمه
على الجرح ذر فألأمه
ففي الحال والموت لا يعتري
بني الخلد في لحظ طرف بري
كما يخثر اللبن المختلج
عصير من التين فيه مزج
وهيبا على عجل غسلته
وفاخر ملبسه ألبسته
وبالعُجب والتيه والكبر أقبل
إزاء أبيه لدى عرشه حل
ومذ أخمدت نار فتنته
وخفت شرارة وطأته