الفصل السادس والعشرون

لجميع سكان لندن، كانت هذه أيامًا ذاتَ انطباعات حية، وذكريات مؤثِّرة، تُعزز لديهم بعد ذلك شعورًا غريبًا بعدم الواقعية، وكأنهم ينتمون إلى أيام أخرى وعالم آخَر. تذكَّر دوميني مدةً طويلة عَشاءه في ذلك المساء في غرفة الطعام الكئيبة والمفروشة بأناقةٍ في منزله بالمدينة في ساحة بيركلي. وعلى الرغم من أنها كانت تفتقر إلى الأبعاد المهيبة لقاعة المآدب في قصر دوميني، كانت لا تزال جَناحًا رائعًا، مفروشًا على طِراز العصر الجورجي، مع بعض الصور البارزة على الجدران، وسقفٍ ومدفأة رائعَين. تناول كلٌّ من دوميني وروزاموند العشاء بمفردهما، وعلى الرغم من تقليص المائدة إلى أصغر أبعادها، كانت المسافة بينهما لا تزال كبيرة. ما إن وضع باركنز نبيذ البورت على الطاولة بوقار، حتى نهضت روزاموند، وبدلًا من مغادرة الغرفة، أشارت للخادم أن يضع لها كرسيًّا بجانب دوميني.

وصرَّحَت: «سأكون مثل أصدقائك من الرجال، يا إيفرارد، عندما تغادر السيدات، وتجلسون على انفراد. الآن ماذا نفعل؟ نسرد القصص؟ أعدُك أنني سأكون مستمعة رائعة.»

قال لها وهو يملأ كأسها: «بادئ ذي بدء، تشربين نصف كوبٍ من نبيذ البورت، ثم تُقشرين لي إحدى ثمرات الخوخ تلك، ونقسمها. بعد ذلك نستمع لرنين الجرس. فأنا أتوقَّع زائرًا الليلة.»

«زائر؟»

طمأنَها: «ليس لمناسبةٍ اجتماعية.» وتابع قائلًا: «إنها مسألة عمل أخشى أن تأخذَني منكِ بقية المساء. لذلك دعينا نستفِدْ إلى أقصى حدٍّ من الوقت حتى يأتي.»

بدأت مهمَّتها مع الخوخ، وتحدَّثت إليه طوالَ الوقت بقليلٍ من الجدية، صورة حلوة وخلَّابة لامرأة رشيقة ومحبوبة للغاية، برزَت هيئتها الحساسة ورقَّتها الجميلة أكثرَ من أي وقتٍ مضى بسبب كآبة الخلفية.

قالت: «أتعرف، يا إيفرارد، أنا سعيدة جدًّا في لندن هنا معك، وأشعر طوال الوقت بالقوة والصحة. يمكنني قراءة وفَهم الكتب التي كان يصعُب عليَّ فهمُها من قبل. أستطيع أن أرى الأشياء في الصور، وأشعر بإثارة الموسيقى، التي بدَتْ لي، بطريقةٍ ما، قبلئذٍ، مشوشةً ومتنافرة. هل تفهم يا عزيزي؟»

أجاب بجدِّية: «بالطبع.»

استطردَت قائلة: «لا عجب أن الدكتور هاريسون فخورٌ بي بصفتي مريضة، ولكن في مرات كثيرة أشعر بألمٍ خفيف في قلبي؛ لأنني أعرف أنني لم أتعافَ تمامًا، بغض النظر عما قد يقوله هو أو أي شخص آخر.»

احتجَّ قائلًا: «روزاموند عزيزتي.»

أصرَّت قائلة وهي تضع نصيبه من الخوخ في طبقه: «آه، لا تُقاطعني.» وأضافت قائلةً: «كيف يمكنني أن أتعافى وطوال الوقت لديَّ المشكلة المتمثِّلة فيك، المشكلة التي يصعُب عليَّ حلُّها أكثر من أي وقتٍ مضى؟ في كثير من الأحيان أجد نفسي أقارنك بإيفرارد الذي تزوجته.»

سأل: «هل أفشل كثيرًا في الوصول إلى مستواه؟»

أجابت وهي تنظر إليه بعيونٍ دامعة: «لا تفشل أبدًا.» تابعتْ بعد توقُّف للحظة: «بالطبع، كان أكثرَ حنانًا. لم تكن قبلاته مثل قبلاتك. وكان مولعًا جدًّا بوجودي معه. ثم، من ناحية أخرى، في كثير من الأحيان عندما كنت أريده لم يكن موجودًا، كان يفعل أشياءَ جامحة، أشياء مجنونة؛ بدا وكأنه نسيني تمامًا. كان ذلك»، استطردَت: «كان ذلك فظيعًا للغاية. كان ذلك ما جعلني متوترةً للغاية. أظن أنه كان بوسعي أن أكون قادرةً على تحمُّل تلك اللحظات الفظيعة عندما عاد إليَّ مغطًّى بالدماء ويترنَّح، لولا أنني كنت بالفعل على وشك الانهيار. كما تعلم، لقد قتل روجر أنثانك في تلك الليلة. هذا هو السبب في أنه لم يتمكَّن من العودة.»

توسَّل دوميني: «لماذا تتحدثين عن هذه الأشياء الليلة، يا روزاموند.»

أصرَّت قائلة وهي تضع أصابعها على يده وتنظر إليه بفضول: «يجب أن أفعل، يا عزيزي.» وأضافت قائلةً: «يجب أن أفعل، على الرغم من أنني أرى كم تزعجك. إنه لأمرٌ رائع أن تهتمَّ كثيرًا، يا إيفرارد، لكنك تفعل ذلك، وأنا أحبك لذلك.»

تأوه: «أهتم؟» وأجاب: «أهتم!»

تابعتْ وهي تفكِّر: «أنت تشبهه كثيرًا ومع ذلك أنت مختلفٌ عنه جدًّا.» وأضافت قائلةً: «فأنت تشرب القليل من النبيذ، ودائمًا تتحكَّم في نفسك، وجادٌّ جدًّا. وتعيش كما لو أنه كان لديك حياةٌ لا يعرف عنها الآخرون شيئًا. ما كان إيفرارد الذي أتذكَّره سيهتمُّ أبدًا بكونه قاضيًا أو بأن يترشَّح في البرلمان. كان سيقضي وقته في السباق أو ركوب اليخوت أو الصيد أو إطلاق النار، كما يحلو له. ومع ذلك …»

سأل دوميني بصوتٍ أجشَّ قليلًا: «ومع ذلك ماذا؟»

قالت بحزن شديد: «أظن أنه كان يحبني أكثر منك.»

سأل: «لماذا؟»

أجابت وعيناها على طبقها: «لا أستطيع أن أخبرك، لكني أظنُّ أنه كان كذلك.»

سار دوميني فجأةً نحو النافذة وأطلَّ منها. كانت توجد قطرات من الرطوبة على جبهته، وشعر بالحاجة الماسَّة إلى الهواء. عندما عاد كانت لا تزال جالسةً هناك، ولا تزال تنظر إلى أسفل.

تابعت، وصوتها بالكاد مسموع: «لقد تحدثتُ إلى الدكتور هاريسون حول هذا الموضوع.» وأضافت قائلةً: «أخبرني أنك ربما أحببتني أكثرَ مما تجرأت على أن تُظهِر لي؛ لأنه في يومٍ من الأيام قد يعود إيفرارد الحقيقي.»

ذكَّرها بصوتٍ خفيض: «هذا صحيح تمامًا.» وتابع قائلًا: «قد يعود في أي لحظة.»

أمسكَت بيده، وارتعش صوتها بشغف. ومالت نحوه، والتفَّت ذراعها الأخرى حول رقبته.

وبكت: «لكنني لا أريده أن يعود!» وأضافت قائلةً: «أريدك أنت!»

جلس دوميني للحظة بلا حَراك، مثلَ تمثال من الحجر. من خلال النوافذ الكبيرة المغطاة بالستائر جاءت صيحةٌ صاخبة من بائع الصحف، كاسرةً سكونَ الأمسية الصيفية. ثم حدثت مقاطعةٌ أخرى أكثرُ حدة؛ حيث توقَّفت سيارة أجرة بالخارج، ورنَّ جرس الباب الأمامي بقوة وإصرار. عادت إلى دوميني ذاكرتُه، وقوةٌ كبيرة. وأطفأ النار التي كانت قد اندلعت بداخله. كان ردُّه على موجة شغفها رقيقًا بلا حدود.

قال: «عزيزتي روزاموند، إن جرس الباب الأمامي يستدعيني إلى مقابلةٍ مهمةٍ نوعًا ما. هل يمكنك أن تثقي بي مدةً أطولَ قليلًا؟ صدِّقيني، أنا لستُ باردَ المشاعر بأي حال من الأحوال. أنا لستُ غيرَ مبالٍ. ثمة أمرٌ يجب أن أخبركِ به، أمرٌ لم أتصوَّره أبدًا، أمرٌ بدأ يثقل كاهلي ليلًا ونهارًا. ثقي بي، يا روزاموند، وانتظري!»

غاصت مرةً أخرى في كرسيها بقليل من التجهم الفاتن المثير للشفقة.

اشتكَت قائلة: «تقول لي دائمًا أن أنتظر.» وأضافت قائلةً: «سوف أتحلَّى بالصبر، ولكن عليك أن تخبرني بذلك. أنت لطيف جدًّا معي. أنت تصنع حياتي أو تُفسدها. يجب أن تهتم قليلًا؟ من فضلك؟»

كان واقفًا الآن. قبَّل يديها بولع. كان صوته يحتوي على نبرته القديمة.

«أكثر من أي امرأة على وجه الأرض، يا عزيزتي روزاموند!»

•••

فقدَ سيمان، الذي كان يرتدي حلةً رمادية فاتحة، وقبَّعة، وربطة عنق بيضاء مزينةٍ بالزهور، شيئًا من اللياقة الهادئة التي كانت لديه قبل بضعة أشهر. كان يشعر بالحر والتعب جراءَ السفر. كانت ثمة خطوطٌ جديدة في وجهه وتعبيرٌ غريب عن القلق حول عينَيه، التي بدأت تظهر في أركانها تجاعيدُ صغيرة. استجاب لترحيب دوميني بحماسةٍ تكاد أن تكون شديدةَ الانفعال، وفحصه عن كثب، كما لو كان يتوقَّع أن يجد بعضَ التغيير، وألقى بنفسه أخيرًا على كرسيٍّ مريح ببادرةٍ صغيرة تدلُّ على الشعور بالراحة. كان يحمل حقيبةَ تقارير صغيرة بُنية اللون وضعها على السجادة بجانبه.

سأل دوميني: «هل لديك أخبار؟»

كان الرد العظيم: «نعم، لديَّ أخبار.»

دقَّ دوميني الجرس. كان قد خمَّن بالفعل من حقيبة الملابس والمعاطف في القاعة، أن زائره جاء مباشرةً من المحطة.

استفسر: «ماذا ستأخذ؟»

أجاب سيمان: «زجاجةً من النبيذ الألماني الأبيض مع مياهٍ غازية، وثلجًا إذا كان لديك.» وتابع قائلًا: «أيضًا طبقًا من اللحم البارد، ولكن يجب تقديمُه هنا. وبعد ذلك أكبر سيجار لديك. لديَّ بالفعل أخبار، أخبار مزعجة، أخبار رائعة، أخبار مذهلة.»

أعطى دوميني بعضَ الأوامر للخادم الذي استجاب لاستدعائه. تحدثا للحظات قليلة عن أمور تافهة خاصة بالرحلة. عندما قُدِّم كل شيء، وأُغلِقَ الباب، لم يَعُد بإمكان سيمان الانتظار. بدا أن شهيَّته، وعطشه، وحديثه، كلهم متحفزون للعمل السريع.

قال: «نتمتع بالمزاج ذاتِه.» وتابع قائلًا: «أعرف ذلك. سنتحدَّث أولًا عن الأخبار المزعجة — المخيفة قليلًا. لقد حُلَّ لغز يوهان وولف.»

سأل دوميني: «الرجل الذي أتى إلينا برسائلَ من شميدت في جنوب أفريقيا؟» وأضاف: «لقد كدتُ أنسى أمره.»

«أنا أيضًا. حتى الآن لا أستطيع أن أتصورَ ماهية الأمر الذي كان وراء زيارته لنا في تلك الليلة. كما أنه ليس واضحًا لماذا أنكر معرفتي؛ فأنا عَمليًّا رئيسُه في الخدمة نفسِه. ها نحن أولاء، منذ البداية، نُواجه حدثًا فريدًا للغاية، لكنه لا يكاد يكون فريدًا جدًّا بقدرِ ما حدث بالنهاية. اختفى وولف من منزلك في تلك الليلة وذهب إلى قلعةٍ إنجليزية.»

أعلن دوميني بصراحة: «يبدو هذا غيرَ معقول.»

أصرَّ سيمان: «ومع ذلك فهو صحيح.» وتابع قائلًا: «لا يُسمَح لأي عضوٍ في خدمتنا بالبقاء أكثرَ من شهر واحد دون إبلاغ المقر بوجوده ومكانه. لم ترِد أيُّ أخبار من وولف منذ تلك الليلة في يناير. من ناحية أخرى، وصلَت إلينا معلوماتٌ غيرُ مباشرة مفادها أنه مسجونٌ هنا.»

احتجَّ دوميني قائلًا: «لكن مِثل هذا الشيء مخالفٌ للقانون، ولم يُسمع به من قبل.» وتابع قائلًا: «لا يمكن لأيِّ دولة أن تُبقي مُواطنَ دولة أخرى في السجن دون توجيه تهمة محددة أو تقديمه للمحاكمة.»

ابتسم سيمان بصرامة.

وقال: «ذلك جيدٌ جدًّا في أي حالة عادية.» وتابع قائلًا: «لكن وولف كان رجلًا مرصودًا لسنوات. سرعان ما سيُثير شارع فيلهلم ضجةً كافية، إذا كان يوجد أيُّ نفع من وراء هذا، ولكن لا يوجد. يوجد رجلٌ أو رجلان إنجليزيان في السجون الألمانية في الوقتِ الحاليِّ، ولم تُفكِّر وزارة الخارجية الإنجليزية حتى في أن الأمر يستحقُّ الاستفسار بشأنهم. ما يُزعجني أكثرَ من الحقيقة الفعلية لاختفاء وولف هو سرُّ زيارته لك واعتقاله بعدها تقريبًا.»

قال دوميني: «لا بد أنهم تعقَّبوه إلى هناك.»

اعترض سيمان: «نعم، لكنهم لم يتمكَّنوا من دفع ملقط في غرفة جلوس كبير خدَمك، واستخراج يوهان وولف، ووضعه داخل قلعة نورويتش أو أيِّ سجن قد يكون فيه. ومع ذلك، فإن السمةَ الأكثر إثارةً للقلق بشأن مسألة وولف هي تقديمها لشيءٍ لا نفهمه. فيما يتعلَّق بالبقية، لدينا الكثيرُ من الرجال الجيدين مثله والأفضل منه، ووقت الاستفادة منهم قد ولَّى. أنت أمَلُنا العظيم الآن، يا دوميني.»

«هذا هو الحال، إذن؟»

ارتشف سيمان رشفةً طويلة ومفعمة بالنشوة من النبيذ الألماني الأبيض والمياه الغازية.

وأعلن بجدِّية: «هذا هو الحال.» وتابع قائلًا: «لم يكن يوجد أي شك في ذلك. إذا توقفت روسيا عن التعبئة غدًا، وإذا زحف كلُّ سياسي في صربيا إلى فيينا بحبلٍ حول رقبته، فستظلُّ النتيجة كما هي. لقد انتشر الخبر. ألمانيا كلُّها مثل مخيَّم عسكري شاسع. هذا يأتي بالضبط قبل اثنَي عشرَ شهرًا من اليوم النهائي الذي حدَّدته سلطاتنا العظيمة، ولكن الفرصة عظيمة جدًّا، ورائعة جدًّا بحيث لا يمكن الترددُ بشأنها. بحلول نهاية أغسطس سنكون في باريس.»

غمغم دوميني، وهو يقف للحظة بجانب النافذة المفتوحة: «يا لها من أخبار مذهلة تلك التي تجلبها!»

تابع سيمان: «لقد تلقيتُ استحسانًا في أرقى الدوائر.» وتابع قائلًا: «أنا وأنت على رأس القائمة التي تضمُّ أولئك الذين سينالون مكافآتٍ عظيمة. يُوافق جلالة الملك موافقةً تامة على امتناعك عن الاستفادة من إذنه بالزواج من الأميرة إيدرستروم. وصرَّح قائلًا: «إن قرار فون راجاشتين في محلِّه. فهذه الأيام ليست مناسبةً للزواج. هذه أكثرُ أيامٍ عرَفها العالم على الإطلاق أهميةً، الأيام التي ستبزغ فيها إمبراطورية إلى الوجود، أعظم الأيام منذ أن تشكَّلت القارات ونظرت النجوم بازدراء إلى هذا العالمِ الحاليِّ.» تلك هي كلمات صاحب السمو. أعظم الصفات من وجهة نظره هي وحدانية الهدف. لقد اتبعتَ هدفك، خلافًا لنصيحتي، ونصيحة تيرنيلوف. وستفوز نتيجة هذا.»

أنهى سيمان وجبته في الوقت المناسب، ورُفِعَت الصينية. وسرعان ما كان الرجلان بمفردهما مرةً أخرى، ينفخ سيمان كمياتٍ كثيفةً من الدخان، ويُمسك سيجاره بين أسنانه، ويلوِّح به أحيانًا في يده ليجعل كلماته مؤثِّرة. يبدو أنه فقدَ القليل من حذره الرائع. لأول مرة تحدَّث بصراحة إلى رفيقه.

قال: «فون راجاشتين، بلدنا بلد عظيم. إنها إمبراطورية رائعة تلك التي سنبنيها. الليلة أنا متحمِّس للأشياء العظيمة. لديَّ قائمةٌ من التعليمات لك، العديد من التفاصيل. بإمكانها الانتظار. سنتحدَّث عن مستقبلنا ومصيرنا العظيم المجيد كأعظمِ أمةٍ نالت الحقَّ في حكم العالم. قد تعتقد أنه كان ثمَّة هياجٌ في ألمانيا. لا يوجد. فقد حُدِّدَت مهمة كل فرد، وعملهم واضحٌ لهم. نحن نتحرك نحوَ الحرب مثل ماكينةٍ عظيمة هائلة. كل كتيبة تعرف موقعها، كل قائدِ وحدة يعرف مواقعه، كل جنرال يعرف خطَّ هجومه بالضبط. حصص الإعاشة والملابس والمستشفيات، كل وحدة يمكنك التفكيرُ فيها، لها تحركاتها المحسوبة حتى آخر تفصيلة.»

سأل دوميني: «وماذا عن النتيجة النهائية؟» وتابع قائلًا: «هل هي محسوبة أيضًا؟»

فتح سيمان، بأصابع مرتجفة، صندوقَ التقارير الصغير الذي كان إلى جانبه وأخذ منه بحذرٍ شديدٍ مخطوطةً مدعومة بالكتان.

قال: «أنت يا صديقي، من أوائل مَن سيُلقون نظرةً على هذا. سيوضح لك هذا حلم القيصر. وسيُظهر لك إطارَ عمل الإمبراطورية الآتية.»

وضع خريطةً على الطاولة. انحنى الرجلان عليها. كانت خريطة لأوروبا، رُسِمَت عليها إنجلترا، وفرنسا مع تقليص مساحتها، وإسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، بلونٍ أزرق داكن. أما باقي الدول، فقد طُلِيَت كلُّ المساحة الموجودة بين خطَّين، أحدهما من هامبورج إلى أثينا، والآخر من فنلندا إلى البحر الأسود، بلون قرمزي غامق، مع وجود أجزاء هنا وهناك بألوانٍ أفتح قليلًا. وضع سيمان راحةَ يده على الخريطة.

وقال بجدِّية مثيرة للإعجاب: «هناك تقع إمبراطوريتنا المستقبلية.»

توسَّل دوميني: «هلَّا توضحها لي.»

«بشكل عام، كل شيء بين هذين الخطَّين ينتمي إلى الإمبراطورية الألمانية الجديدة. ستحوز بولندا، وكورلاند، وليتوانيا، وأوكرانيا على درجةٍ معيَّنة من الحكم الذاتي، الذي عمليًّا سيكون بلا قيمة. آسيا هناك تحت أقدامنا. لن تتحكمَ بريطانيا العظمى في إمدادات العالم بعد الآن. المواد الخام من كل نوع ستكون لنا. الجلود، والشحم، والقمح، والزيت، والدهون، والأخشاب — كل هذه الأشياء متاحةٌ لنا لنستغلَّها. ومن أجل الثروة … هناك الهند والصين! ماذا تريد أكثرَ من هذا يا صديقي؟»

«هذا مذهل. ولكن ماذا عن النمسا؟»

كانت ابتسامة سيمان ساخرة إلى حدٍّ ما.

قال: «لا بد أن النمسا تشعر بالفعل بأن هلاكها يزحف نحوها. لا يوجد مكان في أوروبا الوسطى لإمبراطوريتين، ويجب أن يسقط آل هابسبيرج أمام آل هوهنتسولرن. النمسا، قلبًا وقالبًا، يجب أن تُصبح جزءًا من الإمبراطورية الألمانية. ثم إلى الأسفل قليلًا، انتبِه. يجب أن تُصبح رومانيا دولةً تابعة أو أن تُحتَل. بلغاريا مِلكنا بالفعل. تركيا مع القسطنطينية مضمونة. اليونان إما أن تنضمَّ إلينا أو سيُقضى عليها. ستُمسَح صربيا من الخريطة؛ ربما الجبل الأسود أيضًا. هذه البلدان المرسومة باللون الأحمر الباهت، مثل تركيا، وبلغاريا، واليونان، ستُصبح دولًا تابعةً، وسنستحوذ عليها واحدة تِلو الأخرى عندما تسنح الفرصة.»

وجَّه دوميني أصبعه شمالًا.

وعلَّق: «لقد اختفَت بلجيكا.»

أجاب سيمان: «سنحتلُّ بلجيكا ونستعبدها.» وتابع قائلًا: «خطُّ تقدُّمنا إلى فرنسا يقع في هذا الطريق، ونحن بحاجةٍ إلى موانئها للسيطرة على نهر التايمز. هولندا والدول الاسكندنافية، كما تُلاحظ، متروكةٌ بلونٍ أحمرَ فاتح. إذا سنحَت الفرصة، فقد تُحَرَّض هولندا والدنمارك لشنِّ الحرب علينا. وإذا فعلتا ذلك، فهذا يعني أن نحتلَّهما أولًا. وإذا بقيتا، كما هو مرجَّح، محايدتَين خائفتين، فستكونان مع ذلك دولتَين تابعتين لنا عند إطلاق آخر طلقة.»

«ماذا عن النرويج والسويد؟»

نظر سيمان إلى الخريطة وابتسم.

وقال: «انظر إليهما.» وتابع قائلًا: «إنهما تحت رحمتنا. للنرويج ساحلها الغربي، وقد تكون مسألة المساعدات البريطانية فيما يتعلَّق بها قائمةً دائمًا. لكن السويد لنا بالكامل. إن خُطتنا الرئيسية هي إخضاعها لنا بالكامل، أكثر من أيِّ دولة أخرى من هذه الدول التابعة. نحن بحاجةٍ إلى رجالها المفعَمين بالحيوية، أفضل جنود في العالم، للحروب اللاحقة، في حال حدوثها. ولديها الأخشاب والمعادن التي نحتاج إليها أيضًا. وحتى هنا — هذا يكفي. أنت، يا صديقي فون راجاشتين، أول مَن ألقى نظرةً على هذه الصورة للمستقبل من رجال هذا البلد.»

تمتمَ دوميني: «هذا تصوُّر رائع، ولكن ماذا عن روسيا بملايينها؟ كيف نفترض، على الرغم مما لديها من ملايين الرجال، أن نصلَ إلى أغنى مقاطعاتها، ودخول قلب إمبراطوريتها؟»

أجاب سيمان: «هنا تتدخَّل العبقرية. فروسيا جاهزةٌ لثورةٍ في أيِّ وقت على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية. لدينا عُملاء سرِّيون الآن في كل مدينةٍ وقرية وفي سائر الجيش. سنُعَلِّم روسيا كيف تجعل مِن نفسها دولة حرة.»

ارتجف دوميني قليلًا مع نفورٍ يكاد يكون لا إراديًّا. للمرة الثانية أثارت اشمئزازَه تلك الابتسامة الشهوانية على وجه سيمان.

«وماذا عن عملي أنا؟»

حضَّر سيمان لنفسه مشروبًا. كان، عادةً، رجلًا معتدلًا، لكن هذه كانت المرة الثالثة التي يُعيد فيها ملءَ كأسه منذ وجبته السريعة.

اعترف وهو يُمرِّر يدَه على جبهته: «إن عقلي متعبٌ يا صديقي.» وتابع قائلًا: «أعاني إرهاقًا شديدًا. الأفكار تتزاحمُ في عقلي. لقد كان الأسبوع الماضي شديدَ الإثارة. لقد تم التخطيط لكل شيء، حتى حياتك اليومية تقريبًا. سوف نستعرض الأمر في غضون يومٍ أو نحو ذلك. في غضون ذلك، تذكَّر التاليَ. هدفنا العظيم هو إبعاد إنجلترا عن الحرب.»

صاح دوميني: «إذن تيرنيلوف مُحق، في نهاية الأمر!»

ضحك سيمان بازدراء.

وأوضح: «إذا كنا نريد خروجَ إنجلترا من الحرب، فهذا لا يعني أننا نرغب في صداقتها. كلُّ ما في الأمر هو أنه سيُمكننا سحقها بسهولةٍ أكبر عندما تكون كاليه، وبولون، وهافر في أيدينا. سيكون ذلك في غضون ثلاثة أشهر. حينها ربما يتغيَّر موقفنا تجاه إنجلترا قليلًا! سأرحل الآن.»

طوى دوميني الخريطةَ بامتعاض. هزَّ رفيقه رأسه. كان من الغريب أنه هو أيضًا، ولأول مرة في حياته في اليوم ذاتِه، خاطب مضيفَه بشكل مختلف.

قال: «بارون فون راجاشتين، توجد ستٌّ من تلك الخرائط. هذه لك. خبِّئها واحْمِها كما لو كانت أعظمَ كنز على وجه الأرض، ولكن عندما تكون بمفردك، أخرِجها وادرُسْها. ستكون مصدرَ إلهام لك، وتُخفِّف لحظات اكتئابك، وتمنحك الشجاعة عندما تكون في خطر؛ سوف تملأ عقلك بالفخر والاندهاش. إنها مِلكك.»

طواها دوميني بعناية، وعبَر الغرفة، وفتح خِزانة صغيرة ووضعها فيها.

وأكَّد لضيفه المغادر بحماسٍ فاجأه هو شخصيًّا: «سأحرسها، حسب طلبك، وكأنها أعظم كنوزي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤