الفصل التاسع والعشرون
دفعَت حرارةُ وقتِ ما بعد الظهيرة الخانقة — التي كان يتناظر بشكلٍ غريب تنبُّؤها بحدوث عاصفة قادمة مع اقتراب حدوث أزمةٍ في شئون دوميني الخاصة — إلى خروج دوميني من مكتبه إلى الشرفة. على كرسيٍّ بجانبه، استرخى إيدي بيلهام، أنيقًا يرتدي بذلةً قطنية بيضاء. كان هذا هو اليوم الخامس منذ حُلَّ لغزُ الغابة السوداء.
قال الشابُّ بلطف، ويده تمتد إلى كأسٍ بجانبه: «رائعٌ منك، يا رفيقي، أن تستضيفَني هنا.» وأردف قائلًا: «فالريف، عندما يتساقط الثلج، يكون جنة في هذا الطقس، خاصة عندما تكون لندن مليئة بالإشاعات المروعة وكل هذا النوع من الأشياء. ما آخر أخبار سيادتها؟»
أجاب دوميني: «ما زالت فاقدةً للوعي. لكن الأطباء يَبْدون مطمئنين تمامًا. كل شيء يعتمد على لحظات استيقاظها.»
ترك الشابُّ الموضوعَ بغمغمةِ تعاطفٍ مفعَمة بالأمل. كانت عيناه مثبتتَين على سحابة صغيرة من الغبار تظهر من بعيد.
سأل: «هل تتوقع زوارًا اليوم؟»
كانت الإجابة المقتضبة إلى حدٍّ ما: «لن أُفاجَأ.»
وقف الشاب، وتثاءب، وتمطى.
قال: «سأغادر سريعًا.» أضاف باستحسانٍ، متباطئًا للحظة: «يا إلهي! تصميمُ سُترة زيِّك الرسمي رائع للغاية، يا دوميني! إذا قررت دولةٌ معرَّضة للخطر أن تتنازل عن مسألة بِنْيتي غير الجيدة وأرسلتني لنجدتها، فسوف أذهب إلى الخياط الخاص بك.»
ابتسم دوميني.
وأجاب: «تلك ليست سوى الزيِّ المحلي لفرسان الحرس الوطني.» وأردف قائلًا: «سيُمسكون بك ويضمونك للحرس الملكي!»
عاد دوميني عبر النوافذ المفتوحةِ إلى حُجرة مكتبه بينما غادر بيلهام. كان جالسًا إلى مكتبه، يتفحَّص بعض الرسائل، وبعد بضع دقائق دخل سيمان إلى الغرفة. للحظة واحدة، شُدَّت عضلاته، وأصبح جسده متوترًا. ثم أدرك أن زائره يمدُّ يدَيه مرحِّبًا وهدأ. كان سيمان يتصبَّب عَرقًا، وصاخبًا، ومتحمسًا.
صاح: «أخيرًا!» وأردف قائلًا: «يا للهول! يا إلهي، دوميني، ما هذا؟»
أوضح دوميني: «قبل ثلاثة عشر عامًا، استقلتُ من تكليفٍ في سلاح فروسية الحرس الوطني بنورفولك. ومع ذلك، فقد عُدِّلَت هذه المسألة الصغيرة. في أزمةٍ مثل هذه …»
قاطعه سيمان بجدِّية: «صديقي، أنت رائع!» وتابع قائلًا: «نمتلك الآراء ذاتَها؛ فأنت دقيق، ولا تترك شيئًا غيرَ مكتمل. لهذا» أضاف خافضًا صوته قليلًا: «نحن أعظم عِرق في العالم. المشروب قبل كل شيء، يا صديقي» وأضاف قائلًا: «أريد مشروبًا. يا له من يوم! الغيوم التي تُخفي الشمس مليئةٌ بحرارة خانقة.»
دقَّ دوميني الجرس، وطلب نبيذًا ألمانيًّا أبيضَ، ومياهًا غازية، وثلجًا. شرب سيمان وألقى بنفسه على كرسيٍّ مريح.
سأل بقليل من القلق، مشيرًا برأسه إلى زيِّ رفيقه: «آمُل أنه لا خوف من استدعائك خارج البلاد بسبب ذلك؟»
أجاب دوميني: «ليس في الوقت الحاضر.» واستطرد قائلًا: «لقد تجاوزت بقليلٍ السنَّ المطلوبة للذَّهاب مع الدفعة الأولى أو الثانية. أين كنت؟»
قرَّب سيمان كرسيه قليلًا.
وقال: «في أيرلندا.» وأضاف قائلًا: «آسفٌ أنني تخليتُ عنك بهذه الطريقة، لكنك لم تبدأ في الاعتماد علينا بعد. كان ثمَّة شكٌّ ضئيل حولَ ما سيفعلونه حيالَ الاعتقال. لهذا السببِ اضطُررت إلى التوقُّف عن التفكير في الرحلة الأيرلندية.»
«ما الذي تقرَّر؟»
أجاب سيمان بضحكةٍ مكتومة: «الموضوع قيد النظر لدى الحكومة.» وأردف قائلًا: «يمكنني بالتأكيد أن أمنح نفسي ستةَ أشهر قبل أن أحتاج إلى الرحيل. أخبرني الآن، لماذا أنت هنا؟»
أوضح دوميني: «بعد مغادرة تيرنيلوف، شعرتُ أنني أريد أن أبتعد. طُلب مني بدء بعض أعمال التجنيد هنا.»
«تيرنيلوف! هل ترك كتابه الصغير معك؟»
«نعم!»
«أين هو؟»
أجاب دوميني: «بأمانٍ.»
مسح سيمان جبهته.
وتمتم: «يجب أن يكون كذلك.» وتابع قائلًا: «لديَّ أوامرُ بتدميره. يمكننا الحديث عن ذلك بعد قليل. أحيانًا، عندما أكون بعيدًا عنك، أشعر بالخوف. قد يبدو هذا حماقة، ولكنْ لديك شيئان — تلك الخريطة ومذكرات فون تيرنيلوف — من شأنهما أن يُدمِّرا دعايتنا في كل بلدان العالم.»
أكَّد له دوميني: «كِلاهما في أمان.» واستطرد قائلًا: «بالمناسبة، يا صديقي، هل تعلم أنك نفسك تنسى حذرَك المعتاد؟»
سأل سيمان بسرعة: «كيف؟»
«بينما كنت تنحني للجلوس الآن، رأيت بوضوح شكلَ مسدسك في جيبك. أنت تعرف جيدًا كما أعلم أنه مع اسمك وحقيقةِ أنك إنجليزي الجنسية فحسب، فمن الغباءِ غيرِ المبرَّر أن تحمل أسلحةً نارية في الوقت الحالي.»
دفع سيمان يده في جيبه وألقى بالمسدس على الطاولة.
واعترف: «أنت محقٌّ تمامًا.» واستطرد قائلًا: «اعتنِ به من أجلي. أخذتُه معي إلى أيرلندا؛ لأن المرء لا يعرف أبدًا ما قد يحدث في هذا البلد الرائع.»
ألقاه دوميني بلا مبالاةٍ في دُرج المكتب الذي كان يجلس إليه.
تابع سيمان: «أسلحتنا، من الآن فصاعدًا، يجب أن تكون أسلحةَ المكر والخديعة. سيكون علينا أنا وأنت، للأسف، أن نُقلِّل من رؤية أحدنا للآخر، يا دوميني. ومن المؤسف، من نواحٍ كثيرة، أننا لم نتمكَّن من إبعاد إنجلترا عن هذا الأمر لبضعة أشهر أخرى. ومع ذلك، يجب التعامل مع الوضع كما هو قائم. بقدرِ ما تشعر بالقلق، فقد أمَّنتَ نفسك عمَليًّا من الشك. ستحتفظ بمكان رائع ومعزول بين أولئك الذين يخدمون لورد الحرب العظيم. عندما أقترب منك، سيكون ذلك من أجل التعاطفِ والمساعدة ضدَّ شكوك هؤلاء الإنجليز أصحاب الرؤى البعيدة!»
أومأ دوميني.
سأل: «هل ستبقى الليلة؟»
أقر سيمان: «إذا سمحتَ لي.» وأضاف قائلًا: «هذه هي المرة الأخيرة لعدة أشهر التي يكون فيها من الحكمة أن نلتقيَ بهذه الحميمية. ربما سيُسجل صديقنا العزيز باركنز هذه المناسبة في ملاحظاته عن الكحول.»
قال دوميني: «بعبارة أخرى، أنت تقترح أن نشربَ نبيذ دوميني الألماني الأبيض الفاخر الخاص، ونبيذَ البورت الخاص بآل دوميني في صحة مجد بلادنا.»
ردَّد سيمان: «في صحة مجد بلادنا.» وأردف قائلًا: «فليكن يا صديقي. اسمع.»
كانت سيارةٌ قد مرَّت في الشارع أمام المنزل. كانت ثَمة أصواتٌ في القاعة، وطرْقٌ على الباب، وحفيفُ ملابس امرأة. أعلن باركنز، منزعجًا قليلًا، عن مجيء الزوار.
«أميرة إيدرستروم و… سيد محترم. قالت الأميرة إن رسالتها لك عاجلةٌ يا سيدي»، أضاف وهو يستدير معتذرًا لسيده.
كانت الأميرة بالفعل في الغرفة، يتبعها رجلٌ قصير يرتدي بذلةً سوداء قاتمة، وربطةَ عنقٍ بيضاء، ويحمل قبعةً سوداء مستديرة. ألقى نظرة خاطفة على الغرفة عبر نظارته السميكة، وعرَف دوميني أن النهاية قد حانت. أُغلقَ البابُ وراءهم. مضت الأميرة قليلًا إلى داخل الغرفة. كانت يدُها ممدودةً نحو دوميني، ولكن ليس لتحيته. أشار أصبعها الأبيض مباشرةً إليه. التفتت إلى رفيقها.
وسألت: «مَن هذا أيها الدكتور شميدت؟»
أجاب شميدت: «الرجل الإنجليزي، بحق الرب!»
كان الصمت الذي ساد عدةَ ثوانٍ عميقًا ومتسمًا بالانفعال. ربما كان دوميني أهدأ شخص في الأربعة. كانت الأميرة شاحبةً ومتَّسمة باضطرابٍ بدا وكأن كلماتها تفيض به.
صاحت: «إيفرارد دوميني، ماذا فعلتَ بحبيبي؟ ماذا فعلت بليوبولد فون راجاشتين؟»
أجاب دوميني: «لقي المصيرَ الذي كان قد أعَدَّه لي. تقاتلنا وانتصرت.»
«هل قتلته؟»
ردَّد دوميني: «قتلتُه. كانت مسألة ضرورة. جسده يرقد في قاع النهر الأزرق.»
«وحياتك هنا كانت كذبة!»
اعترض دوميني قائلًا: «على العكس من ذلك، كانت هي الحقيقة.» وتابع قائلًا: «لقد أكَّدتُ لكِ في فندق كارلتون، عندما تحدثتِ معي لأول مرة، وأكدتُ لكِ عشرات المرات منذ ذلك الحين، أنني إيفرارد دوميني. هذا اسمي. هذا أنا.»
بدا صوت سيمان وكأنه يأتي من مسافة بعيدة. في الوقت الحالي، لم يكن الرجلُ يمتلك الشجاعةَ ولا روحَ المبادرة. بدا وكأنه قد أُصيب بنوعٍ من السكتة الدماغية. كان عقله يعمل في الاتجاه العكسي.
تمتم: «جئتَ إليَّ في كيب تاون؛ كان لديك كلُّ رسائل فون راجاشتين، كنتَ تعرف تاريخه، وكان لديك التفويض الإمبراطوري.»
قال دوميني: «لقد تبادلنا أنا وفون راجاشتين الأسرارَ الأكثرَ حميمية في معسكره، كما يعلم الدكتور شميدت. أخبرته بتاريخي، وأخبرني بتاريخه. أما الرسائل والأوراق فأخذتها منه.»
غطَّى شميدت وجهَه بيدَيه للحظة. كانت كتفاه ترتفعان وتنخفضان.
قال منتحبًا: «رئيسي الحبيب!» واستطرد قائلًا: «سيدي العزيز المخلص! قتله ذلك الرجلُ الإنجليزي المخمور!»
قال دوميني بهدوء: «لم يكن مخمورًا كما تصورته، ولم يُسرف في الشرب، ولكنه كان قادرًا على انتشال نفسه عندما جاء الحافز العظيم.»
أخذَتِ الأميرة تنتقلُ بناظِرَيها من أحد الرجلين إلى الآخَر. كان سيمان لا يزال يبدو وكأنه رجلٌ يكافح من أجل تخليص نفسه من كابوسٍ ما.
قال متلعثِمًا: «شكِّي الأول والوحيد كان في تلك الليلة التي اختفى فيها وولف!»
اعترف دوميني: «مجيء وولف كان بالأحرى مأساة.» وأضاف قائلًا: «لحسن الحظ، كان لديَّ في المنزل رجل من الخدمة السرية كان قادرًا على التخلص منه.»
شهق سيمان: «هل كنت أنت مَن خطَّط لاختفائه؟»
أجاب دوميني: «بالطبع.» وأردف قائلًا: «لقد عرَف الحقيقة وكان يُحاول طَوال الوقت التواصل معك.»
تابع سيمان، وهو يرمش بعينيه بسرعة: «وماذا عن المال؟» وتابع قائلًا: «مائة ألف جنيه، وأكثر؟»
أجاب دوميني: «لقد فهمت أنها كانت هدية.» واستطرد قائلًا: «ومع ذلك، إن كانت المخابرات السرية الألمانية تهتمُّ برفع دعوى ومقاضاتي …»
قاطعَته الأميرة فجأة. بدت عيناها متقدتَين.
صاحت، وهي تمدُّ يدَيها نحو شميدت وسيمان: «ماذا بكما أنتما الاثنان؟» وأضافت قائلةً: «هل أنتما مخلوقان من كُتَل من التراب — من غبار — مخلوقان بلا شجاعةٍ وذكاء؟ هل بوُسعكما أن تدَعاه يقف هناك … الرجل الإنجليزي الذي قتل حبيبي، الذي خدعَكما؟ تدَعانه يقف هناك ويسخر منكما، دون أن تفعلا أو تقولا شيئًا! هل حياته شيء مقدَّس؟ ألديه أيٌّ من أسراركما في عُهدته؟»
تأوَّه سيمان وعلا وجهَه رعبٌ شاحب مفاجئ: «يا إلهي! لديه مذكرات الأمير! لديه خريطة القيصر!»
أجاب دوميني: «على العكس، كلاهما مودَع في وزارة الخارجية. نأمُل أن نجدهما مفيدتين جدًّا في وقتٍ لاحق.»
وثب سيمان إلى الأمام مثل النَّمر وسقط متكومًا على الأرض؛ إذ قُوبلت وثبته بقبضة دوميني المندفِعة. انسلَّ شميدت عبر الغرفة، ومن تحت ثَنْية ساق بنطلونه كان شيء يلمع.
صاحت الأميرة بغضب، عندما تردَّد كِلا المهاجمَين: «أنتما اثنان في مواجهة واحد!» وأردفت قائلةً: «ليت كان معي سلاح، أو كنتُ رجلًا!»
علَّق صوتٌ جزل من النافذة: «أميرتي العزيزة، أظن من ناحيةٍ أخرى أننا أربعة في مواجهة اثنين، أليس كذلك؟»
وقف إيدي بيلهام، ويداه في جيبَيه، عند الممرِّ ذي النافذة، وعلى وجهه الذي يخلو عادةً من أي تعبير، بريقُ تأهُّب. من ورائه، تسلَّل رجلان بهيئةٍ مخيفة إلى الغرفة. لم يحدث قتالٌ ولا حتى صراع. في لحظةٍ قُيِّدَت يدا سيمان، الذي لم يكن قد تعافى مطلقًا من صدمةِ دهشته، وكان حينئذٍ فاقدًا أعصابَه تمامًا، وجُرِّد شميدت من سلاحه. كان الأخير أولَ مَن كسر حاجز الصمت الغريب.
سأل: «ما الذي فعلتُه؟» وتابع قائلًا: «لماذا أُعامَلُ على هذا النحو؟»
سأل إيدي بسرور: «أنت الدكتور شميدت؟»
كان الرد العنيف: «هذا اسمي يا سيدي.» واستطرد قائلًا: «لقد أتيتُ للتو من شرق أفريقيا. لم نكن نعرف شيئًا عن الحرب عندما انطلقنا في رحلتنا. جئت لفضحِ ذلك الرجل. إنه محتال، قاتل! لقد قتل رجلًا ألمانيًّا نبيلًا.»
شهق سيمان: «لقد عاب في الذات الملَكية!» وأضاف قائلًا: «لقد خدع القيصر! لقد تجرأ على الجلوس في حضرته بصفته البارون فون راجاشتين!»
نظر الشابُّ الذي يرتدي البذلة البيضاء إلى دوميني وابتسم.
قال: «أنتما الاثنان لا تقصدان أن تكونا مضحِكَين، ولكنكما كذلك.» وأردف قائلًا: «أولًا، لدينا الدكتور شميدت يتَّهم السير إيفرارد هنا بأنه محتالٌ لأنه انتحل اسمَه هو نفسه؛ ويتَّهمه بقتل رجلٍ خطَّط بدمٍ بارد — وأنت مشاركٌ في ذلك، بالمناسبة، يا شميدت — لقتله؛ ثم لدينا صديقُنا هنا، سكرتير الجمعية التي تروِّج لتحسين العلاقات بين رجال الأعمال في إنجلترا وألمانيا، يشتكي لأنَّ السير إيفرارد نفَّذ في ألمانيا، من أجل إنجلترا، بالضبط ما كان يعتقد أن البارون فون راجاشتين كان يُنفِّذه هنا … من أجل ألمانيا. أنتم عِرق غريب بطيء الفهم، أيها الألمان.»
صاح شميدت: «أطالب مجددًا بأن أعرف بأيِّ حقٍّ أعامَل كمجرم؟»
أجاب إيدي ببرود: «لأنك مجرم.» وتابع قائلًا: «لقد خطَّطتَ أنت وفون راجاشتين معًا لمقتل السير إيفرارد دوميني في شرق أفريقيا، وأمسكت بك للتو تتسلَّل وبيدك سكين. ذلك كافٍ لك. هل لديك أيُّ أسئلة، يا سيمان؟»
كان الرد الشرس: «لا.»
علَّق الشاب بهدوء: «كم أنت حكيم.» واستطرد قائلًا: «خلال اليومين الماضيَين، جرى تفتيش منزلك في فورست هيل ومكاتبك في لندن وول.»
قال سيمان: «لقد قُلتَ ما فيه الكفاية.» واستطرد قائلًا: «انقلبت الأقدارُ ضدي. أشكر الرب على أن سيدي لديه خدمٌ أكثر قدرةً مني، ولديه القوة لسحق جزيرة المتغطرسين والأغبياء هذه!»
غمغم إيدي بنبرةٍ قاسية: «متغطرسين … يبدو هذا قاسيًا.» وأضاف قائلًا: «ومع ذلك، لنستكمل هذه المسألة الصغيرة» أضاف، مستديرًا إلى أحد مرءوسيه. «ستجد سيارةً عسكرية في الخارج. اصطحب هذَين الرجلين إلى غرفة الحراسة في ثكنات نورويتش. لقد رتبتُ حراسةً لاصطحابهم إلى المدينة. أخبِر العقيد بأنني سأنتهي في وقتٍ لاحقٍ اليوم.»
نهضت الأميرةُ من الكرسي الذي كانت قد هوَتْ عليه قبل لحظات قليلة. استدار دوميني نحوها.
وقال: «أيتها الأميرة، يمكن أن يكون ثمة محادثةٌ قصيرة بيننا. ومع ذلك، سأطلب منكِ أن تتذكري هذا. لقد خطَّط فون راجاشتين لموتي بدم بارد. كان بإمكاني قتلُه مثل سفاح، دون أدنى مخاطرة، لكنني فضَّلت مواجهتَه وجهًا لوجه، هذه هي الحقيقة. كانت حياته مقابل حياتي. قاتلتُ من أجل بلدي، كما فعل من أجل بلده.»
نظرَت إليه الأميرة بعينين متألقتين.
قالت: «سأكرهُك حتى نهاية حياتي؛ لأنك قتلتَ الرجل الذي أحبُّه، لكن رغم أنني امرأة، فأنا أعرفُ العدل. كنتَ شهمًا معي. لقد عاملتَ ليوبولد ربما أفضلَ مما كان سيُعاملك. أدعو الربَّ ألا أرى وجهك مرةً أخرى. تفضَّل واتركني أغادر هذا المنزل في الحال دون حراسة.»
فتح دوميني النوافذَ التي تؤدي إلى الشرفة وتنحَّى جانبًا. مرت به دون أن تُلقي نظرةً عليه واختفت. جاء إيدي يتمشَّى على الشرفة بعد لحظات قليلة.
وقال: «يا لهما من عجوزَين لطيفَين هذان الاثنان، يا عزيزي.» وأردف قائلًا: «عرَض سيمان للتو على فورسيث، تابِعي القويِّ البِنية الذي كان يرتدي بذلة زرقاء من الصوف، مائةَ جنيه لإطلاق النار عليه بحجةِ أنه كان يهرب.»
«وماذا عن شميدت؟»
«أصرَّ على حقوقه كضابط وطالبَ بالجلوس في المقعد الأمامي والحصول على سيجارٍ قبل التحرك بالسيارة! عمل رائع، يا دوميني، ومرتَّب بدقة.»
كان دوميني يُراقب الغبار الناجم عن السيارتين اللتين كانتا تختفيان في الشارع.
سأل: «أخبرني، يا إيدي، ثَمة شيء واحد لطالما كنتُ أشعر بالفضول بشأنه. كيف تمكنتَ من حبس هذا الرجل وولف عندما لم تكن ثَمة حربٌ دائرة، ولم يكن يخالف القانون؟»
ابتسم الشاب.
واعترف: «كان علينا أن نتصرف في هذا الشأن، يا عزيزي.» وتابع قائلًا: «مخطَّطات حصن، حسنًا؟»
سأل دوميني: «هل تقصد أن تقول إنه كان معه مخططات لحصن؟»
قال الشابُّ: «صورة بطاقة بريدية لقلعة نورويتش، ولكن أبقِ الأمر سرًّا. هل يمكنني تناول مشروب قبل أن أستقل السيارة؟»
•••
انتهَت اضطرابات اليوم، ووجد دوميني، بعد فورةٍ صامتة ولكن عاطفية من الامتنان على انتهاء هذا التحفُّظ غير الطبيعي من حياته، أن كل أفكاره كانت متعلقةً بالصراع الذي كان يدور في حجرة النوم أعلاه. نزل الطبيب العجوز وانضمَّ إليه وقت العشاء. قابل نظرةَ دوميني المتلهفة بإيماءة صغيرة.
وأعلن: «إنها بخير.»
«هل أُصيبت بحُمى أو أي شيء؟»
«يا إلهي، لا! ستكون في صحة جيدة جسديًّا في أقربِ وقت ممكن. يمكنني أن أقول لك إنها ستصبح امرأة مختلفة عما كانت عليه في هذا الوقت من العام الماضي. عندما تستيقظ، إما أن تكون على طبيعتها مرة أخرى، دون أي وهمٍ من أي نوع، أو أن …»
توقَّف الطبيب، وارتشف نبيذه، وأفرغ كأسه ووضعها باستحسان.
ألحَّ دوميني: «أو ماذا؟»
«أو أن هذا الجزء من دماغها سوف يتأثر تأثرًا دائمًا نوعًا ما. ومع ذلك، آمُل في حدوث الأفضل. حمدًا للرب أنك موجود!»
انتهيا من عَشائهما في صمت تقريبًا. وبعد ذلك، دخَّنا السيجار لبضع دقائق في الشرفة. ثم شقَّا طريقهما بهدوء إلى الطابق العلوي. ترك الطبيب دوميني عند باب غرفة الأخير.
قال: «سأبقى معها لمدة ساعة أو نحو ذلك.» واستطرد قائلًا: «بعد ذلك سأتركها بمفردها تمامًا. هل ستكون هنا في حالة حدوثِ تغيير؟»
وعد دوميني: «سأكون هنا.»
•••
مرَّت دقائقُ وساعات، غير معدودة، دون أن يشعر بها. جلس دوميني على كرسيِّه المريح، تكتنفُه موجةٌ مضطربة من المشاعر العاطفية. عادت إليه ذِكرى تلك الأيام الأولى من عودته بكل شوقها المؤلم. شعر مرةً أخرى بالتمزُّق ذاتِه في أوتار القلب، نفس الرقة الغريبة والمثيرة للأعصاب. بدَت مأساة العالم العظيمة، التي كان يعلم أنه أيضًا، بالتأكيد، سيستمرُّ في لعب دوره فيها، وكأنها شيءٌ بعيد جدًّا، وكأنها شأنُ عِرقٍ آخَر من الرجال. بدَت كل ذرةٍ فيه منسجمة مع سحرِ وموسيقى أملٍ وحيد جامح. ومع ذلك، عندما جاء ما كان يستمع إليه مدةً طويلة، بدا أن الأمل قد تجمَّد وصار خوفًا. جلس منحنيًا قليلًا إلى الأمام على كرسيه المريح، ويداه ممسكتان بجانبَيه، وعيناه مثبتتان على الشق الذي أخذ يتَّسع ببطء في اللوح. صار كما كان من قبل. انحنت إلى أسفل، وانتصبَت مرةً أخرى، وتوجَّهت نحوه. من الخلف، أغلقت يدٌ خفيةٌ اللوح. أتت إليه وذراعاها ممدودتان وعيناها اللامعتان بهما كلُّ روعة الحياة والحب. اختفى ذلك الأثر البسيط للسير أثناء النوم. جاءت إليه كما لم تأتِ من قبل. كانت امرأةً حقيقية وحيوية للغاية.
صاحت: «إيفرارد!»
أخذها بين ذراعَيه. في أول قُبلة لهما، شعرت بسعادة غامرة تعتريها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. وضعت رأسها على كتفه للحظة.
واعترفَت: «أوه، لقد كنتُ سخيفة جدًّا!» وأضافت قائلةً: «مرت عليَّ أوقاتٌ لم أصدِّق فيها أنك أنت إيفرارد؛ زوجي! والآن أنا أعلم.»
مرةً أخرى قبَّلَت شفتيه؛ شفتيه الظمآنتَين برغبةِ سنين. عبر الرَّدهة، توجَّه الطبيب العجوز بهدوء إلى غرفته وابتسامةٌ سعيدة تعلو وجهَه.