قسطنطين
تُوفِّيت زوجة الأمير برانكومير منذ عامين، وكانت امرأةً من النساء الصَّالحات القانتات ذوات النفوس العالية والهمم الكبرى، فورث ابنها قسطنطين عنها هذه الأخلاق الكريمة، كما ورث عن أبيه صفات الشجاعة والعزيمة والصبر واحتمال المكاره في سبيل خدمة الوطن والأمَّة، فكان خير ابن لخير أبٍ وأمٍّ، وكان يدَ أبيه اليمنى ودِرْعه الواقية الأمينة في جميع وقائعه ومشاهده، حتى ذاع صيته في جميع أنحاء المملكة، وأحبَّه الشعب والجند حُبًّا كاد يرفعه إلى ما فوق منزلة أبيه، لولا حرمة الأبوة وجلال الشيخوخة ومكان التاريخ، فلما ماتت أمُّه تزوج أبوه من بعدها فتاةً يونانية اسمها بازيليد، يقال: إنها من سلالة قياصرة بيزنطية «القسطنطينية».
وهي فتاةٌ جميلةٌ ساحرةٌ تستهوي القلوب وتختلب الألباب، ذاتُ نظراتٍ غريبةٍ لامعةٍ يقضي المُتفرِّس فيها حين يراها أنها نظراتٌ مريبةٌ ألفت الاختِلاب والافتتان من عهدٍ بعيد، فنزلت من قلب القائد الشيخ منزلةً لم ينزلها منه أحدٌ من قبلها ولا من بعدها، حتى زوجته الصالحة وولده النجيب، فأصبح مُستَهامًا بها، مُسْتَسلمًا إليها، لا يصدع إلَّا بأمرها، ولا يَصدُر إلا عن رأيها، ولا يرى حُلو العيش وجماله إلا بجانبها، ولا يستروح رائحة السعادة والهناء إلا إذا هبَّت عليه من ناحيتها.
وكانت امرأةً طموحًا متطلعةً لا يعنيها من شئون حياتها إلا مظاهر السُّؤدد والعظمة، ولا يغلب على مشاعرها وعواطفها إلا ذكرى تاريخ آبائها وأجدادها، ومصارع قومها في «بيزنطيَّة» بيد الأتراك الفاتحين، وكانت لا تزال تتحدَّث في مجالسها العامَّة والخاصة بنبوءةٍ قديمة تنبَّأ لها بها بعض المُتنبِّئين، ومجملُها أن كاهنًا عرَّافًا دخل منزل أبيها وهي طفلةٌ لعوبٌ لا تزال تحوم حول مهدها، فنظر إليها طويلًا ثم قال لأمها: إن ابنتك هذه ستكون ملكةً عظيمة الشأن في مستقبل أيامها. وربما كان اهتمامها بهذه النبوءة واحتفالها بها وتصديقها إياها هو السبب في قبُولها الزواج من شيخٍ هرمٍ مُدْبر قلما يُعنَى بمثله مثلُها، على أمل أن تحقق لها الأيام على يديه آمالها وأمانيها.
فظلَّت تغرس في نفسه هذه الأمنية الجميلة المحبوبة مدةً من الزمان، وتسقيها بماء حسنها وجمالها، حتى ملأت بها فضاء قلبه، وشغلته بها عن كُلِّ شاغلٍ سواها.
ولم يزل هذا شأنها معه حتى مات الملك ميلوش، وجاءت السَّاعة التي تنتظرها، فهتفت به: ها قد حانت الفرصة التي كنا نرقُبُها، وها قد بدأت تتحقق نبوءة ذلك العراف الخبير التي تنبأ لي بها، وما هو بالكاذب ولا المتخرِّص. ثم زجَّت به في طريق مزاحمة الأسقف أتين على المُلْك، فانقاد لها ومشى في الطريق التي رسمتها له، وأخذ يدعو الناس لنفسه، ويستكثر من سواد أشياعه وأنصاره، ويُداخل أعضاء الجمعية الوطنية ويُداهنهم ويتوسَّل إليهم أن يساعدوه على نيل أمنيته التي يرجوها، مُدلًّا بمكانته من خدمة الأمة والوطن، وأياديه في الذود عنهما، وبما بذل من صحته وشبابه في مقاتلة الأعداء ومدافعتهم تلك السنين الطوال حتى اشتعل رأسه شيبًا، ولمست قدماه رأس المنحدر المؤدِّي إلى القبر.
هذا ما كان يشغل القائد وزوجته في ذلك التاريخ، أما ابنه قسطنطين فكان بمعزلٍ عن هذا كله، فإن وفاة أمه التي كان يحبها حبًّا شديدًا تركت في نفسه أثرًا من الحزن لا يبلى، وملأت فضاء حياته همًّا ونكدًا، وكان يجد بعض العزاء عن ذلك الهمِّ الذي نزل به في حنان أبيه عليه وعنايته به، حتى تزوَّج من تلك المرأة اليونانية وأسلم إليها نفسه وقلبه، ففَقَدَ بفَقْدِ عَطْفِ أبيه عليه وحنان أمه كلَّ أملٍ له في الحياة، وأصبح يشعر في نفسه بذلة اليُتم التي يشعر بها أولئك المساكين المنقطعون الذين لا يجدون بين أيديهم قلوبًا راحمةً، ولا أفئدةً عاطفة!
فكان يخاطر بنفسه في المعارك التي يحضرها مخاطرة اليائس المستقتل، راجيًا أن يُريحه الموت من هموم نفسه وآلامها، فزجَّ بنفسه ذات يومٍ في معركةٍ كبرى استبسل فيها استبسالًا عظيمًا، واستقتل معه جُنْدُه يطلبون الموت حيث يطلبه، فلم يبلُغ أمنيته التي يتمناها، ولكنه انتصر في تلك المعركة انتصارًا باهرًا، وأنقذ من يد الترك شِعْب «تراجان» — وكان الملجأَ العظيم لهم، والمركز الأكبر لحركاتهم وأعمالهم.
وإنه ليتأثَّرُ الجيش المنهزم ويشتدُّ في أعقابه إذ لمَحَ على البعد فارسًا تُركيًّا قابضًا بيده على شعر فتاةٍ مسكينة؛ يريد اقتسارها وإكراهها على الركوب معه، وهي تمتنعُ وتتأبَّى وتحاول الإفلات من يده، فيضربها بسوطه ضربًا مؤلمًا وجيعًا، فأزعجه هذا المنظر وآلمه، فركض جواده حتى أدرك ذلك الفارس فضربه على هامته بسيفه ضربةً قضت عليه، فركعت الفتاة بين يديه ضارعةً تسأله أن ينقذها من شقائها ويقودَها معه إلى حيث يشاء، فرثى لحالها وأحزنه منظرها دون أن يعلم من أمرها شيئًا، فأردفها خلفه وركض بها حتى بلغ موضعَ الخيام، فتركها بين الأسرى، وعاد من تلك الموقعة ظافرًا منصورًا يُهنِّئه الشعب ويهتف له في كل مكانٍ يمر به، حتى وصل إلى القلعة الكبرى، فدخل على أبيه وألقى بين يديه الأعلام التي غنمها في المعركة، فأمر برانكومير بقتل الأسرى، وكان ذلك شأنه فيهم كُلَّما قُدِّموا إليه، حتى جاء دور الفتاة، فجثت بين يديه ومدَّت إليه يدها مستغيثة تطلب العفو وتقول له: إنها فتاةٌ نَوَرِيَّةٌ مسكينةٌ لا شأن لها في الحرب ولا علاقة لها بأهله، وإن أمها باعتها منذ عامين من جندي تركي أساء عشرتها وعذَّبها عذابًا أليمًا، حتى قيض الله لها هذا الفتى الكريم فاستنقذها من يده. وأشارت إلى قسطنطين.
فركَع قسطنطين بجانبها وسأل أباه العفو عنها وقال له: إنني قد أنقذت حياتها بالأمس، فأنقذ أنت حياتها اليوم واجعلها حصتي الوحيدة من الغنيمة، وأعدك أني لا أطلب غنيمةً سواها. فأحفَظَ ذلك قلب الأميرة بازيليد زوج أبيه، وكانت حاضرةً تسمع حديثه، فنظرت إليه نظرة الازدراء والاحتقار — وكان هذا شأنها معه كلما التقت به — وأنشأت تنعي عليه اهتمامه بشأن فتاةٍ نوريةٍ راقصةٍ طريدةِ غاباتٍ وفلوات، وربيبة حاناتٍ ومعسكرات، وقالت له: لقد كان جديرًا بك وأنت ذلك الجنديُّ الشريف سليل ذلك القائد العظيم، والأمير الجليل، أن تلقي بمثلها إلى حارسٍ من حراس بابك، أو جنديٍّ من جنودك يتلهَّى بها كما يتلهَّى الكلب بالعظمة المطروحة تحت أرجله، بدلًا من أن تصل حياتك الشريفة الطاهرة بحياتها الدنيئة السَّاقطة!
فثارت ثورة الغضب في نفسه، وأضغنه عليها هذا الرياء الكاذب، والشَّرف المُتكلف، وكان يعلم من شئون نفسها وخبايا قلبها ما لا تظن أنه يعرف شيئًا منه، فنظر إليها نظرةً شزراء ملتهبة، وقال لها وهو يعلم أن ما سيقوله سيُغضبها ويؤلمها ويملأ صدرها غصَّةً وحنقًا: إن الله لم يخلق الضعفاء والمساكين ليكونوا ترابًا لنا تدوسه أقدامنا، وتطؤه نعالنا كلما وجدنا إلى ذلك سبيلًا، ولم يمنحنا القوة والعزة لنتخذ منهما أسواط عذابٍ نمزق بها أجسامهم، ونستنزف بها دماءهم، وكل ذنوبهم عندنا أنهم أذلاء مستضعفون لا يملكون من القوة والعزة مثلَ ما نملك، ولا يذودون عن أنفسهم بمثل ما نذود، وأحسب أنهم لو كانوا أقوياء أو أعزَّاء مثلنا، أو أعز وأقوى منا؛ لخفناهم واتَّقينا جانبهم، ونظرنا إليهم بعينٍ غير العين التي ننظر بها إليهم اليوم؛ لأن القويَّ الذي يتنمَّر على الضعفاء لا بد أن يكون جبانًا ذليلًا أمام الأقوياء.
إننا الآن في حربٍ مع عدو قاهرٍ جبارٍ ننقم منه جوره وظلمه واستضعافه إيانا، واستطالته علينا بقُوَّته وكثرته، فجديرٌ بنا ألا نفعل ما ننقمه منه ونأخذه به، عسى أن يرحمنا الله وينظر إلينا بعين عدله وإحسانه، وينتصف لضعفنا من قوته، وقلتنا من كثرته!
إنَّا لا نحمل هذه السيوف على عواتقنا لنقتل بها النساء والأطفال والضُّعفاء والعزَّل الذين لا سلاح لهم ولا قُوَّة في أيديهم، بل لنقارع بها الأبطال والأكفاء في ميادين الحروب ومواقف النزال.
إني لا أعرف شرفًا غير شرف النفس، ولا نسبًا غير نسب الفضيلة، وإنَّ هذه البائسة المسكينة التي تحتقرونها وتزدرونها لم تصنع ذنبها بيدها، ولا سعت إليه بقدمها، بل هكذا قدر لها أن تنبت في هذا المنبت القذر الوَبيء، فوَبِئتْ وقذرت، وليس في استطاعتها أن تعود إلى العدم مرةً أخرى لتخلق نفسها خلقًا جديدًا في جوٍّ غير هذا الجو، وتربةٍ غير هذه التربة، فما هو ذنبها؟ وما هي جريمتها؟ وأي حيلةٍ لها في هذا المصير الذي ساقها القدر إليه؟
إنما الإثم على الذين يقترفون الذنوب وهم يعلمون مكانها من الرَّذيلة، ومكان أنفسهم من اقترافها، ويُحوِّلون زمام حياتهم بأيديهم من طريق الخير إلى طريق الشر، إيثارًا لها وافتتانًا بها، أولئك هم الآثمون المذنبون الذين يجدر بنا أن نقسو عليهم ونشتد في مؤاخذتهم. أما الضعفاء والمساكين الذين لا حول لهم في شأن أنفسهم ولا حيلة، فهم برحمتنا وعطفنا أحق منهم بعَتْبنا ولَوْمنا، فإن وجدنا السبيل إلى مُعاونتهم ومساعدتهم واستنقاذهم من وهدة الشقاء التي هووا فيها فذاك، أو لا؛ فلنَدَعْهم وشأنهم تذهب بهم المقادير حيث شاءت من مذاهبها، ولا نزدهم بكبريائنا واستطالتنا بؤسًا على بؤسهم، وشقاءً على شقائهم.
إننا ما أُصبنا بما أُصبنا به من هذه النكبة الشعواء والداهية الدَّهياء التي نزلت بنا منذ عشرة أعوامٍ ما تفارقنا ولا تهدأُ عنا إلا من ناحية كبريائنا وخيلائنا واعتدادنا بأنفسنا في جميع شئوننا وأعمالنا، واحتقار غَنِيِّنا لفقيرنا، وقوينا لضعيفنا، وسيِّدنا لمَسُودنا، فسلط الله علينا ذلك العدو القاهر الذي لا يعتمد في جميع شئونه ومواقعه إلا على قوته وأيْده؛ لأننا لم نعتمد في يومٍ من أيام حياتنا في جميع صلاتنا وعلائقنا إلا على قُوَّتنا وأيْدنا، والجزاء من جنس العمل وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
فاصفرَّ وجه بازيليد واربدَّت شفتاها، وكأنما خُيِّل إليها أنه يلمزها ويريبها ويشير في حديثه إلى ماضيها القديم وحوادث صباها السالفة، فصمتت ولم تقل شيئًا، إلا أنها انتحت ناحيةً وأخذت تبكي وتنتحب — والدموع هي السلاح الوحيد الذي تعتمد عليه المرأةُ في جميع شئونها وعلائقها — فعظم الأمر على برانكومير، وأكبر أن يخاطب ولده زوجته المحبوبة هذا الخطاب الجافي الغليظ، فأنحى عليه باللائمة الشديدة وقال له: إنك لم تسئ إلى نفسك في تنزُّلك إلى حماية هذه النورية الساقطة واهتمامك بشأنها، بقدر ما أسأتَ إلى أبيك في مجابهة زوجته ومغايظتها، وسوء الرد عليها بهذه اللهجة الشديدة القاسية. ولولا هذه الرايات الحمر التي ألقيتها اليوم تحت قدمي بأهلَّتها البيضاء لما اغتفرت لك هذه الجريمة التي اجترمتها، فاذهب لشأنك ولا تعُدْ إلى مثلها.
وكذلك تم لقسطنطين ما كان يريده من إنقاذ تلك الفتاة المسكينة من يد الموت بعدما أنقذها من يد الشقاء، فذهب بها إلى الجناح الذي يسكنه من القلعة، وجلس إليها يحادثها في شأنها وشأن ماضيها، ويُسائلها عن دينها ومذهبها ووطنها وقومها، فلم يرَ بين يديه إلا فتاةً ساذجةً جاهلةً لا تعرف لها وطنًا ولا بيئةً، ولا تدين بدينٍ من الأديان ولا مذهبٍ من المذاهب، ولا تفهم من شئون حياتها إلا أنَّها فردٌ مبهمٌ من أفراد هذا المجتمع المائج المضطرب، تمتدُّ بامتداده وتنحسر بانحساره، لا تعرف الآمال ولا تفكر في المستقبل، ولا تحفل بالماضي، ولا يتسع عقلها لأكثر من الساعة التي تعيش فيها، ولا تتألم إلا كما يتألم الأطفال، ولا تفرح إلا كما يفرحُ المجانين، قد صفت نفسها من كل شائبةٍ من شوائب النفوس البشرية، فلا تحقدُ ولا تغضب، ولا تكره ولا تحسد، ولا تطمع ولا تتطلَّع، ولا تشغل ذهنها بترتيب الصور والأفكار واستنتاج النتائج من المقدمات، فأصبح ينظر إليها نظر الأب الرحيم إلى طفله اللاعب بين يديه، وأصبحت تجلس تحت قدميه جلسة الكلب المخلص تحت قدمي سيده، لا تحدثه حتى يحدثها، ولا ترفع نظرها إليه حتى يناديها.
وكان يقول في نفسه كلما نظر إليها وإلى سذاجتها وطهارتها، وبلاهة عقلها وغفلته: أهكذا قُضي على الإنسان في هذه الحياة ألا تخلص نفسه من شوائب الرذيلة والشر حتى يسلب عقله وإدراكه قبل ذلك، وألا يُمنح مقدارًا من الصدق والشرف حتى يحرم في مقابله مقدارًا من الفطنة والذكاء، فليت شعري هل عجزت الطبيعة عن أن تجمع للمرء بين هاتين المَزيَّتين: مزية العقل الذي يعيش به، والخُلُق الذي يتحلَّى بحليته، أو أن لله في ذلك حكمةً لا نعلمها ولا ندرك كنهها؟
وكأنما كان يشعر في نفسه باقتداره على أن يجمع لتلك الفتاة المسكينة بين هاتين الفضيلتين، وأن يصوغ من نفسها ذلك المثال الغريب الذي عجزت يد الطبيعة عن صياغته، فبدأ يهتم بشأنها اهتمامًا عظيمًا، ويتبسَّط معها في الحديث تبسط النظير مع نظيره، ذاهبًا معها في كل وادٍ من أوديته، معنيًّا كل العناية بتثقيفها وتعليمها وإنارة ما أظلم من بصيرتها، ولكن بأسلوبٍ غير الأسلوب الذي كان يعلِّمه به معلمه في المدرسة، فأرشدها إلى وجود الله، لا من طريق البراهين الجدليَّة والقضايا الكلامية، بل من طريق الآثار والمصنوعات الناطقة بجمالها ولطف تكوينها عن قدرة صانعها وإبداع خالقها، وأرشدها إلى الفضيلة من طريق الفضيلة نفسها لا من طريق الترغيب في الثَّواب والتخويف من العقاب؛ ليكون أدبها أدب نفسٍ لا أدب درسٍ، ولتمتزج الفضيلة بنفسها امتزاجًا لا تزعزعه عواطف اليأس ولا عوامل الرجاء، فكانت تعجب لحديثه ومراميه عجبًا شديدًا، وتجد فيه من اللذَّة والغبطة ما لا تذكر أنها شعرت بمثله في حياتها في حديث أي متحدثٍ يتحدَّث إليها، وتعجب أكثر من كل شيء لتنزُّل مثل هذا الأمير الجليل والسيد الشريف إلى مجالستها ومُثافَنَتها، والنزول على حكمها فيما يُغضبها ويُرضيها، فقالت له مرةً وهي تحاوره: إنك تحدثني يا مولاي كأنك لا تعرف من أنا، قال: إني أعرفك كما تعرفين نفسك، وأعرف أنك أختي في الإنسانية، وهي الأم الرءوم التي لا يستطيع أحدٌ من بنيها أن يَمُتَّ إليها بأكثر مما يمتُّ به إخوتُه، وما للأخت ملجأ تلجأ إليه في شدتها غير عطف أخيها وحنانه عليها، قالت: ولكنك تعلم أنِّي فتاةٌ مذنبة ساقطة، قال: كل الناس مذنبون آثمون، وإنما تختلف صور الذُّنوب وأشكالها وأساليب اقترافها، قالت: لم أر في حياتي مذ نشأت حتى اليوم عفيفًا قطُّ ابتسمَ في وجهي! قال: ذلك لأن الناس مراءُون مخادعون يزعمون لأنفسهم من الفضائل والمزايا ما تنكره نفوسهم عليهم، فهم يحتقرون المذنب ويزدرونه؛ لا لأنهم أطهارٌ أبرياءٌ كما يزعمون، بل ليوهموا الناس أنهم غير مذنبين، ولو أنهم تكاشفوا وتصارحوا، وصدَق كلٌّ منهم صاحبه الحديث عن نفسه لتتاركوا وتهادنوا، ولما آخذ أحدٌ منهم أحدًا بذنبٍ ولا جريرة!
وكذلك أصبحت ميلتزا العزاء الوحيد لقسطنطين عن همومه وآلامه، فقد وجد بين جنبيها تلك النفس الطَّاهرة البريئة التي طالما نشدها قبل اليوم فأضلَّها، وتطلَّبها فأعياه طلابها، ووجد في صدرها ذلك القلب المحبَّ المخلص الذي بكاه وندبه ندبًا شديدًا يوم ماتت أمُّه، ويوم تولَّى عنه حنان أبيه، وكان يتحدَّث معها في كل شيءٍ من شئون الحياة دقيقها وجليلها، ويُفضي إليها بكل خبيئة من خبايا نفسه، إلا ذلك الهم العظيم الذي كان يُعالجه في أطواء نفسه وأعماقها، ويكابد منه ما يقلق مضجعه ويصل ليله بنهاره؛ وهو استحالة حال أبيه، وانتفاض قلبه عليه، وانقياده ذلك الانقياد الأعمى إلى تلك الفتاة اليونانية الدخيلة التي لا يعنيها من شأنه سوى أن تتخذ من عاتقه سلمًا تصعد عليه إلى سماء المجد، ثم لا تبالي بعد ذلك أن تدفعه بقدمها بعد بلوغ غايتها، فيسقط في الهوة التي قُدِّر له أن يهوِي فيها، إلَّا أن ميلتزا الذكية بفطرتها، المتفانية في حبها وإخلاصها، لم يكن يفوتها أن ترى بعين فطنتها وذكائها في تلك الزاوية المظلمة من زوايا قلبه ذلك الهمَّ الخفيَّ المُكتَنَّ، وكان يساعدها على فهمه واستكناهه تلك الأحاديث التي كانت تسمعها تدور من حينٍ إلى حينٍ بين القائد وزوجته، عندما كانا يمران بها أو يقفان على مقربةٍ منها وهي جالسةٌ تحت بعض الجدران، أو في ظلال بعض الأشجار لا يحفلان بها ولا يُلقيانِ لها بالًا.
فقد سمعته مرةً يقول لها: إنني أحبك يا بازيليد حب المرء نفسه التي بين جنبيه، ولقد عشت حياتي كلَّها قانعًا من العيش بتلك اللذة الوحشية الدموية، لذَّة القتل والأسر وسفك الدماء وتقطيع الأوصال، حتى رأيتُك تتطلعين إلى تاجٍ المُلك، وتشتهين أن تضعيه فوق رأسك، فأحببته من أجلك، وأصبحتُ لا أقترح على الدهر أمرًا سوى أن أرى تلك الجبهة اللامعة المضيئة يتلألأ فوقها ذلك التاج المرصع البديع، فلا تيأسي منه ولا تقنطي، واعلمي أنني سآتيك به وإن كان كوكبًا نائيًا في آفاق السماء، أو درَّةً راسبةً في أعماق البحار.
وسمعتها مرةً تقول له: ما أجمل وجهك يا برانكومير! وما أبدع ضياءه ولألاءه! وما أنصع هذه الشُّعور البيضاء التي تدور به دورة الهالة بالقمر! وما أجمل تاج المُلْك يوم يوضع على رأسك فتتَّحد الأضواء الثلاثة جميعها، ويموج بعضها في بعضٍ فتتراءَى في أجمل شكلٍ وأبدع منظر! إنَّك ستكون ملكًا يا مولاي، وستكون أعظم ملوك العالم شأنًا، وأرفعهم مقامًا، وستجتمع فوق عرشك الرفيع الأمجاد الثلاثة: مجد النَّسب، ومجد الحروب، ومجد الملك. وقد ألقى الكاهن في نفسي كلمته التي تنبَّأ لي بها، وما هو بالكاذب ولا المجنون، فكُن على ثقةٍ من صدقه وحكمته، واعلم أنه ليس بينك وبين التَّاج إلا خطوةٌ واحدة، فاخْطُها بهمَّةٍ وعزيمة تبلغ الغاية التي تريد.
وسمعتها مرةً تقول له: إنني لا أخاف على أملنا أحدًا من الناس سوى ولدك قسطنطين، فقد علمت أمس من بعض أصدقائه أنه يُنكر عليك كلَّ الإنكار هذا المسعى الذي تسعاه اليوم، كما سمعت أنه يُثبِّط الناس عنك ويزحزحهم من حولك، ويُلقي في قلوبهم اليأس من نجاحك. ولقد حدَّثني عنه بعض الناس أن ذاكرًا ذكر له مرةً ولاية العهد مُهنِّئًا إياه بها، فغضب واحتدَّ وتغيظ عليه تغيظًا شديدًا وقال له: «إنني جنديٌّ ولدت في ساحة القتال وسأموت فيها.» وإن كلمةً كهذه الكلمة المؤثرة يقولها أميرٌ مطاعٌ في الجيش والشعب كولدك لا بد أن تترك أثرًا سيئًا في نفوس الناس جميعًا، وتفت في عضد أنصارك وأعوانك، وربما كانت سببًا في القضاء على آمالك وأمانيك، ولا أعلم لخطَّته هذه سببًا سوى ذلك البغض الشديد الذي لا يزال يُضمره لي في أعماق قلبه مذ دخلت بيتكم حتى اليوم، وما أذنبت إليه ذنبًا ولا أسلفت عنده جريرةً، فهو يُؤثر أن يحرم نفسه وبيته ذلك الشَّرف العظيم الخالد على أن يراني جالسةً على العرش بجانبك أستظلُّ بظل نعمتك، وأشاركك في التمتع بمجدك وسلطانك، فقاطعها الأمير وقال لها: لا تُصدِّقي يا بازيليد شيئًا مما يقولون، فقسطنطين أبرُّ بي وأعظم حبًّا وإخلاصًا من أن يعترض سبيل رغبةٍ يعلم أني أرغبها وأصبو إليها، ولا أعلم أنه يبغضك أو يضمر لك في نفسه شيئًا من الشر الذي تذكرين، بل هو يحترمك ويجلك إجلاله إياي، ويحب لك من الخير ما يحب لي ولنفسه، ولا يُؤثر على مرضاتنا شيئًا.
وكذلك ظلت ميلتزا تسمع أمثال هذه الأحاديث فتعلمُ منها ما يدور بنفسَيْ هذين الشَّخصين الطامعين، وتعلم أن هذا الذي يدور بنفسيهما إنما هو علة ذلك الهم الذي يعالجه قسطنطين في أعماق قلبه ويكابده، ولكن لم يخطر ببالها مرةً أن تنقُل إليه شيئًا مما سمعته؛ إعظامًا له وإجلالًا، وضنًّا بنفسها وبأدبها أن تُفاتحه في أمرٍ لم يشأ هو أن يُفاتحها فيه.