الضمير
مضى الليل إلَّا قليلًا وقسطنطين ساهرٌ في فراشه لا يغمض له جفنٌ، ولا يطمئن له جنب؛ لأن مصرع أبيه في شِعْب «تراجان» لا يزال ماثلًا أمام عينيه ما يفارقه لحظةً واحدة، وكان كأنه يرى الجثَّة بين يديه تتلوَّى وتتمرمر وتنظرُ إليه نظرات حادة ملتهبة، وكأن جُرحها الدامي بين أضلاعها لا يزال يتدفق منه الدم، فثار من مكانه هائجًا مذعورًا، وحاول أن يطرُد هذا الخيال عن نظره فلم يستطع، فمد يده إلى ذلك الجرح الموهوم الماثل أمامه يُريد أن يعترض سبيل الدم المتدفق منه فغلبه على أمره، وازداد في تدفُّقه وانبثاقه حتى ملأ أرض الغرفة جميعها، وصبغ بلونه الأحمر القاني جميع ما فيها من فُرُشٍ وأثاثٍ وآنيةٍ وثياب، فاشتد فزعه وارتياعه، ولم يستطع أن يحتمل أكثر مما احتمل، فوقع مغشيًّا عليه.
وظل على ذلك ساعة حتى انفثأت حرارة دمه، فاستفاق من غَشْيته وجلس إلى نفسه يناجيها ويقول: إنني على ثقةٍ من نفسي، لم أفعل إلا ما يجب على كل رجلٍ شريفٍ أن يفعله، فما هذا الخوف الذي يساورني؟ وما هذه الصور المخيفة التي تتراءى لي في يقظتي وأحلامي؟ كان يجب عليَّ أن أضرب؛ لأنه ما من ذلك بُدٌّ ففعلت، فلِمَ أرتاب في عَمَلي! ولم أرتعد ارتعاد المجرمين الآثمين؟ إن الرجل لا يخاف إلا ذنبه، وأنا لم أذنب إلى أحدٍ؛ لأن الرجل الذي قتلته كان يريد أن يقتل أُمةٍ بأسرها فأنقذتها بقتله، بل أنقذتُ عشرين أُمَّة من أمم المسيح في أوروبا؛ ألا يجوز للإنسان أن يقتل الأفعى دفعًا لأذاها، والوحش كسرًا لشرته، واللص اتقاءً لضرره؟! إنني لم أفعل غير ذلك، فما لي أرى وجه السماء أحمر قانئًا ليله ونهاره، وما لي أجد مذاق الدم في كل كأسٍ أشربها من ماءٍ أو خمر، وما لي لا أستطيع النظر إلى يدي خَوْفًا ورُعبًا! إنني لم أقتل أبي، ولكني أحييتُه؛ لأنه إن كان يحيا اليوم في قلوب الناس حياة العظمة والمجد، وكان تمثاله إلهًا معبودًا يطيف به الشعب، ويقبل أركانه، ويتبرك بلمسه واستلامه، وكان اسمه طُغْراء الأسماء الشريفة المسجَّلة في التاريخ، فإنما ذلك بفضل الضربة التي ضربته إياها، ولولا ذلك لعاش بقية أيام حياته عيش الأدنياء الساقطين، أو مات موت الخونة المجرمين.
وهنا انتفض واصفرَّ وارفضَّ جبينه عرقًا، وقال بصوتٍ ضعيفٍ مختنق: نعم، إن ذلك كله صحيحٌ لا ريب فيه، ولكنني قتلتُ أبي!
ثم لم يلبث أن عادت إليه مخاوفه ووساوسه، فرأى الجثة والمصرع، والطعنة النجلاء، والدَّم المتدفِّق، وسمع تلك الأصوات التي تهتف به في كل مكان: «يا قاتل أبيه! يا أكبر المجرمين! يا عار البشريَّة وشنارها!» فجُن جنونه، وثار ثائره، وعادت له سيرته الأولى.
ولم يزل هكذا ليله كله، يهدأ حينًا ويثور أحيانًا، حتى نشر الفجرُ رايته البيضاء في آفاق السماء، فاستروح رائحة الأنس، وشعر ببرد الراحة، فأوى إلى مضجعه.
كذلك كان شأن قسطنطين دائمًا، وكذلك كانت أكثرُ لياليه مذ حدث ذلك الحادث العظيم.