الفصل الأول
في ربيع سنة ١٨٩٠ كان الإمبراطور فرنسوا جوزف ملك النمسا والمجر مستلقيًا في مقصورته الخاصة على مقعدٍ من الدِّمَقْس، وكاتِب سرِّه فون شلر ينتظر في غرفته الخارجية طنين الجرس الكهربائي لكي يلبِّي أمر سيده في الحال، فيدخل ويدفع إليه أوراقًا ويتناول منه أوراقًا. ففي إحدى الدفعات أمره الإمبراطور أن يستدعي وزير الحقانية في الحال.
وما هي إلا دقائق معدودة حتى وافى الوزير والتمس أمر ملكه، وكان الإمبراطور لا يزال يقرأ ورقًا بين يديه، فاستمر يقرأ إلى أن انتهى، ثم رفع نظره إلى الوزير وهو يضرب بقفا كفه على الورق الذي في يده، وقال: ماذا فعلتم بقضية شاب شراط هذا؟
– أظن الجلسة غدًا يا مولاي؟
– تظن؟ والقضية ضد متطاول على التاج!
– مولاي إن جهلي ميعاد القضية لا يدل على قلة اهتمامي بها، وإنما لا يخفى على جلالتكم أن تعيين مواعيد القضايا مختص بالمحكمة، والذي أعلمه أن ميعادها غدًا، ومخافة أن أكون مخطئًا أقول أظن.
– وما ظنك في الحُكْم على الجاني؟
– وماذا يكون الحكم بغير العقوبة القصوى على مَن تَبْلُغ به القحة أن يتطاول على مقام جلالة الإمبراطور السامي بقول هراء؟
– وما هي العقوبة القصوى؟
– العقوبة على مَن يقذف باسم جلالة الإمبراطور الأعظم الأشغالُ الشاقة من ٣ سنين إلى خمس، وسيكون الحكم بالسنين الخمس على شاب شراط.
– وهل البيِّنات موفورة؟
– عندنا عدد ممَّن سمعوا خطاب ذلك الوقح.
– إذن فَلْيكن الحُكْم عشر سنين بالأشغال الشاقة.
فازدرد الوزير لعابه وقال: مولاي، إن ذلك الوقح الخسيس يستحق الموت، ولكن القانون …
فعبس فيه الإمبراطور قائلًا: أنا القانون.
– ونحن نخضع لهذا القانون، فهل يأمر جلالة الإمبراطور بإصدار أمر عالٍ بتعديل المادة؟
– عجبًا عجبًا، تناقشني في مسألة خاصة بي، الحكم سيصدر باسمي في قضية ضد متواقح على تاج النمسا، فيجب أن يكون شاب شراط عِبْرة لمَن يعتبر.
فانحنى الوزير لدى الإمبراطور بكل إجلال، وخرج مكفهرًّا، وبقي الإمبراطور وحده يفكر ويقلب بعض الأوراق، وبعد بضع دقائق ضغط على الزر الكهربائي فدخل كاتب السر ودفع إلى الإمبراطور بعض الأوراق وتناول منه بعضًا آخَر. وأول ما وقع عليه نظر الإمبراطور بطاقة مذهَّبَة الحواشي باسم مدام آلدار فون كيس، فسأل كاتب السر: ما شأن هذه المرأة؟
– ترجو يا مولاي أن ترفع بنفسها إلى مقامكم السامي عريضةَ استرحامٍ، وهي تنتظر صدور أمركم الكريم بقبول امتثالها.
ففكَّر الإمبراطور هنيهة ثم قال: دَعِ السيدة تنتظر في البهو.
– سمعًا وطاعةً.
وخرج الكاتب وبقي الإمبراطور يقلِّب الأوراق، ثم جعل يقلِّب البطاقة الذهبية والرائحة العطرية تنبعث منها، وبعد دقائق نهض وتمشى في غرفته إلى أن بلغ مدخل البهو، وأزاح الستار قليلًا؛ فلمح امرأة كأنها البدر على غصن يرتجف تحت خطرات النسيم، فأشفق على اضطراب المرأة ووجلها قبيل مقابلة الملك الذي تخفق لهيبته القلوب، ولما رآها قد لمحته تقدَّمَ، فتقدَّمَتِ المرأة خطوتين وهي تتداعى تحت ثقل الرهبة، حتى لم تَعُدْ تحملها ساقاها، فارتمت جاثية ورفعت يديها بورقة ملفوفة كالدرج ولم تنبس ببنت شفة. فألقى الإمبراطور يده على كرسي وقال: إنك يا امرأة في حضرة ملك عادل، فما هي ظلامتك؟
فأجابت بصوتٍ خافت متهدج: مولاي إني أخاف من العدل، وأرجو الرحمة وجلالتك رحوم وعادل معًا.
– ماذا تريدين؟
– أتوسل إلى رحمتك أن تعفو عن أخي، فما هو مذنب وإنما طيشه ونزقه مذنبان. فارحمه لكي يتعلم من رحمتك أن يكون حكيمًا وعاقلًا.
– مَن هو أخوكِ؟
– هو شاب شراط النادم المستغفِر، وجلالتك أولى بالمغفرة والصُّفْح.
فتقدَّمَ الإمبراطور خطوة واحدة وهو يبتسم، وأمسك تلك اليد العاجية التي ترفع العريضة ورفعها، فارتفعت المرأة معها وهي لا تزال ترتجف، وقال لها: لقد أجبتُ الْتِمَاسَكِ يا سيدة، وأنتظر أن تقدِّمي لي شكرك في حينٍ آخَر.
فانحنت المرأة لديه حتى كادت تبلغ الأرض، وتراجعت إلى الوراء، والإمبراطور عاد من حيث أتى وهو يفكر باسمًا متهلِّلًا.
بعد يومين جاء وزير الحقانية والتمس الامتثال لدى الإمبراطور، ولما وقف بين يديه دفع إليه صحيفة وقال: هذا نص الحكم على شاب شراط بالأشغال الشاقة عشر سنين يا مولاي.
فتناول الإمبراطور الحكم وتلاه، ثم تناول قلمًا وكتب تحته: «لقد عفونا عن شراط.» ووقَّعه بإمضائه ودفعه إلى الوزير، فلما اطَّلَع الوزير على الكتابة بُهِتَ ونظر إلى الإمبراطور مستغرِبًا، فابتسم الإمبراطور قائلًا: أجَلْ، يجب أن يعرف الناس أن قضاءهم صارم وأن إمبراطورهم حليمٌ رحيم، فأصدرْ أمرك بإخراج شراط من السجن في هذه الساعة.
فانحنى الوزير وخرج مدهوشًا.