الفصل الخامس عشر
وبقيت الإمبراطورة بعد ذلك صامتة وهي تضطرب وتغلي غيظًا إلى أن وقف الأوتوموبيل أمام دائرة البوليس، ففتح أحد الرجلين باب الأوتوموبيل (إذ كانا راكبين مع الحوذي)، وقال: تفضلا يا سيدتَيَّ.
فخرجت صاحبة المنزل، وأما الإمبراطورة فقالت: ادْعُ الهر روفر إلى هنا حالًا.
– ليس في وسعنا أن نطلبه إلى هنا يا سيدتي فتفضَّلِي إليه.
فقالت غاضبة: قُلْتُ لكَ …
– لا فائدة من المناقشة يا هذه، نحن آلة في يد سلطة الحكومة، وليس في وسعنا إلا تنفيذ الأوامر. فمتى مثلت لدى روفر …
– صه صه لا تزد، يسرني أن يكون رجال حكومتنا متشبثين بالقوانين وبالأوامر، إني ماثلة لدى الهر روفر.
ثم وثبت من الأوتوموبيل وأسرعت إلى مكتب مدير البوليس، ورفعت النقاب (الفوال) عن وجهها، فلما رآها الهروفر وإلى جانبيها البوليسان السريان، ووراءها المرأة الأخرى صاحبة المنزل انتصب واقفًا وانحنى، ونظر في الرجلين عابسًا وارتبك لا يدري ماذا يقول، ولكنه قال بعد هنيهة: أَخْرِجَا تلك المرأة من هنا. فأخرجا المرأة صاحبة المنزل وعادا، وأما الهر روفر فقال: عفو جلالتك إني رهن أمر جلالتك، فهل تتعطفين بالجلوس، لا أدري كيف حصل هذا الشرف اليوم، هل من أمر يهم جلالتك؟
والتبس الحادث على الهر روفر، ولم يَعُدْ يدري كيف يتصرف، وكان ينقل نظره بين الرجلين اللذين أصبحا أخبلين، فقال أحدهما: لقد تلفنت إلى سعادتكم …
– ويلاه لم أستطع التصديق، بل اعتقدت تمام الاعتقاد أن المتهمة تهول منتحلة مقام جلالة الإمبراطورة لكي تتخلص. عفوًا يا صاحبة الجلالة كيف ذلك؟ أرجو من جلالتك التفضل بالجلوس، إني …
فقالت الملكة مكتمة غيظها: أود البحث الآن عن امرأة تزعم أنها الكونتس ألما فورتن.
– من غير بدٍّ تقع في يدنا اليوم إذا كانت جلالة الإمبراطورة تعطينا المعلومات اللازمة، إذا كانت جلالة الإمبراطورة تعود إلى البلاط فأتشرف بالمثول لتلقي معلوماتها، إن البارونة برجن هنا تكون في معية جلالتك إلى البلاط، وإذا أمرت فثلة من فرسان البوليس يخفرون جلالتك.
– البارونة هنا؟ وماذا تفعل؟
– نعم هنا، وقد شرفت لأمر.
عند ذلك دخلت البارونة مدهوشة وقالت: إذا شاءت جلالتها فلا يَبْقَ أحد هنا غيرنا.
عند ذلك دفع الهر روفر الرجلين بصدره إلى الخارج وأقفل الباب وراءه.
أما البارونة فكانت تضطرب وترتجف غيظًا ووجلًا في وقتٍ واحد، وقالت: مولاتي، مولاتي، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ وكيف جئت؟
أما الإمبراطورة فازدادت حيرتها وقالت: لا أدري أن البلاط امتلأ دسائس ومكائد. أما كيف جئتُ إلى هنا، فكمجرمة أشنع جرم، لا أدري كيف يجسر السفلاء أن يجروا أهل العرش إلى دائرة البوليس؟ وأنتِ ماذا تفعلين هنا؟
فلطمت البارونة برجن خدها وقالت: يا ويلتاه! إني يا مولاتي خبلاء لا أفهم شيئًا، إني هنا أنتظر أن أشاهد بعيني انتصاري في الحرب لأجلك يا عزيزتي، ولكن ليس هنا مكان الاستفهام والتفاهم، أرجو أن تأذني بعودتنا إلى البلاط حالًا، وهناك …
– بل أريد البحث حالًا عن المدعوة الكونتس ألما فورتن.
– الكونتس، يا لله يا للخيانة! ماذا … بل دعينا الآن نعود إلى البلاط يا مولاتي، لا يجوز أن نبقى هنا.
ثم فتحت البارونة برجن الباب وأومأت إلى الهر روفر، فدخل فقالت: استدعِ أوتوموبيلًا موافقًا في الحال.
– وحرسًا؟
– كلا البتة، لا تريد جلالتها أن تعدل عن تنكُّرها.
وكانت البارونة تضطرب ووجهها يحمَرُّ تارةً ويصفرُّ أخرى، وعند ذلك قُرِع جرس التلفون بحدة، فأسرع الهر روفر إلى التلفون كالمجنون ووضع بوقه على أذنه وقال: مَن؟
فأجاب القائل: الإمبراطور.
فاختلج الهر روفر، وفي الحال بسط يده إلى جانبه وقال مضطربًا: جلالتكم؟ أمر جلالتكم.
– مَن عندك الآن؟
فالتفت روفر إلى الإمبراطورة كأنه يستفتيها ماذا يجب، فإذا هي والبارونة برجن مكفهرتين ولم يكن ليستطيع مهلة في الرد فقال: إن جلالة الإمبراطورة هنا بالصدفة يا صاحب الجلالة.
– إذن فَلْتنتظر الأوتوموبيل الإمبراطوري، ففي دقائق معدودة يصل إلى جلالتها.
– سأرفع إلى مقام جلالتها إرادة جلالتكم حالًا.
وكانت الإمبراطورة صفراء كالسعفران، والبارونة إلى جانبها في اضطرابٍ لا مثيل له، فأومأت إلى روفر أن يخرج فخرج، فقالت الإمبراطورة: يا لها من مكيدة هائلة! إذن الإمبراطور يعرف.
– لا، لا يا مولاتي، إن جلالته يجهل كل شيء، ولكن الذين لعبوا الدور أتقونه إلى النهاية، يا لهم من سفلة!
وما هي إلا لحظة حتى كان الأوتوموبيل أمام دائرة البوليس، فركبت فيه الإمبراطورة والبارونة مرثا برجن، وفي دقائقَ معدودة كانت الإمبراطورة في خدرها والغضب مخيِّم على وجهها، والبارونة برجن ماثلة لديها، فقالت البارونة: إلى الآن لم أفهم جيدًا كيف حدث ذلك.
– ولا أنا فهمت لماذا كنتِ في دائرة البوليس، كأنكِ كنتِ تنتظرينني يؤتى بي كامرأة ساقطة إلى هناك؟
فرجفت مرثا برجن وقالت: ويلاه ويلاه! لا أكاد أصدِّق مع أسمع. كيف ذلك يا عزيزتي، إني أفديك بنفسي وأنتِ تعلمين، لقد فهمت منك أن المدعوَّة الكونتس ألما فورتن لعبت عليك دورًا فظيعًا.
– يا لها من خائنة! لا أدري كيف جسرت أن تلعبه.
– إن وراءها يا مولاتي تلك اللعينة التي …
– كفى كفى، إني شاعرة بعزم الضربة … أما تلك الخائنة فقد نسجت عليَّ حيلة لم ينسجها إبليس، فقد أوهمتني أن الدوقة هنريت روش هنا في حالةٍ يُرثَى لها.
– الدوقة هنريت روش؟
– أجل، هل تعرفين عنها شيئًا؟
– أعرف أنها ماتت منذ عشر سنين.
– يا لله! يا للمكر! لقد أوهمتني تلك المرأة الخائنة أن الدوقة موجودة هنا مقعدة، وأنها مكسورة الخاطر وتود أن تراني لتتعزى بي، وأنها لا تريد أن يعلم أحد سواي أنها هنا، وأنها في فاقة؛ فذهبت متنكرة والتقيت بالمدعوة الكونتس ألما فورتن حسب وعدي لها، ثم أخذتني إلى منزلٍ في شارع البرتو.
فلطمت البارونة خديها قائلة: يا ويلتاه في شارع البرتو؟ وأظن في المنزل نفسه.
– أي منزل؟ إذن تعرفينه؟
– نعم أعرفه، ثم ماذا يا مولاتي؟ أسمع قصتك ثم أفسِّرها لكِ.
– فدخلتُ إلى المنزل وانتظرتُ في مخدعٍ ريثما تبلغ الكونتس الدوقة، فدخلت في باب ولم تَعُدْ منه، ولما استبطأتها ورُمْتُ الخروج، دخل عليَّ رجلان فهمت منهما أنهما بوليسان سريان يبحثان عن امرأة، ولما لَمْ يَرَيَا سواي أخذاني بالرغم من احتجاجي عليهما، حتى اضطررت أن أعلمهما أني الإمبراطورة، ولما لم يصدِّقَا اضطررت أن أذهب معهما إلى دائرة البوليس، وما بلغت إليها حتى كنتُ قد علمتُ من صاحبة المنزل التي كانت مأخوذة معي أن المنزل منزل سري، فتأملي …
– ويلاه ويلاه، إن هذه المكيدة لهائلة!
– إني أطلب معاقبة كل مَن له أصبع فيها.
– مولاتي اسمحي لي أن ألومك؛ لأنكِ كتمتِ عني خبرَ هذه الزيارة، وأنا مستودع أسرارك.
– ظننتُ أني أحرص على كرامة دوقة، وأنا سليمة الطوية ولم يخطر في بالي أن أحدًا من الناس يجسر أن يلعب عليَّ دورًا فظيعًا.
– آه لو أخبرتني في الأمر لنجوتِ من المكيدة، وهَبِي أن لا مكيدة فاطِّلَاعي على سرٍّ كهذا لا يحط من كرامة مَن تتوهمين وجودها.
– وأنت لم تخبريني ماذا كنت تفعلين في دائرة البوليس؟
– كنتُ أحارب لأجلك، أما قلتُ لكِ أني أحارب عدوتك وسالبة سعادتك؟
– ولكن لماذا لم تخبريني شيئًا عن هذه الحرب؟
– لأني أعلم جيدًا أنك تمنعينني عنها، فكتمتها عنك لكيلا تقفي في سبيلي، ولكيلا تتخدش طهارتك من معرفتها، ولكن واأسفاه! إن الفخ الذي نصبتُه لتلك الخصيمة اللعينة وقعتِ فيه أنتِ، فقد دبَّرْتُ مكيدةً للقبض عليها وهي في بيت سري، حتى متى بلغ الخبر إلى جلالته غضب عليها ونفر منها، وربما عاقبها شر عقاب وطردها من البلاد.
فأجفلت الإمبراطورة وقالت: ويحك!
فهزت البارونة برجن رأسها وقالت: أما قلتُ لكِ يا مولاتي أني لو أخبرتك بذلك لمنعتني.
– بالطبع أمنعك؛ لأني لا أريد محاربة الشر بالشر.
– ولكن هذه المكيدة لو نجحتْ لما حطَّتْ من مقام تلك الممثلة؛ لأنها طالما أقامت في مثل ذلك المنزل، وإنما كانت بغيتي أن يرى جلالته أين مقام مَن احتظاها!
– ويلاه! رباه! أهذا جزاء الأطهرين؟
– كلا يا مولاتي، ولا ذاك جزاء الأشرار، لا أدري كيف انقلبت المكيدة، فلا بد أن يكون في الأمر خيانة، يجب أن أتحَرَّى.
– قبل كل شيء يجب أن أظفر بتلك الخائنة التي تنتحل اسم الكونتس ألما فورتن.
– مهلًا يا مولاتي، لا أستحسن الضوضاء والجلبة في هذا الأمر تنزيهًا لاسمك الطاهر من أن يكون مضغة، فاعتبري أن الأمر لم يكن واتركيني أسير في سبيلي إلى الحرب العوان ضد تلك الفاجرة التي سلبت سعادتك.