الفصل الثامن عشر
في منتصف ذات ليلة كان جَمْعٌ عظيم يتدفق خارجًا من ملعب فولكس في فينا، وهو ملعب فخم يلي الملعب الإمبراطوري في أبهته، وكانت الأوتوموبيلات والمركبات تتسابق إلى بوابة الملعب الكبرى لأخذ السراة إلى منازلهم.
وكانت امرأة في نحو الأربعين من العمر وفتاة في نحو الخامسة عشرة واقفتين تنتظران مركبة أو أوتوموبيلًا، ولكن ما من مركبةٍ أو أوتوموبيل إلا كان له صاحب أو سائق. وكان فتى حسن البزة يتظاهر أنه ينتظر مركبة، ولكنه كان يحاول أن يحتك بهما على أن الفرصة خانته؛ إذ انبرى فتًى آخَر في ثوب ضابط من رتبة ماجور كان يراقبهما إلى أن انصرف معظم الجمع وتقدَّم إليهما وانحنى متلطفًا جدًّا وقال: إن الشرف العسكري يلزمني أن أعرض عليكما خدمتي يا سيدتي، فهل تأمراني أن آتي بمركبة لكما.
فقالت كبراهما: ننتظر مَرْكَبة خاصة، فلا أدري ماذا جرى لحوذينا، لعله نام ولم يستيقظ في الميعاد.
– إذن آتيكما بمركبة.
فقالت الصغرى: لك الفضل، فإني أرى الانتظار مملًّا في هذا الطقس البارد.
وفي دقائق قليلة كان الفتى في مَرْكَبة أمامهما، فترجَّل وصعدت إليها المرأتان، وقبل أن تشكراه قال: لا يليق بي أن أترككما تذهبان وحدكما في هذا الليل مع حوذي لا تعرفانه، فهل تأذنان لي أن أخفركما إلى منزلكما.
فتردَّدت الكبرى في شكره وتعجَّلت الصغرى قائلةً: الحق مع جنابه، والمسافة بعيدة والليل بهيم.
فقالت الكبرى: لا مانع عندنا يا سيدي الأعظم، هذا الدين لفضلك.
فصعد إلى المركبة وجلس بإزائهما وهو يقول: إذا طرحنا هذا الفضل من دين أنسكما أبقى أنا مدينًا.
ثم درجت المركبة حسب إيعاز السيدة الكبرى.
أما الفتى الأول، فلما رأى ما كان استقَلَّ مركبة أخرى ولحق بالمركبة الأولى.
بعد صمت دقيقة قال الماجور: عسى أن تكونا قد سررتما من التمثيل الليلة يا سيدتَيَّ.
فقالت الكبرى: سررنا كسائر الناس.
فضحك الماجور وقال: لم تُجِدْ كاترين شراط كعادتها، ولا ريب أنها خيَّبت مدير الملعب فضلًا عن الجمهور.
– لعل سمنتها عافتها عن الإجادة.
– وتَرْكها التمثيل مدة طويلة أنساها أصول الفن.
– هل تظن يا جناب الماجور أن يكون الإقبال في الليالي التالية كما كان في هذه الليلة؟
– لا ثانية لهذه الليلة البتة.
– لماذا؟
فضحك الماجور وقال: لأنه لم يُؤذَن لها أن تمثِّل إلا هذه الليلة فقط.
– مَن يسيطر عليها؟
– تتجاهلين يا مدام؟ ولا أقول تجهلين؛ لأنه ما من أحدٍ يجهل صِلَتَها بجلالته.
– وهل جلالته يمنعها من التمثيل.
– بالطبع.
– إذن كيف أَذِن لها الليلة؟
– يقال إنها هي توسَّلت إليه أن يسمح، فسمح.
– وما بغيتها من تمثيل ليلةٍ واحدة؟
– مدير الملعب أغراها مبتغيًا أن يتاجر بشهرتها، وقد أطنب في تمداح مقدرتها على أن تمثِّل دور ماريا تريزا، وغرَّها بأنها ستظهر في دورها ملكةً، ومَن لا يحب المُلْك ولو في الحلم.
– إن هذا المدير لداهية.
– بالطبع فقد أقنعها أن الراوية أُلِّفَتْ لأجلها، وأن الشعب يتوق أن يراها ثانيةً على المرسح، وهي تاقت أن تُرِيَ مجدها للشعب.
فضحكت المرأة الكبرى وقالت: وقد رأى الشعب مجد الملكة؟
– أجل رأى الشعب مجد الملكة المغتصِبة حانقًا.
– المغتصِبة؟
– بالطبع مغتصِبة، مغتصِبة حظ الإمبراطورة وحلي العرش، أَلَا يثير ذلك سخط الشعب؟
– وهل تلك الحلي حقيقية؟
– بالطبع، لأن مدام شراط لا تظهر بحلي مزيفة.
– يا لله، إذا كانت تلك الجواهر حقيقية، فكم تساوي؟
– قدَّرَها بعضهم بمليونَيْ كرونن، وبعضهم بمليون.
– عجبًا، لا أظن الإمبراطورة ترضى بأن تُعِير جواهرها.
– بالطبع لا ترضى قَطُّ، ولكن هذه الحلي هدية الإمبراطور لكاترين شراط، ولو لم تُهْدَ لكاترين شراط لَأُهْدِيَتْ لجلالة الإمبراطورة.
– ولكن الإمبراطورة مستوفية الحلي، والإمبراطور حر أن يهدي لمَن يشاء.
– لا لا يا سيدتي؛ لأن المال مال الشعب، وقد سخط الشعب الليلة إذ رأى كاترين شراط تزدان من قمة رأسها إلى قدَمَيْها بالألماس والأحجار الكريمة.
ولو كان في المركبة نور، لرأى الماجور ابتسامات المرأة المتوالية في أثناء هذا الحديث، فقالت ضاحكة: ليت الإمبراطور كان حاضرًا ليبتهج بمرأى جواهره.
– كان حاضرًا يا سيدتي، واكفهَرَّ من سخط الشعب.
– عجبًا، كان حاضرًا؟ لم نَرَهُ.
– كنتما أولى مَن يراه؛ لأنه كان متنكِّرًا في المقصورة المقابلة لمقصورتكما.
عند ذلك شعر الماجور بقدَمِ الصغرى مسَّتْ قدمه، وقالت الكبرى: إذن كنتَ جنابك في مقصورته؟
– عفوًا يا سيدتي، لست ممَّن حازوا هذا الشرف، وإنما كنتُ في كرسي بإزاء مقصورته.
– وكنتَ ترانا كما ترى الإمبراطور؟
– النظر لا يحجب يا سيدتي.
– والإمبراطورة؟
– ماذا؟
– أَمَا كانت موجودة؟
– بالطبع لا تكون؛ لأنها لا تريد أن توجد في مكان لا بد من التنكُّر فيه.
– عجبًا!
– لا عجب فيما هو معروف من فضائل الإمبراطورة.
– إذن تعجب بالإمبراطورة؟
– كل الشعب يعجب بها ويحبها.
– والإمبراطور؟
– مدام! إني جندي خادم الإمبراطور.
– وإذا اقتضى الأمر أن تخدم الإمبراطورة؟
– أخدمها بحياتي أولًا.
– بُورِك فيكَ، لا تجهل أن السيدات في كل مكان يَكُنَّ من حزب ملكتهن.
– بُورِك فيكن يا سيدتي.
– أين نحن الآن يا سيدي؟
فنظر الماجور إلى ما حوله وقال: نحن في آخِر شارع فرنز.
– إذن لا نكلِّفك يا سيدي مسافةً أبعد.
– إني أستلذ مزيد الكلفة يا سيدتي.
– شكرًا لك يا سيدي؛ فإننا على مقربةٍ من منزلنا.
واستوقفَتِ الحوذي، فاضطر الماجور أن ينزل مودِّعًا مُبدِيًا أسفه لعدم تمتعه بالمزيد من أنسهما، وقال: إني أُسَرُّ إذا كنتُ أتلقَّى منكما أمرًا بخدمةٍ أقوم بها لكما.
– نمتَنُّ لك عظيم الامتنان، ونناشدك بالشرف العسكري العظيم أن تعود من هنا تاركًا فضلك العظيم دينًا علينا.
– لا أدري يا سيدتي سببًا لهذه المناشدة.
– إنما أناشدك بالشرف العسكري؛ لكيلا تحاوِل أن تعرف أين مقرنا، أقول ذلك بالصراحة.
– أتأسف عظيم الأسف يا مولاتي أن تحرميني لذة هذه المعرفة عاجلًا.
– أعرف يا سيدي أن التماسي هذا جحود لفضلك، وإنما يعظم فضلك بإجابته.
– إني سيئ الحظ يا سيدتي؛ لأني قطعت الأمل من التشرف بخدمةٍ أخرى أمد بها أجل سروري.
– إذا شئتَ أن تتكرَّم بعنوانك، فلعلنا نستدين منك فضلًا آخَر.
ورفع إليها بطاقته، ثم تقدَّمَ إلى الحوذي يريد أن يدفع له الكراء، فانتهرت المرأة الحوذي ألا يأخذ، ولكن الماجور انتهز الفرصة وهمس للحوذي قائلًا: أنتظر هناك.
ثم درجت المركبة وبقي الماجور يتمشى وراءها، وما هي إلا دقيقة حتى مرت به مَرْكَبة، فلم يفطن لأمرها، وبعد دقائق معدودة عاد الحوذي فسأله عن مقر المرأتين؟ فقال إنهما في منزل لا يبعد عن القصر الإمبراطوري أكثر من ثلث ميل.
فركب الماجور وأمر الحوذي أن يقف بمركبته لدى ذلك المنزل، ففعل الحوذي، ثم نقده الماجور الأجرة فانطلق. أما الماجور فرأى المنزل شِبْه صرح صغير في وسط حديقة صغيرة، وقد رأى أشعة مصابيحه تنبعث من بعض نوافذه، فجعل يتمشى لدى المنزل إلى أن رأى شبحًا واقفًا لدى سور الحديقة، فتقدَّمَ إليه، فإذا هو رجل فسأله: أليس لديك عود ثقاب لإشعال سيكارة؟
فأعطاه ذاك علبة الثقاب، فأشعل الماجور سيكارته، ورأى على نور الثقاب وجه ذلك الرجل، فإذا هو نفس الفتى الذي رآه واقفًا على مقربةٍ من السيدتين أمام الملعب، وفطن إلى المركبة التي كانت تتعقب مركبة السيدتين، وخطر له أن يكون هذا الفتى هو الذي كان يستقلها، فقال له: لعلك تنتظر مَرْكَبة؟
– لا أنتظر شيئًا.
– الطقس بارد.
– لماذا تركت مركبتك إذن؟
– لأني إلى هنا قاصد.
– لعلك فقدتَ شيئًا هنا؟
– أجل، هنا فقدت شيئًا. وأنت؟
– أما أنا فلم أفقد شيئًا. أقول لك لا يليق بنا أن نقف في السبيل، فالأفضل أن ينطلق كلٌّ منا إلى بيته، في أي طريقٍ أنت سائر؟
– في هذا الطريق.
– وأنا في عكسه، فَلْنمضِ إذن.
ومضى الماجور وهو يلتفت إلى ورائه ويرى شبح الفتى الآخَر متباعدًا بتثاقل، ثم سار حول الحديقة وهو يلتفت إلى الصرح، وما صار في الجانب الآخَر حتى التقى بنفس الفتى، فاستمر كلٌّ في سبيله، ودار الماجور إلى أن وصل حيث كان أولًا، فالتقى بنفس الفتى ثانيةً، فقال له: أراكَ كمَن أضاع شيئًا هنا.
فأجابه: ما هذا شأنك. سِرْ في سبيلك.
– هذا سبيلي، فسِرْ أنت في سبيلك.
– هذا سبيلي، فإذا لم تكن قد فقدتَ شيئًا فما معنى أن تحوم حول هذا الصرح؟
– ما شأنك أنت؟
– الشأن شأني، والأفضل لك أن تعدل عن فكرتك.
– أراكَ تتدخل فيما لا يعنيك.
– أنصح لك أن تذهب من هنا ولا تعود أبدًا.
– عجبًا لهذه القحة.
– ليست هذه بقحة، وإنما أريد أن تفهم أنه لا يمكن أن يحوم اثنان هنا. فهل فهمت؟
– فهمت.
ثم انسلَّ الفتى، وما هي إلا دقيقة حتى أُطفِئت أنوار الصرح؛ فعاد الماجور إلى بيته.