الفصل الثاني
في ضحى اليوم التالي دفع كاتب السر إلى الإمبراطور فرنز جوزف بطاقة مدام آلدر فون كيس، فلما رآها الإمبراطور لم يتمالك أن ابتسم ثم قال: قل لهذه السيدة أن تأتي الساعة الرابعة بعد الظهر.
– معها يا مولاي فتى تقول إنه أخوها.
– بل قل لها أن تأتي وحدها ولا داعي لامتثال أخيها.
•••
ولما حانت الساعة الرابعة كانت مدام آلدار كيس ماثلة لدى الإمبراطور فرنز جوزف وهي أربط جأشًا من قبلُ، وقد جمعت في نفسها كل ما عندها من الأبهة والجلال، واستتمت كل ما لها من الحُسْن والجمال. وكان الإمبراطور يبالغ في الابتسام ليُخْفِي ما يبدو من هيبته الرهيبة مخافةَ أن ينفر تلك الحمامة الوديعة.
فأمرها أن تجلس على كرسي في مقربةٍ منه، فكان مقابلًا لجانبها الأيمن؛ ولهذا كانت معظم الوقت ملتفتة إليه إلا نادرًا، ولما جلست قال باسمًا: عسى ألَّا يكون قد راعك حكم المحكمة عند صدوره يا مدام.
– إنه لحكمٌ عادل يا صاحب الجلالة والعدل، لا يروع بل يطأطئ الرأس له احترامًا، وإنما حلم جلالتكم يرفع الرأس للدعاء ويخفق له الفؤاد حبورًا. إن أهل فينا بل بلاد النمسا كلها تلهج اليوم بالثناء على جلالة إمبراطورها الذي يؤدِّب الخطأة من رعيته بالحلم والصفح.
وكان الإمبراطور يتهلل بشرًا وبهجة، فقال: لقد أحسنت في طلب العفو لأخيك يا مدام؛ لأني كنتُ مصمِّمًا على تأديبه في الحبس، لو لم يُثِرْ هذا البهاء في قلبي عاطفة الحلم والشفقة.
فتوردت المرأة وقالت مستقدمة كل ما تستطيعه من اللطف والرقة: إن الحلم والشفقة خلقة في جلالة مولانا الإمبراطور.
– وللغضب مكان حتى في قلب المَلَاك يا مدام، ونحن الرجال أقرب إليه منكن، ولا يطفئ سورة غضبنا إلا رذاذ من ماء جمالكن.
فاكفهرت المرأة قليلًا، وقبل أن تجد جوابًا لهذا القول قال الإمبراطور: أظن زوجك من أسرة معروفة، أظنه من النبلاء، فإني أتذكر اسم كيس.
فأغضت المرأة قليلًا ثم قالت: نعم، إنه من نبلاء هنجاريا المخلصين لجلالة مولاي.
– ولكني لا أذكر أني رأيته في البلاط.
– ربما لم يستحق هذا الشرف العظيم.
– مهما يكن السبب فقد أصبح يستحقه منذ الآن.
– إن تعطفات مولاي سلسلة لا تنتهي.
– إذن أنتظر أن أراكما في التشريفات القادمة.
فصمتت المرأة كأنها حارت ماذا تجيب، فاستغرب الإمبراطور وقال: هل مِن مانعٍ؟
– أجل يا مولاي، إني أخجل أن أقول إن الفون كيس لا يستحق هذه النعمة.
– عجبًا!
– وليس في وسعي أن أبلِّغ إليه بشراها.
– عجبًا، عجبًا!
– لقد هجرني منذ عام يا مولاي.
– السبب؟ السبب؟
– إنه مقامر مسراف، وبدلًا من أن ينفق عليَّ وعلى ولدنا أراني مضطرة أن أنفق عليهما، وأن ألقم فم قماره المفغور على الدوام. أرجو أن يصفح مولاي عن جسارتي في أن أشكو من زوجي، ولكن إذا كنت لا أشكوه إلى ولي النعم ومنصف الجميع، فلِمَنْ أشكوه؟
فظهرت ملامح الغضب على مُحَيَّا الإمبراطور وقال: لا بد أن يكون الفون كيس في منتهى الحمق والطيش، وإلا فلا أفهم كيف يستطيع رجل عاقل أن يُغضِب ملاكًا كريمًا.
فاشتد ازمهرار المرأة واستمر الإمبراطور يتكلم فقال: إني سأبذل جهدي في تقويم عوج هذا الأحمق، وكيف تنفقين عليه يا مدام؟ هل لك مورد تليد؟
– كلا يا مولاي، وإنما لي مورد طريف؛ إني أكسب رزقي باستحقاق.
– تشتغلين؟
– أمثِّل في ملعب «ستات».
فحملق الإمبراطور قليلًا وقال: إذن ممثلة؟
– نعم يا مولاي.
– وأظنك كوكبة الملعب.
فامتقعت باسمة وقالت: كذا يلقِّبني الجمهور، ولكني لا أثق أني أستحق هذا اللقب قبل أن يوافِق عليه جلالة الإمبراطور.
– إني أود أن أراك تمثِّلين في ملعب هوفبرغ الإمبراطوري، أما رآك مديره تمثِّلين؟
– لا بد أن يكون قد رآني.
– أما طلب إليك أن تنضمي إلى جوقته؟
– ربما فعل بأسلوبٍ غير صريح، ولعل الله رامَ أن يكون حصولي على هذا الشرف العظيم بأمر جلالتكم لا باختيار مدير الملعب.
– إذن سأراك تمثِّلين في ملعب هوفبرغ؟
– إن نِعَمَ مولاي متوالية، فلا يمكن أن يشملها شكر وحمد.
– سأوعز إليه أن يطلب مدام فون كيس.
– بل كاترين شراط يا مولاي؛ لأنه منذ هجرني زوجي استعرت اسمي القديم، وبه أنا معروفة عند جماعة الممثلين والجمهور.
– حسنًا جدًّا، وأود أن تحافظي على هذا الاسم اللطيف، إلا إذا كنت ترغبين في إصلاح الأمر بينك وبين زوجك.
وهنا كان نظر الإمبراطور منحرفًا عن جهة الممثلة، ولكنه لمح أنها أطرقت وهي تقول: كنت أود أن يكون علاج هذا الموضوع ناجعًا؛ ولكني جربت كل علاج بلا جدوى، فيعز عليَّ أن يغدق مولاي نعمة نصحه على مَن لا يقدِّرها قدرها.
فابتسم الإمبراطور وقال: ما دُمْتِ غنية عنه فدَعِيه حتى يرعوي من نفسه، وما دُمْتِ ذات صلة بالبلاط فأنت في غنى عنه.
– إن رضى مولاي لهو الغنى، بل هو السعادة التي يحلم بها الكثيرون ويستحقها القليلون، ولكن قد ينالها مَن لا يستحقها أيضًا.
فضحك الإمبراطور قائلًا: كأنك تنتقدين على الإمبراطور وضع الشيء في غير محله، أو أنه يخطئ في منح عطاياه.
فاكفهرت قليلًا ثم قالت: بل أعني أن جلالة مولاي حليم جدًّا يُسبِغ النعمة على مَن يستحقها ومَن لا يستحقها، لكي يبذل غير المستحقها جهده في أن يجعل نفسه مستحقًّا لها.
فقهقه الإمبراطور قائلًا: كأنك تقولين إن الإمبراطور يمنح الجزاء سلفًا.
– كذا كذا يا مولاي.
– إذن هذا جزاء حسناء ملعب هوفبرغ العتيدة.
وأخذ من جيبه علبة يدل ظاهرها على نفاسة ما في باطنها ودفعها إليها، فنهضت حالًا وجثت بين يديه وتناولت العلبة خافقة الفؤاد، فأمسك الإمبراطور فرنسيس جوزف كفها وضغطها وهو يرفعها حتى وقفت معه. فانحنت مدام شراط على كفه وقبَّلتها وهو يضغط بكفيها على صدره، ثم قال: أود أن أرى حسناء هوفبرغ تستحق أكثر من هذه الهدية.
فابتسمت عن ثغرها وقالت: ستبذل حسناء هوفبرغ جهدها في أن تكون أَمَة مخلصة ولائقة للعبودية لجلالة إمبراطورها.